مقالات

رواية الصرخة (البراغيث) لعبدالله سلام ناجي

22/11/2024, 07:50:43

وجدتُ رواية "البراغيث" للشاعر والأديب المعروف عبدالله سلام ناجي (1939- 1999) بالصدفة في أحد أرصفة صنعاء، وهي أرصفة فقيرة ومعدَمة، لم تعد تستقبل سوى مكتبات الذين جار عليهم الزمن، ففقدوا وظائفهم، أو طُردوا من بيوتهم؛ بسبب ارتفاع الإيجار، أو ماتوا في ظروف غامضة، ومعظمهم أساتذة جامعات، أو أدباء ومثقفون، أقلعوا عن منادَمة الكُتب؛ لأن الجديد منها لا يصل "بسبب بُعد المسافة".

بعد قراءتها حدّثت نفسي: لو صدرت هذه الرواية -المكتوبة في 212 صفحة والمطبوعة اليوم على ورق فاخر مصقول - في سنة كتابتها أواخر الخمسينات، لكانت في الرواية اليمنية أشبه برواية "زينب" لمحمد حسنين هيكل في الأدب المصري، ولكن من سُوء حظنا أن نشرها تأخّر حتى عام 2014.

صدرت بدون أي إشارة لدار نشر، غير أن سهيل "نجل الفقيد عبدالله سلام" أشار -في صفحة الإهداء- إلى من سانده في إصدار العمل، أتى على رأسهم: أحمد قاسم دماج، وزين السقاف، والشاعر سلطان الصريمي.

ولا بُد من الإشارة هنا إلى ما قاله سهيل ناجي في هذه الصفحة: "تعد هذه الرواية من بواكير أعمال والدنا عبدالله سلام ناجي -رحمه الله وأدخله فسيح جناته- والتي تعود كتابتها إلى النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين"، (ص5).

تتكوّن الرواية من 13 فصلاً؛ كل فصل مذيّل بهوامش توضيحية لمعاني الكلمات العامية، التي جاءت على لسان الأبطال الشعبيين.

ويحق لي هنا أن أعلن عن أهمية نشر واكتشاف هذه الرواية -بالنسبة لي-؛ لأنني لم أجد تعليقاً عليها من قِبل المهتمين، ولا في محرك البحث، ولا في الصحافة الورقية، بدا الأمر كما لو أن جمهور ناجي لا يعترفون به إلا شاعراً، ولو قُرِئت الرواية لاكتشف المهتمون أنها جاءت في السياق الشعري والإبداعي والفكري لناجي.

لم يرحّب بقدومها أحد، كالجنين الذي يولد بعد يأس لـمرور الفترة المحددة لبقائه في رحم الأم، وهي في الحقيقة ليست كذلك؛ لأنها علامة فارقة في الأدب اليمني؛ كونها تقدِّم الرواية اليمنية بأبهى تجلياتها ونضجها.     

...

أحدٌ ما قد يسألني: ما فائدة نشر رواية اليوم، كان عليها أن تنزل إلى الأسواق في الخمسينات؟ ما الداعي لنشر رواية ظلّت حبيسة الأدراج لأكثر من ستين عاماً؟ هل الأمر يتعلق بمقولة: "أن تصل متأخراً خير من ألا تصل".

أقول هنا: حسناً فعل سهيل ناجي حين أقدَم على إصدار الرواية، التي أهملها أبوه، ولأبيه العذر، فربّما أخّر نشرها لدواعٍ فنية طرأت في ذهنه؛ لأن الجميع يعرف أن عبدالله سلام ناجي علمٌ فذّ من أعلام نهضتنا الأدبية اليمنية، وهو من الفحول الذين لا يقتحمون إلا المعارك التي يضمنونها؛ كما رأيناه في ديوان "نشوان والراعية"، وأوبريت "الدودحية"، وكل شعره ونثره. وربّما انتهى بنا الحديث في هذه الوجهة إلى إجمالها بعدة مكتسبات؛ منها -على سبيل المثال- أننا ما زلنا في طور البحث عمّا يُغني تلك الحقبة؛ أقصد مرحلة البدايات.

