مقالات

سلطان الديمقراطية

16/05/2023, 20:25:33

أعادت الانتخابات التركية عنوان الديمقراطية إلى واجهة العالم؛ رافعةً من أهميتها وضرورتها، وإمكانية نجاحها كنظام حُكم خارج جدران الغرب، بعد سلسلة من الحروب والصراعات الإقليمية والعالمية، تجمعت كلها في اتجاه يكاد يقول إن العالم يمر بمرحلة ما بعد الديمقراطية، وكل هذه الأحداث والتحولات قذفت بالديمقراطية إلى الهامش، ونشرت نوعا من الاعتقاد أن العالم يمضي في عد تنازلي عكسي في اتجاه التخلي عن أهم نظام أنجزته البشرية عبر تاريخها الطويل. 

لا جديد في تأكيد حقيقة الديمقراطية التركية لأكثر من عقدين. الجديد هو استمراريتها بعد سنوات من تحولات عالمية ومحلية، وصراعات حادة جعلت من تكرار المشهد الذي شاهده العالم في الجولة الأولى أمرا مستبعدا.

لماذا، وما المقدمات التي جعلت من توقع انتكاس الديمقراطية التركية احتمالا أقرب من استمرارية حيويتها كمنظومة محددة لمسار الدولة التركية؟ 

لم تتقبل أوروبا وأمريكا من البداية فكرة وجود حزب إسلامي منفتح في بلد إسلامي يقع على التماس مع أوروبا، ويسعى إلى الإانْضِمام إلى اتحادها السياسي. 

صعد حزب العدالة أواخر التسعينات من القرن الماضي بدايةً من المجالس البلدية، وتدرج بعدها إلى البرلمان والرئاسة.

أكثر من عشرين عاما من حكمه لتركيا، قدم هذا الحزب نفسه من خلال الاستحابة لقضايا مجتمعه الاقتصادية والمعيشية، لا من خلال الشعارات الدينية التي راجت لدى الاتجاه الأوسع في الحركات الدينية في الشرق الأوسط. 

دقت تركيا أبواب أوروبا، وفعلت كل ما بوسعها لتأهيل نفسها بمعايير الانضمام  إلى الاتحاد الأوروبي، لكن ذلك كله لم يكن كافياً، ووجدت نفسها معزولة لأسباب لا علاقة لها بمعايير الدولة الحديثة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان. 

شهد الشرق الأوسط والعالم خضات كبرى غيّرت -إلى حد كبير- الأولويات أمام الدول الكبرى وحلفائها. 

مع أن تركيا واحدة من الدول الأعضاء في حلف الناتو إلا أنها وجدت نفسها تبتعد تدريجياً عنه رغم بقائها عضواً فيه؛ لأسباب عديدة، أهمها تأثير المحاولة الانقلابية الفاشلة في العام 2016، حينها بدا وكأن أوروبا وأمريكا تؤيدان ضمنياً الانقلاب.

توالت الأحداث العالمية، لتضيف عوامل أخرى كان لها تأثيرها في إحداث تغييرات كبيرة في السياسة التركية داخلياً وخارجيا؛ أهمها الحرب الروسية - الأوكرانية، وما رافقها من أزمة عالمية اقتصادية وسياسية كانت ذروتها أزمة الطاقة، واستقطابات حادة، وضعت تركيا أمام تحديات جديدة ومهمة؛ أولها يتمثل في محاولة تركيا التوفيق بين عضويتها في حلف الناتو، التي أصابها الضمور، وتحالفها الجديد مع روسيا الآخذ في النمو والتطور، وهو تقارب تطوّر إلى شبه تحالف ضمني، قررته حاجة الدولتين في عالم متغيِّر، ويواجه البلدان تهديدات تفترض التعامل معها بعقلية جديدة تضع كل الخيارات في دائرة الإمكانية، بعيدا عن ثوابت السياسة والعلاقات التي سادت في المراحل السابقة. 

هذه التحولات دفعت بتركيا إلى الجوء إلى روسيا؛ للتعاون في مجالات عسكرية واقتصادية وسياسية لم تكن ممكنة من قبل، ووصلت إلى حد تزويد الجيش التركي، المرتبط تاريخيا بالسلاح الأمريكي، بسلاح روسي كان أهم عناوينه منظومة الدفاع الجوي الروسي المتقدمة (أس 400). 

ركز الإعلام الغربي، بعد محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا على تقديمها كدولة تمضي باتجاه الديكتاتورية، وطي صفحة الديمقراطية؛ تتضمن هذه الصورة الجديدة، المروجة في الإعلام الحديث، عن الاعتقالات والإقصاءات في الجيش، وتعديل الدستور التركي للتحول إلى نظام رئاسي، وجملة من السياسات والإجراءات، تم تناولها من منظار الخصم لتصوير تركيا كدولة حسمت أمرها في القطع مع النظام الديمقراطي، وقُدِم أردوغان في هذا الضخ الإعلامي كسلطان عثماني كامل الصلاحيات، تمنعه نشوة السلطة المطلقة من التعامل مع خصومه ومعارضيه من موقع الرئيس المنتخب الممكن تغييره في أول انتخابات عامة، إذا أجمعت الأغلبية على هذا الرأي. 

