مقالات
حالة غثيان
ليست ثمة أبعاد في تلك اللوحة البارزة في وجه الجدار المُبلَّل بدموع أُمٍّ جاء العيد وولدها الوحيد والقتيل يبحث عن قبر ولو في مكان قفر.
هناك - ربّما - بُعْدٌ واحد فقط: الوَضاعة في أنْتَن تجلياتها، أو البشاعة في أمْقَت تحولاتها. فحين يغدو الوطن لوحة جدارية على قارعة التِّيْه، تذوب الأبعاد كلُّها، وتنتفي أيّة قاعدة تُؤرِّخ لساعة الميلاد، وأيّ قانون يُشرِّع لحالة الموت.
إن الأبعاد هي نفسها في كل الأحوال، تجدها في الفيزياء أو تراها في الفن، غير أنها في السياسة تغدو بؤرة الانحطاط.
{اتصل بي صديق منحطّ سياسياً، منذ أسابيع قليلة، ليسألني عمّا إذا كنتُ أقصده شخصياً في مقالي المنشور هنا حينها؟ .. سألته بدوري عمّا إذا كان يرى نفسه المقصود في ذلك المقال؟ فأنهى المكالمة. لقد عرف الإجابة}.
السياسيون هم آخر ما تبقَّى من صلصال الخلق، فبالضرورة أن يكونوا على ذلك القدر من الانحطاط. حتى غُلاة المثقفين فيهم يصبحون أحقر من كلاب الشوارع وقطط المقابر لحظة أن يضعوا مؤخراتهم الرَّخوة على المقاعد الرطبة الباردة.
إن المثقف، الذي يضع نفسه في موضع السياسي، يكتب صكَّ بيعه في سوق النّخاسة.. أما السياسي الذي يتمثَّل التموضع في موضع المثقف، فهو يكذب على نفسه.. وعلينا.. وعلى الله شخصياً!
ولازلت أتذكّر وجه واسم ذاك الكائن الذي كان يُحاضرني - في مناسبات مختلفة - عن سموّ الوطن وجلال الوطنية. كنتُ أدري أن يوماً سيأتي أجدُ فيه هذا الكائن قد نسيَ ما كان يقول، وعرف ما صار يفعل. وقد انطبق عليه قول ذاك الذي لم أعد أذكر اسمه أو صفته: "إن الوطنية هي آخر ملاذ للوغد".
إنني أعود بذاكرتي إلى الوراء قليلاً، ثم كثيراً، فأُصاب بالدُّوار .. بالصداع الشديد.. وبالغثيان، غثياني أنا في هذا الوطن، لا غثيان جان بول سارتر.
أقسم أنني لقيته ذات أصيل يتمخطر في إحدى جنبات شارع حدّة، منتعلاً حذاءً إيطالياً فاخراً.. فما عدتُ أدري: أ هو ينتعل الحذاء أم العكس؟
وخلال الأسابيع القليلة الماضية رحل عن الدنيا عدد ممن أحب أو أحترم، فلم أستطع البكاء، ولم أستطع الكتابة، ولم أستطع حتى الشعور بالحزن. لقد ماتت مسامات الإحساس كلها في داخلي. صار الشعور بالحزن كالفرح، لا وجود له.. واستوى مرأى السواد والبياض، ومسمع الغناء والنحيب، وملمس الزهرة والشوك، ومقام الأمل والألم.. كل ضدٍّ كضدّه، كأنَّ الحياة والموت حالة واحدة!
وهذا لا يحدث إلاَّ في هذي البلاد، وفي هذه الأيام التي امتدت لسبع سنوات عجاف.