فقبل سنوات، ظهرت رواية "فتاة قاروت"، وخلق ظهورها شيئاً من الجدل؛ بسبب صدورها في 1927م قبل رواية "سعيد"، الصادرة في 1939م لمحمد علي لقمان؛ التي كانت تعد أول رواية يمنية..
ومرد الجدل حول رواية "فتاة قاروت" يعود إلى أنها صدرت لكاتب يمني في إندونيسيا خارج اليمن. ومن البديهي أن تكون هذه المحطة، محطة البواكير، مثيرة للجدل؛ لأنها -بالنسبة للدارسين- تُساهم في إعطاء صورة كاملة عن الوعي الإبداعي والتقني والفني لحقبة الإصدار، وهو ما يعني الإلمام بمرحلة مفصلية من تاريخ مجتمعنا، وهذا ما تسوقه رواية البراغيث لـ"ناجي".

ويمكنني هنا أن أشير إلى أنها تحمل خطاباً روائياً مختلفاً في سرديته وبنائه ولغته، بالإضافة إلى قدرتها على تكثيف الواقع والالتزام بما فيه من صراع الشخوص داخل الرواية الملتزمة.

وعلى الرغم من أن هذه الرواية بنت زمنها، إلا أنها تحلت بمستوى عالٍ من "التكنيك" في إدارة الصراع، مشحونة بحرارة الحنين إلى الأرض؛ لغتها طازجة، تجمع بين الفصحى والعامية، كأنّها خيوط من الحرير النادر..
وبكثير من الهدوء، طفق ينتقي العِبارات والجُمل الشاعرية وفق منظور سردي منظّم بإيقاع متنامٍ، لا يشبهه سوى الشعر.
ومن المؤكد أن الروائي، الذي كتب هذه الرواية، كان لا بُد أن يصبح في يومٍ ما شاعراً كبيراً، وقد كان له ذلك. في الكثير من أحداثها، تبدو تنبؤية تحكي عن اليوم، رغم أن أحداثها وقعت في الخمسينات.

أما جماليات مخليتها ترفعها إلى العالمية؛ فيما لو تُرجمت إلى اللغات الأجنبية، قادرة على البوح دون كسل أو ملل، فهي من السرد الذي يشبه انسياب "ألف ليلة وليلة"، وهي أيضاً ملحمة نادرة لو تحوّلت إلى عمل سينمائي درامي.
...

مفردة البراغيث: في المعاجم جمع، والمفرد منها برغوث، وهي حشرة من فصيلة البرغوثيات، التي لا تملك أجنحة، على الرغم من صغر حجمها تمتلك فكا مشرمما قادرا على قضم الضحية وامتصاص دمه، وهي لا تفرِّق بين دم الإنسان، أو دم الحيوان.

قارئ الرواية سيدرك أن ناجي اختار عنوانه بحنكة ودراية بالبراغيث، فانتقال البراغيث إلى غلاف الرواية، كما توضّحه اللوحة الأمامية، يجسِّد الرمزية المكثفة بدلالاتها الفنية والتعبيرية، حيث لا يمكن أن يكون للرواية عنوانٌ سوى "البراغيث"؛ لأنه يوصِّف شريحة عرفها ريف اليمن ومدنه قبل ثورة 26 سبتمبر، فالبراغيث هم أدوات "إمام اليمن" الوسطية، الذين تصلهم قضايا الناس، فيعملون على إطالتها وتعقيدها بقصد الإلهاء والنّهب، تلك الطبقة الطفيلية التي تستنزف ثروة الشعب، وتمتص دمه بالتحايل والخداع والمكر، ثم تذهب بتلك الثروة إلى الطبقة الأعلى مكانة -حسب التوصيف المتّبع-، وهم -كما تحددهم الرواية- عمّال الإمام ومشايخه ووكلاء الشرائع.

يقول سعيد بطل الرواية، الذي قاوم استغلال هزاع العرز: "كلّهم قَمّيل من الشيخ إلى هزاع.. كلهم يتحَالَوا دمنا، والله ما هل واحد مليح" (ص40).

إن أهمية رواية "البراغيث" تعود إلى أنها حكاية يمنية بامتياز، يجسِّد السرد فيها مأساة الإنسان اليمني، وقدره الحزين دائما مع حكامه الذين لا يعرفون سوى لغة الإذلال والتجهيل والقتل.
وهي إضافة حقيقية تدعم تطوير جماليات السرد في الرواية اليمنية، خاصة وأنها تقوم على تكثيف لغة الصراع الدرامي بين الشخصيات، وتجسِّد معركة اليمنيين ضد البراغيث.