وسط هذه الصورة الجديدة، كان مرشح المعارضة يفوز بمنصب عمدة أسطنبول في العام 2019، في ظل رئاسة أردوغان، وحكم حزبه في تركيا. 

ساهمت الحرب في أوكرانيا في تصعيد الأزمة الاقتصادية في تركيا، خلال العامين الماضيين، إلى مستويات غير معهودة من قبل، اهتزت فيها قيمة العملة التركية، وانعكست الأزمة في حياة الأتراك في جوانب عديدة. 

وإذا أضيفت كارثة طبيعية بحجم الزلزال الذي ضرب تركيا، للأزمة الاقتصادية، وحِدَةْ الاستقطاب السياسي الناتج عن تفاقم الصراعات والحروب، وأهمها الحرب الروسية - الأوكرانية، يمكن القول إن الرئيس التركي وحزبه قد دخلا الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في وضع مضطرب هو الأسوأ بالنسبة لهم منذ صعود حزب العدالة إلى الحكم في تركيا قبل عقدين. 

جاءت ساعة الاحتكام لرأي الناخب التركي، ومعه كان واضحاً أن تركيا لا زالت ديمقراطية حقيقية حتى قبل الجولة الأولى من الانتخابات.

لعل مراهنة خصوم أردوغان وحزبه (الداخليين والخارجيين) على حشد كل تأثيرهم لإسقاطه في الانتخابات، هو مؤشر كافٍ على أن الديمقراطية التركية حقيقية، ولم تفقد توازنها كنظام قادر على إدارة الخلافات في تركيا، رغم كل الأحداث والتغيرات الداخلية والدولية خلال السنوات الفائتة. 

التوازن في نتائج الانتخابات يضيف الكثير إلى الديمقراطية التركية، بمعزل عن القراءات المتعددة للمتنافسين في تفسير النتائج لصالحهم، إذ يقول أردوغان وحزبه إنها أكدت أغلبية حزب العدالة برلمانيا، وتفوق أردوغان رئاسياً، ويقول معارضية إنها وضعت مرشحهم الرئاسي على بوابة الرئاسة، وإحداث تغيير طال انتظاره بعد سنوات طويلة من هيمنة أردوغان في الواجهة التركية. 

تأثير التجربة التركية في ترجيح نجاعة الديمقراطية كنظام يحفظ مصالح المجتمع، واستقرار الدولة، يفوق في تأثيره الديمقراطيات الغربية. لماذا؟ لسبب بسيط: هذه الديمقراطية الحقيقية الناجحة تقع خارج الغرب، وفي دولة إسلامية لها أهمية كبيرة ووازنة؛ يأتي هذا التأكيد في ظل وضع عالمي مضطرب تنتشر فيه الحروب والصراعات الكبرى بين أمريكا وأوروبا من جهة، وروسيا والصين من الجانب الآخر المتطلع لعالم متعدد الأقطاب؛ وبينهما حروب عديدة في بقاع مختلفة، وصراعات نفوذ في أفريقيا، وغيرها من قارات العالم. 

الانقسام السياسي الحاد في تركيا، الذي أظهرته الانتخابات، ليس حالة خاصة بهذا البلد الأوروآسيو..

إذا ما ألقينا نظرة على الانقسام الحاد، الذي تطور تدريجيا في الديمقراطية الأولى عالميا (الولايات المتحدة الأمريكية)، وفي فرنسا ودول أوروبية عديدة، بإمكاننا القول إن الانقسامات الحادة أصبحت سمة عالمية. 

التنافس الانتخابي في أمريكا، بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لم يعد سطحياً ومحصوراً في سياسات محدودة في التوجهات الاقتصادية والسياسة الخارجية؛ تطور هذا التنافس إلى انقسام حاد، وصل ذروته في سنوات رئاسة دونالد ترامب الجمهوري، ورئاسة جو بايدن الديمقراطي، الذي خلفه في البيت الأبيض، وما يزال رئيساً بانتظار انتخابات 2024، التي من المرجح أن تكون ذروة الصراع الحاد بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري.

أصبح تغيير رئيس في أمريكا يعني تحولا جذريا في السياسة الخارجية. أليس هذا ما يتضمنه تصريح ترامب الذي يقول فيه إنه سينهي الحرب في أوكرانيا خلال يوم واحد، إذا عاد للرئاسة العام القادم، مضيفا اتهامه لإدارة بايدن بتوريط أمريكا في حرب تهدد بالتطور إلى حرب نووية عالمية.

في واحد من أعمق تصريحاته قال ترامب إن الأمريكيين أمام خيارين: إما أن يقضوا على الدولة العميقة، أو أن الدولة العميقة ستدمِّر دولتهم. 

المؤشرات أكثر من ان تحصى على هذا الانقسام الجذري بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في أمريكا: اتهام ترامب ومحاكمته، الموقف من السياسة الخارجية والتحالفات العالمية، تناقض التوجهات من قضايا الإجهاض والمثليين والمهاجرين والأقليات، السياسات الاقتصادية، وغيرها من المواقف الدالة على توجهات تمضي بالسياسة باتجاه التناقض والانقسام الحاد والمواجهة. 

