مقالات
ثلاثُ ليالٍ بقيتُ ضيفًا على جُنودِ المظلّات
(سيرة ذاتية 13)
كنتُ صباح كلّ يومٍ أذهب إلى الكليّة الحربيّة لأداء امتحانات القبول، وقبل إعلان النتائج بيومين كان المبلغُ الذي جئتُ به من الحُديدة قد تسرَّبَ من جيوبي. حتّى إنني في صباحِ اليومِ الذي ذهبتُ فيه لمعرفةِ النتيجة، ذهبتُ وأنا بلا عشاءٍ ولا صَبوح.
لكنَّ بساطةَ الامتحاناتِ، ويقيني من النّجاح، وشعوري بأنني اقتربتُ من هدفي، أنساني الجوع.
وعندما وجدتُ اسمي بين الفاشلين زَعَلتُ، وزعلتُ أكثر حين عرفتُ أنني فشلتُ في اختبارِ النَّظر. وصحتُ محتجًا:
"ما دخلَ النَّظر؟!"
ولم أكن أعرفُ حينها أنَّ النظرَ والسمعَ ضروريّان لمن أرادَ الالتحاقَ بالكليةِ الحربيّة.
لكن بعد أن عرفتُ أنَّ النظرَ هو سببُ فشلي، أظلمتْ صنعاءُ في وجهي، وحتّى شارعُ "علي عبد المغني" بدا لي مساءَ ذلك اليومِ مُظلِمًا.
ثمَّ إنَّ خلوَّ جيوبي من النقود فاقمَ شعوري بالبرد والجوع والظلام.
ليلتَها طلبتُ من صاحبِ "اللّوكندة" أن يسمحَ لي بالنومِ بالدَّين. ومع أنه سمحَ لي ولم يعترض، إلا أنَّ الجوعَ كان يُفاقِم شعوري بالبرد، والبردُ يزيد شعوري بالجوع، والإثنان – البردُ والجوع – كانا يهُشّان ذبابةَ النعاس كلّما لامستْ عيني، ويحولان بيني وبين النوم.
وفي منتصفِ الليل، وأنا أرتجفُ من البرد والجوع، تذكَّرتُ أُمّي ورحتُ أُخاطبها وأقولُ لها بيني وبين نفسي، والدموعُ تسيلُ على خدّي:
"جِيعان وبَردان يَمَّه... جِيعان وبردان يَمَّه."
كرَّرتُها عدّة مرّاتٍ إلى أن نِمتُ.
وليلتَها نِمتُ نومًا عميقًا على غيرِ العادة، ولشدّة خوفي من الجوعِ الذي ينتظرني في الصباح ويقف لي بالمرصاد، كنتُ كلّما صحوتُ أعودُ ثانيةً للنوم، ولم أستيقظ إلا في العصر.
وبعد أن استيقظتُ، ذهبتُ إلى شارعِ علي عبد المغني، ورحتُ أذرعُ الشارعَ وأتفرَّسُ في الوجوهِ بحثًا عن وجهٍ مألوف.
وقُرابةَ المغرب، أبصرتُ ضابطًا من قريتنا، اسمه عبد الكريم عبد الله أحمد عبده.
وأوَّلَ ما أبصرته، اقتربتُ منه وسلّمتُ عليه.
وكان ضابطًا في قواتِ المظلّات.
ولمّا رآني، سألني عن أخباري، ومن أين جئتُ، وماذا أفعل في صنعاء؟ فأخبرتُه بكلِّ شيء، ما عدا فَشَلي في الكلية الحربيّة.
وأبدى استعداده أن يأتي معي إلى رئيس الأركان "حسين المسوري"، لكنني كنتُ قد مزّقتُ المذكرة وتخلّصتُ منها.
ثم إنّي، بعد فَشَلي في الكليّة الحربيّة، كرهتُ العسكرة، وكرهتُ العودة إلى مدينة الحديدة، حيث الدِّفء والراتب والوظيفة.
ولم تَعُد الحديدة تعني لي شيئًا بعد موتِ خطيبتي "تَغريد".
يومَها، اختطفني الضابط عبد الكريم من شارع علي عبد المغني، وقال لي:
"أنتَ ضَيفي، وضيف جنود المظلات، ولن نسمحَ لك بالمغادرة إلا بعد ثلاثةِ أيّام."
ومعه صعدتُ إلى جبل نُقُم، وكان هو وجنودُه في الموقع يُسمّونه "جبل الصمود".
وهناك، في الموقعِ الذي ترابطُ فيه كتيبتُه، تعشَّيتُ فولًا و"كُدَمًا" مع الجنود. شبعتُ بعد جوع، وبعد أن انتهينا من العشاء، استلقى الضابط عبد الكريم فوق سريره الميداني، وقال لي معتذرًا: إنَّه حين يهبطُ إلى المدينة في إجازةٍ لا ينام بما يكفي. ثم أشارَ إلى سريرٍ ميدانيٍّ آخر لأنامَ فيه.
