مقالات
دوار الحب ودوار البحر 7
في الاجتماع سألني المسؤول الحزبي عن البنت تغريد وهل وافقت على دخول الحزب؟ وحين قلت له بأنها لم توافق شعرت من تعابير وجهه كما لو أنه يدينني لعجزي عن استقطاب بنت أمية وغير متعلمة.
وقلت بيني ونفسي وقد رأيته ممتعضا ومنقبضا: – "هذا آخر اجتماع أحضره ولن تراني بعد اليوم" وفعلا انقطعت عن حضور الاجتماعات الحزبية، وعندما كنت أصادف رفيقا في طريقي ويسألني عن السبب في تغيبي عن الاجتماعات كنت أبرر غيابي بحجج مختلفة.
وذات مرة، وبعد مرور أربعة اجتماعات، صادفت المسؤول الحزبي في الشارع فارتعبت حين رأيته ولم تكن لدي فرصة للهروب منه.
وقبل أن ألتقيه بأيام كنت قد قرأت للفيلسوف الوجودي جان بول سارتر عبارة تقول: – "الحرية هي الرعب" لكني وقتها لم أفهم معنى هذه العبارة والمقصود بها، خصوصا وأن الشعوب والأحزاب جميعها كانت تتغنى بالحرية وتحلم بها.
ثم أني أيامها لم أكن قد قرأت كتاب "إريك فروم": – الخوف من الحرية – حتى أعرف سبب خوف الناس من الحرية وهروبهم منها إلى الأحزاب والجماعات.
وفي نفس اليوم الذي قابلت فيه مسؤولي الحزبي، وبعد أن راح يلومني بسبب عدم حضوري الاجتماعات، رحت أحرّف مقولة سارتر على النحو التالي: "الحزبية هي الرعب" ويومها بدت لي الحزبية نقيضا للحرية، وشكلا من أشكال العبودية.
ولشدة رعبي من الحزبية ذهبت إلى الاجتماع الحزبي وانتقدت نفسي وبالغت في نقدي لذاتي، وقلت إن في داخلي بورجوازي صغير، وإن قراءتي كتب الفلاسفة الوجوديين أفسدت تفكيري وشوشت على عقلي وزعزعت إيماني ويقيني بالماركسية وبانتصار الاشتراكية.
وكنت في الفترة التي تغيبت فيها عن الاجتماعات الحزبية قد اشتريت وقرأت عددا من الكتب الوجودية، من بينها كتاب التمرد لـ"ألبير كامو" وروايته "الغريب".
وكان نقدي لنفسي ولأفكاري المشوشة والمنحرفة عن الماركسية اللينينية قد أعجب مسؤولي الحزبي، فراح يثني عليّ كوني أظهرت شجاعة في نقد نفسي ونقد أفكاري المنحرفة عن العقيدة الماركسية "عقيدة الحزب".
يومها، سألني المسؤول الحزبي عن عنواني وقال إنه من الضروري أن يعرف الحزب عنواني ومكان سكني وأين أقيم؟ وإن ذلك لمصلحتي ومن أجل سلامتي. قلت له بأنني أسكن في عشة بقرية صيادين بعيدة عن المدينة.
وأعطيته العنوان. وبعد خروجنا من الاجتماع قال لي ثلاثة من رفاقي الخمسة بأنهم سيأتون يوم الخميس ليخزنوا معي في العشة، فشعرت بالرعب.
وقبل مجيئهم بيوم أخفيت الكتب والروايات الوجودية تحت القعادة، وأبقيت الكتب الحزبية والماركسية في الواجهة. ولأن العشة فيها جمال وبساطة فقد أعجبتهم، وصاروا يجيئون كل خميس للمقيل. وكان ذلك يزعجني ويزعج تغريد وأمها، فقد كنا كل خميس نخزن ونسمر معا، وكانت الأم موهوبة في الحكي وتحكي لي حكايات مدهشة، بعضها مرعبة تجعل جسمي يقشعر من الرعب.
وذات خميس جاء المسؤول الحزبي معهم، وأعجبته العشة، لكنه لم يُعجب بها بسبب إحساسه بجمالها وبساطتها وقربها من البحر، وإنما بسبب حسه الأمني. وفي الاجتماع الحزبي قال لي: – ما رأيك يا كريم نكون نعقد اجتماعاتنا في العشة؟ وكانت حجته هي أن العشة أكثر أمانا من أي مكان آخر. ولحظتها لا أدري من أين أتتني تلك الجرأة وأنا الخجول بطبعي، وقلت له بأن صاحبة العشة تتضايق عندما يأتي الرفاق للتخزين، وأن القرية رغم أن سكانها يشتغلون في صيد السمك، إلا أن هناك مخبرين.
