مقالات
دكان الطُلِّيْسْ (1)
بعد غياب دام عشر سنوات، عاد سيف الطُلِّيس من الحبشة وفتح دكانا في حيفان، ولم يكن كبقية دكاكين القرى والأسواق، وإنما كان دكانا واسعا ببابين، وكانت البضاعة والسلع المعروضة فيه مرصوصة بطريقة جذابة تلفت الانتباه، وتفتح شهية الناس للشراء، وكان الذي ما يشتري يتفرج، لكن أولئك الذين يذهبون إلى حيفان، ويمرون على دكان سيف الطُلِّيس، كانوا يعودون وهم في غاية الذهول مما شاهدوه، ولم يكن لهم من حديث غير الحديث عن دكان الطُلِّيس، وكانوا يقولون:
-"كل اللي تشتهيه النفس موجود في دكان الطُلِّيس".
وعند عودته من حيفان، قال الحمَّار سيف أنعم لأهل القرية:
- "اللي ما شاف دكان الطُلِّيس ما شاف الدنيا".
ولكثرة ما راج الحديث عن دكان الطُلِّيس، كان الأطفال ينظرون بكثير من الانبهار والإعجاب لكل من يذهب إلى حيفان؛ لاعتقادهم بأن من ذهب إلى حيفان لا بُد أن يمر على دكان الطُلِّيس، ويشاهد ما فيه من أصناف الشوكولاتا والحلويات والبسكويتات.
وكان قد شاع بين القرويات والقرويين أن البضائع والسلع التي لا وجود لها في أسواق ودكاكين القرى موجودة في دكان الطُلِّيس.
ولم تمر سوى أسابيع على افتتاح الطُلِّيس دكانه حتى اشتهر الطُلِّيس، واشتهر دكانه، واشتهرت زوجته عُلُوم، وكانت عُلُوم تقف إلى جانب زوجها في الدّكان تساعده في البيع، وتحل محله أثناء غيابه، وكان وجودها في الدّكان قد حمَّس وشجَّع ودفع النساء للخروج من بيوتهن والذهاب إلى حيفان لشراء حاجاتهن من دكان الطُلِّيس.
ولأن معظم زبائن الطُلِّيس كانوا من النساء، والغالبية منهن أمهات وزوجات وبنات مغتربين، كان الطُلِّيس يبيع لهن بالدَّين، ويسجِّل ذلك في "سجل الدِّيون".
وفي مساء كل يوم، كان الطُلِّيس يغلق دكانه، ويعود إلى بيته، وبعد أن يتعشّى يُخزِّن ب"القَات"، ويسمر، وعندما يختمر "القَات" في رأسه، ويشعر بالكَيْف، يفتح "سِجل الدِّيون"، ويظل يقلِّب أوراقه، ويحسب ما له وما عليه.
وكانت زوجته عُلُوم تجلس إلى جانبه، وتثرثر معه حول الدّكان، حتى إذا شعرت بأن زوجها قد توقف عن الحديث معها، ودخل في حديث صامت مع سِجل دِيونه، انسحبت بهدوء إلى غرفة نومها.
وفي كثير من الأيام، كانت عُلُوم حين تستيقظ في الصباح من نومها، تتفاجأ بأن زوجها نائم في المكان نفسه الذي تركته فيه، وبجانبه سِجل الدّيون.
كانت عُلُوم تحل محل زوجها في الدّكان عند ذهابه إلى الراهدة، أو إلى عدن لشراء بضاعة.
ولأنها لم تكن تعرف القراءة والكتابة حتى تسجل أسماء الادأشخاص الذين اشتروا منها وأسماء الحاجات التي باعتها، كانت بعد عودة الطُلِّيس من مهمته تملي عليه أسماء الذين باعت لهم، أو اللاتي باعت لهن بالدَّين، والحاجات التي باعتها لهن / لهم، وكان الطُلِّيس يسجل ما أملته عليه في سجل الدِّيون.
ومرّت الأيام والسنوات، ودكان الطُلِّيس يزدهر، وحوالات المغتربين تتدفق، ومن كل القرى تأتي أمهات وزوجات وبنات المغتربين لشراء حاجاتهن من دكان الطُلِّيس، وكانت أرباحه تتراكم، ورصيده يكبر، وفي الوقت نفسه كانت زوجته عُلُوم تكبر، وذاكرتها تضعف، وتشيخ، وصارت كثيرة النسيان، وفي كثير من الأحيان تذكر اسم الزّبون، وتنسى اسم البضاعة التي باعتها له، أو يحدث العكس، وكان ذلك يغيض الطُلِّيس، ويجعل دمه يفور من الغيض. وكثيرا ما كان يصرخ في وجهها قائلا، وقد تمكن منه الغضب:
-"يا عُلُوم تذكّري وقولي لي لمن بعتي على شان أسجل بالسجل!!".
