مقالات
خواطر لا تسُرُّ الخاطر
منذ زمن بعيد، كتبتُ عموداً توقَّعت فيه رحيل الشاعر العربي الكبير مظفر النواب والروائي العربي القدير إسماعيل فهد إسماعيل في غفلة أو تغافُل من الجميع. وقد رحل إسماعيل بالفعل بعدها، وبقيَ مظفر ينتظر الموعد الداهم على حين غرَّة في أية لحظة تحت وطأة المرض الأخبث وأثقال ما بعد الثمانين.
ومما قلتُ حينها: غداً، سيموت مظفر النوّاب أو إسماعيل فهد إسماعيل..
ستنهال القصائد والأعمدة شلالات على صفحات الصحف والمواقع الاليكترونية.. والجميع سيتذكّرهما فجأة، مثلما نسيهما فجأة..
غير أن أحداً -طوال هذا الزمن- لم يسأل قط:
- أين هو النوّاب؟... أو: كيف حال إسماعيل؟
نحن أُمّة بلا ذاكرة.. بلا عرفان.. وبلا توقير لأهل الفضل في قلم أو لسان أو ضمير أو يد أو مدد بُذل من أجل خير الأُمّة!
وأقصد -هنا بالذات- المثقفين، لا العوام.
وسمعني صديق أُردّد أبياتاً للنوّاب، فإذا به يسألني: ألا يزال النوّاب حياً، أم قد مات؟
وقبل أكثر من ربع قرن، دلفتُ إلى مكتبة عامرة أنيقة في عاصمة عربية عريقة، وسألت صاحبها: هل لديك ديوان الفيتوري؟
وقد سمعت الرجل يشهق قبل أن يجيبني مدهوشاً: يا إلهي.. لم أعد أسمع بهذا الاسم منذ زمن بعيد بعيد!
...
ويوماً إثر يوم، يتقاطر إلى حيث لا عودة عديد من رموزنا الثقافية والإبداعية والفكرية والأكاديمية، ممن طحنهم الفقر قبل المرض، ودهسهم الإهمال قبل الفاقة، وأذلَّتهم الحكومة قبل المجتمع، فإذا بهم يرحلون كالفراشات في أتون النار التي تحيلهم إلى رماد يُلقى في العدم هباءً منثورا.
ويوماً إثر يوم، نروح صارخين بهلع ويأس: أنقذونا، ولا من مُجيب أو مُغيث.. وليست الآذان صُمَّتْ ولا العيون عَمِيَتْ ولا الأيدي شُلَّتْ، إنما هي ضمائر المسؤولين الفاسدين قُبِرَتْ في أسفل سافلين، وإنما هي مؤسسات سياسية وثقافية وأكاديمية صارت ثلاجات لحفظ الجثث.
وعُمق مأساتنا ليست أننا نمرض فلا نلقى علاجاً، وليست أننا نُعاني فلا نلقى اهتماماً، وليست أننا نموت فلا نلقى قبراً.. إنما عُمق مأساتنا أننا نحيا -أصلاً- حياة ذُل وانسحاق ومهانة منذ البدء.
فالكتاب والقلم والوتر والريشة وزنها في بلاد العرب -وفي هذا البلد تحديداً- أخفُّ من الريشة.
ويدور الزمان دورته الغاشمة.. وتظل مأساتنا قَدَراً محتوماً في كتابنا، وسيفاً مسلولاً على رقابنا.. لا يتبدّل لها اسم، ولا يتغيّر.
أتذكر ذلك اليوم، فيما الضجيج يتعالى - من كل حدب وصوب - عويلاً طويلاً ونحيباً ثقيلاً على رحيل الشاعرة العذبة والإنسانة المُعذّبة فاطمة العَشَبي.. وهي التي ظلت تعاني متاعب المرض الأخبث لسنوات.. وعلى مرأى ومسمع من جميع المتباكين الأفاكين اليوم!
( 2 )
يُبتلى المشهد الثقافي في كل زمان ومكان، وفي هذا اليمان تحديداً، بظاهرة وطائفة الأدعياء.. أكانوا في ساح الأدب أو ساحة الفنون الأخرى والإبداع الإنساني عموماً.
وذات زمن بعيد أيضاً، حكى لي أديب اليمن العظيم عبدالله البردوني واقعةً تعكس إحدى تجلّيات هذا المشهد:
في القرن العاشر الهجري (نحو 16 للميلاد)، ضجّت مدينة صنعاء بأدعياء الأدب.. وكان من أشهرهم أحد المنتسبين إلى بيت السراجي، الذي ما أن يعثر على قصيدة بديعة حتى "يلطشها"، ويدّعي أنه قائلها، فبلغ خبره الشاعر الكبير سعيد السمحي، فقال يهجوه:
"ثكلْتُكُم بني الآدابِ اِنْ لم... تبثُّوا في الورى طُرُقَ الأهاجي
فليس يُعَدّ في الأدباء من لا... يبولُ معي على نار السراجي".
ولم يَطُل الأمر حتى أجابه شاعر صنعائي ظريف، نسيتُ اسمه للأسف:
"ألا سمعـــــاً لأمركَ يا سعيدٌ... وطوعــاً ما حَيِيْتَ وما حَيِيْنا
أمرتَ بأن نبولَ على السراجي... فها طوعاً لأمرك قد خَرِيْنا".
وكم نحن اليوم في مسيس الحاجة إلى تنفيذ هذا الأمر المُطاع، ليس في وقائع أدعياء الأدب والفن والإبداع فحسب.. إنما في شأن الأدعياء في كل مضمار ومجال، فقد تكاثروا كالبيكتيريا!
( 3 )
تصلني بين الحين والآخر كتب صادرة هنا وهناك، لأسماء يمنية أسمع بها أو أقرأ لها لأول مرة.
والحق أن بعض محتوى هذي الكتب جدير بالقراءة، لمُتعةٍ أو لفائدةٍ أو لكليهما.. غير أن بعضها الآخر لا يستحق أكثر من "فرمان" ستاليني، كذاك الذي أصدره يوسف ستالين، حين أمر بطبع مجموعة شعرية من نُسختين فقط:
واحدة للشاعر.. والأخرى لحبيبته التي كتب في غرامها قصائد تلك المجموعة!
حتى إن بعض تلك الكتب لا تستحق طبع أكثر من نسخة واحدة، تُهدى لكاتبه... فقطٌ . فقطاً.. فقطٍ.
وقال لي الصديق الصحافي والناشط الحقوقي "م. ص. العديني" إنه ذات مرة طلبت إحداهن رأيه في شعرها المنشور في بعض الصحف السيارة والطيارة، فإذا به يحاول أن يتفذلك في القول على طريقة أهل الحداثة اللغوية فيقول لها: إنه شعر "مائز"، فإذا به ينطقها من دون قصد: شعر "ماعز".. فقلت له مُعقّباً: والله إنك صدقت يا ابن صادق، وأصبت من حيث ظننت أنك أخطأت!