ولم أكن أكذب في كل ما قلته، فقد كانت الأم وبنتها تنزعجان، خصوصا وأنهم لم يكونوا يأتون في الأيام العادية، وإنما يأتون يوم الخميس، والخميس في الحديدة وفي تهامة هو يوم استثنائي، وهو اليوم المنتظر الذي ينتظرونه طوال الأسبوع.
وكان هناك في القرية شخص يستوقفني ويسألني عن الأشخاص الذين يأتون إلى عشتي، وحين سألت عنه البنت تغريد قالت لي بأنه موظف في الحديدة وليس صيادا.
وبعد كلامها وسوست لي نفسي بأنه مخبر. وفي تلك الأيام، لكثرة ما كنا نسمع عن رفاق لنا في الحديدة وتعز وصنعاء تعرضوا للاعتقال، كان الواحد منا لو أبصر مجنونا يظن من شدة خوفه أنه مخبر تنكر بهيئة مجنون.
ولو أبصر حمارا يسير خلفه توهم أنه مخبر تنكر بهيئة حمار.
ولأن الخوف كان رفيقنا الكبير، فقد خاف المسؤول الحزبي بعد كلامي وتراجع عن فكرته، وخاف الرفاق وتوقفوا عن المجيء كل خميس.
وحين سألتني تغريد عن السبب في عدم مجيئهم للمقيل قلت لها: – منعتهم واستغربت عندما قلت لها بأنني منعتهم، وسألتني عن السبب الذي جعلني أمنعهم، فقلت لها بأن مجيئهم جعلني أكره الخميس.
لكنها لم تصدقني وقالت: الخميس أنيس قلت: الخميس أنيس حين أخزن وأسمر مع بنت جميلة مثلك ومع أمك الطيبة.
ولحظتها توردت خدودها ولم تدر بماذا ترد على كلامي، لكنها سألتني عن الذهاب للبحر وهل ما زلت أرغب في الذهاب معها؟! وكنت قد كلمتها عن حلمي بالذهاب معها إلى البحر، وقلت لها: – "أنا حققت حلمك يا تغريد وخليتك تبوكي السينما، وأنت حققي حلمي وخليني أبوك معك البحر" وسألتني عن اليوم الذي أرغب فيه مرافقتها للبحر، فقلت لها: – بكرة قالت بأنه إذا كنت سوف آتي معها في الغد، فيستحسن أن يكون الصبوح خفيفا – خبز ولبن رائب – بدلا من (فتة الدخن بالحليب والسمن)، لكني أصررت على صبوحي المعتاد.
وفي اليوم التالي نهضت فجرا، وكانت تغريد قد أعدت لي الصبوح (فتة دخن بالحليب والسمن)، وبعد أن ملأت بطني تحركنا وامتطينا القارب ودخلنا البحر، وشعرت لحظة دخولي البحر وجلوسي بجانبها بأن الحب بحر شاسع وعميق، وفيه ندوخ ونصاب بالدوار.
وقبل أن أشعر بدوار البحر شعرت بدوار الحب، ورحت أضحك وأمرح وأثرثر، وكانت تغريد مستغربة وظنت بأني متعود على البحر.
ثم وقد اختفى الشاطئ اختفى معه دوار الحب، وشعرت بدوخة ودوار وغثيان، لكني رحت أكتم وأكبت وأغالط نفسي، وحين لاحظت تغريد صمتي وتوقفي عن المرح والكلام والضحك سألتني عما إذا كنت أشعر بغثيان، فأنكرت، لكن الغثيان ما لبث أن تصاعد وبلغ ذروته، ولحظتها نهضت من مكاني وجريت إلى طرف القارب وانفجرت واندفع من فمي شلال من القيء.
وبسبب غبائي لم أذهب للطرف الآخر من القارب وأقف عكس الريح، وإنما وقفت في الطرف الذي تهب منه الريح، وكانت الريح ترد القيء نحوي وتغسلني به.
ولشدة ما تعبت يومها من دوار البحر، أدارت تغريد قاربها وأرجعتني للقرية، وأدخلتني للعشة، وبعد دخولي ارتميت فوق القعادة بملابسي المتسخة ونمت.
وقبل غروب الشمس حضرت تغريد ومعها طاسة مليئة باللبن الرائب، شربتها وعدت للنوم.