وكانت عُلُوم تجهد عقلها، وتظل في صراع مع ذاكرتها كيما تتذكر ما الذي باعته، وأسماء من باعت لهن / لهم، لكن الذاكرة كانت تخونها، فتقول له:
- "مو اعمل -يا سيف- نسيتو".
وحينها كان سيف الطُلِّيس يفقد السيطرة على غضبه، و ينقض عليها يضربها، ويقول لها وهو يواصل ضربها:
- "خسرتينا يا عُلُوم.. أفقرتينا يا علوم.. ضيّعتينا يا علوم الله يضيِّعك من قدّامي".
وكانت هي تشعر بالذنب، وتستسلم للضرب، وتقول له وهي مستسلمة:
- "اضربني -يا سيف- والله انني استاهل الضرب".
قال لها مرّة يسألها، وقد باعت عددا من الفوانيس:
- "لمن بعتي الفوانيس يا عُلُوم؟".
قالت له: "والله -يا سيف- ما عادني ذاكر لمن بعتو"!!.
قال لها: "من اللي اشترى الفوانيس نسوان والا رجال؟"!!.
قالت له: "نسوان".
وراح سيف الطُلِّيس يذكر لها أسماء النساء اللاتي يتعاملن معه علّها تتذكر أسماء من باعت لهن الفوانيس، غير أن ذاكرتها خانتها مثل كل مرة، ويومها شعر سيف الطُلِّيس بأن الضرب يريحها، ويهدئ ضميرها، وبدلا من أن يضربها.
قال لها:
-"ادأيام ما كنتي شاب -يا علوم- كان السوق حامي، وكنتي تذكري كل شيء، وبعد ما عجّزتي السوق برد، والخسارة زادت".
ويومها تألمت عُلُوم من كلامه أكثر مما تألمت من الضرب، وشعرت بأنه يعيِّرها بكبر سِنها، وهي التي أخذ منها الدّكان عمرها وشبابها، وجعلها تشيخ قبل الأوان، وفي الوقت نفسه كانت عُلُوم تتألم لأجله عندما يكلمها عن الخسارة، وتتمنّى في قرارة نفسها لو أن بمقدورها أن تساعده في تجنيبه المزيد من الخسائر، لكن الطُلِّيس كان يبالغ، ويتحدّث عن خسائره لغرض في نفسه، وكان غرضه هو أن يزيحها من طريقه، ويركنها جانبا، ويتزوج غيرها.
وذات صباح، وهي تُقدم له الفطور، قال لها:
- "أمس -يا علوم- وأنا نايم حلمت حلم".
قالت له علوم: "خير إن شاء الله".
قال لها: "شفت ملاك نازل من السماء، وبعدما نزل جلس جنبي، وقال لي: يا طُلّيس لو تشتي السوق يحمي، وتشتي دكانك يرجع مثلما كان، اتزوج".
قالت له عُلُوم، وقد صدّقته: "ما دام وهو ملاك اسمع كلامه، الملائكة ما يكذبوش".
قال لها الطُلِّيس:
"الملاك قال لي: لا تتزوجش إلا بعدما ترخّص لك زوجتك عُلُوم، وتروح بنفسها تخطب لك".
قالت عُلُوم، وقد أعجبها كلام الملاك:
-"أني مرخّص لك، وشاروح بنفسي أخطب لك، بس قل لي من هي البنت اللي تشاني أخطبها لك؟!".
قال لها: "موزة بنت خالتك حَمامة".
شعرت عُلُوم، وهي تخطب له موزة من خالتها حمامة، بأنها تقوم بمهمة جليلة، وهي إنقاذ الدكان، وإنقاذ زوجها من الإفلاس، لكن الحقيقة هي أن الطُلِّيس كان يُكبِّر الأشياء، ويضخِّمها أمام زوجته عُلُوم، ويوهمها بأنه على وشك الإفلاس.