تتحدث الرواية -عبر السارد العليم- عن حال ريف تعز بعد ثورة 48، وعن عمّال المستعمرة "عدن"، الذين ينحدرون من الريف، وكيف أن بواخِر المحتلين كانت تنقلهم إلى المجهول؛ ليتفرّق دمهم بين الحلفاء و"الفاشست" النازيين.

وفي الوقت، الذي رأى فيه الكثير من العمّال أن الذهاب إلى المجهول أرحم من العودة إلى وكر "براغيث" الإمام؛ رأى سعيد أن يبقى في عدن ثم يعود إلى القرية لمواجهتهم بعد أن تكوّن لديه مبلغ من المال، وفي القرية -بعد مرور أشهر- يأتي موسم الزراعة؛ فتعشب الأرض، وتخضر، لتنشد العصافير أجمل الأغاني، ولكن هيهات فالحياة لا تصفو بمعيّة "البراغيث".

ينتقل فضاء الرواية إلى وصف الصراع، الذي دار بين الحاج سعيد وهزاع العرز، الأخير كسر ساقية الحاج أثناء المطر؛ ليغيّر مجراها إلى حقله؛ مع أنها في أملاك الحاج سعيد؛ في حادثة يستمرئ هزاع، المقرّب من "البراغيث" الكبيرة، تكرارها؛ فهو من مُلاك الأرض الجشعين، والشيخ عوض الشرام يعتمد أقواله دائماً.

عمر سعيد، هو المحرّك الحقيقي للسرد، يعمل في عدن، إنه عيّنة من أبناء الريف التعزّي، الذين غادروا قراهم في الخمسينات، وعملوا -بسبب فقرهم وصغر سِنهم- في بيوت الأغناء، ثم انتقل إلى العمل في الميناء سائق "بابور" (أي شاحنة)، كان يستغل وقت فراغه في الدراسة بالمدارس الليلية؛ لأنه أدرك قوة العِلم؛ لذلك فقد طوّر معارفه بقراءة الكُتب والجرائد، وصلته رسالة من والده يشكو فيها من هزاع العرز؛ سافر ليقضي إجازته هناك في موسم "الجهيش".

ينتقل السارد إلى فضاء الجغرافيا، مستثمراً فضاءات الطريق بين عدن وريفها، والحقيقة أنه يملأ هذه الجزئية صخباً، مشيراً إلى الكثير من الحكايات التي تؤرّخ للمكان والزمان والمجتمع بلغة فلسفية عميقة.

في القرية، يتهمه هزاع بشتم الإمام، ويدخله إلى السجن بتهمة كيدية، لكنه ما يلبث حتى يتبنّى قضايا المظلومين.. ثمة شاب كان يهودياً فأسلم، ومع ذلك تم السطو على زوجته.

في الصفحات الأخيرة، يقول الكاتب إن الرواية تنقّلت معه بين القاهرة ودمشق أثناء رحلته الدراسية، ولكن عندما وُلدت ملحمة "نشوان والراعية" انحاز لنشوان؛ لأنه يمثل المستقبل، ونسي "البراغيث" بين أوراقه، دون أن يدري أنها رواية تشبه "الصرخة".

بهذه العجالة، لا يمكننا الإلمام بالرواية؛ لأن مساراتها عديدة، وفضاءها مفتوح.

مقالات

ترامب ونتنياهو وصفقة القرن

ربما كانَ من الأنسب أن يكون عنوانَ هذا المقال «نتنياهو وترامب وصفقة القرن». فنتنياهو مؤلف كتاب «مكان بين الأمم»، والذي تُرجِمَ إلى «مكان تحت الشمس» هو الأساس. فـ«صفقة القرن»، وما تشربه ترامب منها، وصرّح به هي المبادئ الأساسية لـ«السلام من أجل الازدهار»؛ فمصدرها كتاب «مكان تحت الشمس»، وفي 28 يناير أعلن الرئيس الأمريكي، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، نص الصفقة.

مقالات

حلفاء أم محتلون؟

الأوضاع الاقتصادية الكارثية، التي نعاني منها اليوم، ليست سوى انعكاس أكثر بؤسًا وكارثية لوضع سياسي مخجل.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.