ولأنني كنتُ قد نِمتُ إلى وقت العصر، لم تكن بي رغبةٌ في النوم، فرحتُ أسمر مع الجنود على ضوء القمر وأضواء النجوم.
وجلستُ أُصغي إلى أحاديثهم عن المعارك التي خاضوها دفاعًا عن الثورة والجمهورية.
ليتهم كانوا قد شربوا الشاي الأحمر لينتعشوا أكثر، لكنهم فرحوا بحضوري، وفرحوا أكثر عندما قلتُ لهم إنّني عسكريٌّ مثلهم، وإن كنت لم أخبرهم أني فشلتُ في الكلية الحربية.
ولمّا راحوا ينبشون ذاكرتي بأسئلتهم، انفجروا ضاحكين من رحلتي القصيرة في الحياة.
وقال لي أحدُهم، وهو يواصل الضّحك:
"أنت خَرّاط!" – أي أني أختلق أحداثًا من خيالي، ولا صحة لها.
وفيما هم يضحكون من حديثي عن التجارب التي عشتُها، أبصرتُ جنديًّا يجلس بعيدًا عنهم، صامتًا وحزينًا، لا يُشارك في الحديث ولا في الضّحك.
وحين سألتُهم عن سبب صمته وحزنه، قالوا: إنَّ الفتاةَ التي كان يُحبُّها في قريته تزوّجت، ومنذ أن جاءه خبرُ زواجها وهو في حالة حزنٍ وصمت، وقد حاولوا إخراجه من حالته دون طائل.
وبعد أن سمعتُ حكايتَه، نهضتُ وسرتُ ناحيته، وجلستُ بجانبه أُكلّمه وأُواسيه.
ولما عجزت عن إخراجه من صمته وحزنه، رحتُ أُحدّثه عن خطيبتي "تغريد"، وكيف أنها ماتت بالكوليرا.
لكنه لم يتجاوب معي، وظلَّ متشبّثًا بصمته وحزنه.
ثم حدّثتُه عن بنت قريتي، تلك التي وقعتُ في حبّها ووقعتُ من فوق الحمار بسببها وانكسرت رجلي.
ولحظتها، ضحك الجندي العاشق والحزين، وتكلّم بعد صمت، وراح يسألني عن قصّة وقوعي من فوق الحمار، ولماذا كانت حبيبتي هي السبب.
فقلتُ له:
"في مغربِ ذات يوم، طلبتْ مني أمي أن أذهب وأحضر حمارنا الذي كان يرعى في الجبل. فذهبتُ، ووثبتُ فوقه، وكان عاري الظهر. وفي طريقِ عودتي، أبصرتُ حبيبتي على سقف دارِها المُشرِف على الطريق. وعند مروري من تحت بيتها، أردتُ أن ألفتَ انتباهها وأُثير إعجابها، وحتى أُثبتَ لها أنّني فارسٌ وخيّال، رحتُ أنكأ بالعصا جُرحًا في مؤخرة الحمار، لأجبره على زيادة سرعته. لكنَّ الحمار، من شدّة الألم، زعل مني وأعلن غضبه علي، وألقى بي إلى الأسفل، فوق حائط حقلٍ مُسيَّجٍ بالشوك والحجارة."
وقلتُ له:
"بعد أن طرتُ في الهواء، طارت فوطتي، وانكشفت عورتي، وبعد وقوعي، انغرزت الأشواكُ في مؤخّرتي. ثم، وأنا أحاول النهوض، تبيّن أن رجلي انكسرت، ولم أعد أستطيع الوقوف من شدّة الألم، فضلًا عن السير."
وكان الجندي الحزين يضحكُ من قلبه على مأساتي، ويواصل الضحك.
ثم قلتُ له:
"إنّ حبيبتي تلك، بمجرّد أن سافرتُ إلى عدن، نسيت حبّي لها وتزوّجت ابنَ عمّي، الذي يكبرها بعشر سنوات."
وكان هدفي من حكايتي تلك أن أُشعره أنّه ليس الوحيد الذي تركته حبيبته وتزوّجت رجلاً آخر.
وعند عودتي إلى مجلسهم، قالوا لي وهم في حالة استغراب:
"قُل لنا: أيش هو الكلام اللي قلتَه له، لَوما خلّيته يضحك؟!"
ولمدّة ثلاث ليالٍ، بقيتُ ضيفًا على جنودِ المظلّات في "نُقُم" — جبلِ الصمود.
وفي تلك الليالي المُقمِرة، كانت ضحكاتهم وقهقهاتهم هي ذخيرتَهم بعد انتصار الثورة والجمهورية، وكانت تنفجر مثل قنابل صوتية.