مقالات
تــــاجر كــــلام!
الكتابة - أو حتى مجرد الكلام - في الشأن السياسي المحلي عيب أسود. أما في رمضان فمنكر نكير. هذا ردّي على من يتساءل عن سرّ عزوفي عن ذلك.
والحق أنني - ومنذ زمن بعيد - قررتُ: إذا كتبتُ أو تحدثتُ، سيكون كلامي أو كتابتي عن أيّ شيء وكل شيء... إلاَّ السياسة اليمنية، فلا موضوعاتها ولا شخوصها يستحقون مني أدنى اعتبار أو اهتمام.
وإذن، خاطركم...
.....
نظم أحد أجدادنا -ويُعتقَد أنه أبو دلف العجلي- قائلاً:
"إذا لم تصُنْ عرضاً ولم تخشَ خالقاً
وتستحِ مخلوقاً.. فما شئتَ فاصنعِ".
والسفه ضرب من الجهل فادح. فما تبدّت وقاحة ولا تجلّت سفاهة، إلاَّ وكانت الجهالة منبتها ومنبعها ومذراها ومرواها. فالجهل أُسُّ البلاء كله، ولولاه لاستطاب كل عيش ودين وخُلُق وفعل وقول وصُحبة.
قال صاحب المعلقة الأشهر عمرو بن كلثوم:
"ألا لا يجهلن أحدٌ علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا".
والحياء من شيم وقيم المرء السويّ، ناهيك عمّن يرى نفسه مسلماً صحيحاً أو مؤمناً حقاً. أما من لا حياء له فلا دين له، كما أكد الأولون.
قال أبو موسى الأشعري: "إني لأدخل البيت المظلم أغتسل فيه من جنابة، فأُحني صُلبي حياءً من ربي".
إن الدعوة إلى مكارم الأخلاق هي الجامع المشترك في كل الرسالات العقائدية والاجتماعية والقيمية التي سَرَتْ في جميع الأمم والمجتمعات.
قال أحمد شوقي:
"وإِنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فانْ همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا".
وقد بحّت الأصوات وصلبت الحناجر، وفينا من يصرخ بأن الأخلاق قد فسدت في هذه البلاد، وشرّ ما فسد منها أخلاق أهل القلم والكلمة. وكلما صرخنا قالوا: اخرجوا من البلاد!
وقد بلغ الأمر بالناجين من شرّ الفساد من أهل القلم والكلمة في هذي البلاد أنهم باتوا عرضة لهذا المصير المحزن أو ذاك.. فإمّا عُزل الواحد منهم، وإمّا سُوئل.. وإمّا به قد نُكّل، وإمّا -لعمري- قُتِل. وواقع الحال اليوم شاهد على حقيقة هذا المشهد!
وإننا لنجد السفه مجسداً في كل لحظة، في عديد صحف ومواقع إعلامية، على هيئة أخبار ومعلومات وصور زائفة أو شائهة أو متخيّلة على ما صار يُعرف اليوم بالفبركة التقنية أو الـ"فوتوشوب". وهي أفعال وأقوال دخيلة على الصحافة الحرة والإعلام المسؤول، تبعث على السخرية وتدعو إلى الأسى في آن.
ومما يؤسف له أيضاً في هذا المشهد الأسود، أن جزءاً كبيراً من أدوات وقنوات ووسائل ووسائط العمل الإعلامي أو الوظيفة الاجتماعية للصحافة صارت مجرد سكاكين تنهش في لحم الناس، وتنتهك أعراضهم بصورة بالغة الإيغال في الانحطاط.
لقد تدهور القلم، وتدهورت الكلمة، وتدهورت العدسة من رسالة إلى مهنة، ثم تدحرجت من مهنة إلى وظيفة، ثم انحطّت من وظيفة إلى وسيلة ارتزاق رخيص ومجرد لقمة مغمّسة بأنتن أصناف القذارة!
والله صرتُ أستحي إذا ما سألني أحدهم: أيش تشتغل (بمعنى ما وظيفتك)؟ أن أُجيب: صحافي!
أنا تاجر كلام - أقول لسائلي - والكلام بضاعة كل زمان ومكان .. والتعاطي بها تجارة لا تبور ولا تغور .. والتجارة شطارة ، على عكس السياسة التي هي حقاً دعارة !