وكان يتعمّد ذلك من أجل يشعرها بالذنب، ويهيؤها للقبول بزواجه من موزة، ذلك أن أمها حمامة ما كانت لتقبل أن تزوجه بنتها موزة لو لم تأتِ عُلُوم بنفسها لتخطبها له.
كان الطُلِّيس يطمع ببنت خالة زوجته منذ كانت طفلة تتردد على دكانه، وكان كلما أقبلت يتساءل بينه وبين نفسه:
-"كم باقي لها هذي الموزة لُمَّا تنضج؟".
ثم يسألها عن عمرها:
-"كم عمرك يا موزة؟".
كان عمرها ثماني سنوات حين أبصرها في الدكان لأول مرة،
وبعد أن نضجت واستوت، وبرز لها نهدان، وراحا يكبران، ويتكوران، زاره الملاك في المنام، ولم تمضِ سوى بضعة أيام على زيارة الملاك له حتى تحقق حلمه بالزواج من موزة.
وفي اليوم نفسه، الذي تزوج فيه موزة، قال لزوجته عُلُوم:
-"إجلسي بالبيت -يا علوم- وارتاحي، وموزة تجلس بدلك بالدكان".
وقبلت عُلُوم، وجلست في البيت، لكن الطُلِّيس هجر زوجته عُلُوم، وهجر البيت، واستقر هو وموزة في الدكان، وكانت عُلُوم تطبخ في البيت، وتحمل لهما الطعام إلى الدكان: الصبوح، والغداء، والعشاء.
وكل يوم بعد أن تُحضِر لهما الصبوح تسأل زوجها، وتقول له:
-"شتروِّح تتغدي -يا سيف- والا اندي الغدا للدكان"؟.
وكان زوجها سيف الطُلِّيس يطلب منها أن تحضر الغدا للدكان:
- "هاتي الغدا للدكان يا عُلُوم".
وبعد أن تحضر الغداء تسأله عن العشاء، وتقول له:
- "شتروِّح تتعشي بالبيت -يا سيف- والا اندي العشا للدكان".
ويطلب منها أن تحضر العشا للدكان.
وهكذا كل يوم.. تأتي بالصبوح وتسأله عن الغداء، وهل سيتغدى في البيت أم تحضره للدكان، وتأتي بالغداء وتسأله عن العشاء، وهل سيتعشى بالبيت أم تحضره للدكان!!
ولم تكن عُلُوم بعد زواجه من موزة تطمع بأكثر من كلمة تنمُّ عن شوقه إليها وإلى بيته.
وكانت تحدث نفسها قائلة:
-"مو فيها لو اجا هو وموزة يتعشوا ويرقدوا بالبيت بدل ما يرقدوا بالدكان!!".
كان مكوثهما في الدكان يوحي لأهل القرية بأنها غير راغبة في مجيئهما للبيت، وكان ذلك يزعجها، ويؤذي مشاعرها.
وعندما أقبل رمضان، توقعت عُلُوم بأنهما سيغادران الدكان إلى البيت، أو أنهما سيفطران عندها، لكن ذلك لم يحدث.
وكانت قبل موعد أذان المغرب تحمل إليهما الفطور، وفي السّحَر تحمل إليهما السحور.
وفي صباح يوم العيد، ساورها شعور بأن الطُلِّيس سيخرج من المسجد بعد صلاة العيد، ويمر ليسلم عليها سلام العيد، وكانت قد جهزت له ولضيوفه فتة باللبن والسمن والعسل؛ لكنه لم يمر للسلام، ولا للطعام.
وقالت تحدث نفسها إنه وإن لم يأتِ في نهار العيد سوف يأتي في الليل ليسمر معها، وكان أن ارتفعت معنوياتها، وفي المساء لبست وتزينت وراحت تنتظر مجيئه، وهي بكامل زينتها، لكنها في منتصف الليل، وقد تعبت من الانتظار، ويئست من مجيئه، بكت إلى أن ابتل فراشها بدموعها.
وفي ظهر ثاني أيام العيد، استغرب الطُلِّيس، وقال بينه وبين نفسه: "ما لها عُلُوم اليوم لا صبوح جابت لنا، ولا غدا، ما جرى لها؟".
وعندما حضر إلى البيت ووجد كل شيء ساكنا ومنطفئا، ظن بأنها مريضة، لكنه وقد دلف إلى غرفة نومها وجدها ميتة، وهي بكامل زينتها، ولحظتها ساوره شعور بالذنب، واجهش بالبكاء.
* للدكان بقية