في تركيا يشبه الحال الانقسامات الحادة في أمريكا. يصرح مرشح المعارضة أن الناتو هو داعم الديمقراطيات في العالم، ويتهم روسيا بالتدخل في الانتخابات التركية، ويتوعد بطرد اللاجئين والنازحين والمهاجرين العرب في تركيا. 

هذه ليست سوى رأس جبل الثلج في قائمة التناقضات الحادة بين المرشحين في الانتخابات التركية، مما يرجح التوقعات بتغييرات جذرية في حالة فوز مرشح المعارضة في الجولة الثانية المقررة في الثامن والعشرين من مايو الحالي. 

أياً كانت نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التركية، فإن هناك مجموعة من الدلالات التي يمكن قراءتها من الجولة الأولى، وهي دلالات تتضافر كلها لتجعل من الحدث التركي متغيراً مفصلياً سيكون له تأثيرات كبيرة داخل تركيا  وخارجها في العالم كله. 

تأثيرات تحتاج كل واحدة منها إلى قراءة مستقلة عن الأخرى، نكتفي هنا بإلقاء نظرة عامة على عناوينها؛ داخلياً تمثل أبرزها التوجهات المتباينة في تبني العلمانية التركية والسياسات الاجتماعية المترتبة عن الرؤيتين شبه المتناقضتين لحزب العدالة الحاكم ومعارضيه، وأبرزهم حزب الشعب الجمهوري، والموقف من المهاجرين والنازحين واللاجئين والمقيمين في تركيا. وخارجيا يقع في المقدمة طبيعة العلاقة مع أمريكا وحلف الناتو وأوروبا، والموقف من الحرب الروسية - الأوكرانية، وطبيعة التحالفات والتوجهات السياسية في الشرق الأوسط وأفريقيا، والعلاقة مع إسرائيل. 

إلى ذلك، تؤثر نتائج الانتخابات الرئاسية في وضع الحركات السياسية الإسلاموية، إذ سيمثل سقوط أردوغان ضربة مؤلمة لأهم نموذج حكم ناجح للإسلاميين قدم تجربة ملهمة لقدرة هذه التيارات على التعايش مع الدولة العلمانية الحديثة وإدارتها. 

انحسار حزب العدالة بداية من الرئاسة سينتج عنه لوحة قاتمة للإسلاميين لا تتضمن حزب النهضة في تونس ولا حزب العدالة الذي سينكمش للبرلمان، وربما يفقد نفوذه في ظل رئاسة معادية تحكم في ظل نظام رئاسي حدده أردوغان نفسه.

ستنكمش صورة الإسلاميين إلى طالبان والجماعات السلفية، والإخوان المسلمين العائدين إلى مربعات المظلومية، والعمل تحت الأرض في مصر، وحالات أخرى عديدة؛ كل هذه المتغيرات تنتظر الثامن والعشرين من مايو القادم لتحدد وجهتها. 

وإلى أن تعلن نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التركية، سيحبس الجميع أنفاسهم بانتظار إعلان الفائز في أهم انتخابات يشهدها العالم منذ سنوات. 

انتخابات ستحدد وجهات كثيرة في قضايا الداخل التركي وخارجه. قضايا وتوجهات لها علاقة بكل شيء باستثناء ما تعتقده ذهنية متحجرة نقرأها في تغريدة كتبها محمد الحزمي؛ قال فيها إن "هناك من ينتظر ليحتفل بسجدة ومن ينتظر ليحتفل بسكرة!".

المتاح، الذي تقدِّمه التجربة التركية لحزب العدالة، هو أنها ملهمة وتحفّز التيارات السياسية الإسلامية لتطوير خطابها، والاستجابة لأولويات مجتمعها، والاندماج في الدولة الحديثة، وممارسة السياسة والفعل العام تحت إطار مشروعيتها وقوانينها. 

هذه هي رسالة الإلهام التركية، وهي رسالة من الصعب أن تصل لمن يعتقد أن العالم ينقسم إلى فسطاطي "السجدة" و"السكرة"؛ هذه ذهنية تعكس نفسها في ما تراه من أحداث. لا ترى شيئاً سوى صورتها.

على الضفة النقيض، ينافس أردوغان في ديمقراطية تحدد وجهة بلاده والعالم عبر صوت الناخب التركي، وهي فعالية لم يكن ليحظى بها حزب العدالة التركي وزعيمه، لو أنهما بقيا مقيمين في تابوت ذهنية بدائية كتلك الموجودة داخل رأس الحزمي.

"لقد تغير الإسلاميون"، هذا ما يقوله النموذج التركي الملهم، بينما بقي بعض من يقدمون أنفسهم في بلاد العرب أنصارا للعلمانية أسرى لتطرف مضاد، يرى في فوز أردوغان خسارة للديمقراطية: هذا التطرف النقيض لا يؤمن بالديمقراطية ولا بالعلمانية، وإن أدّعى انتماءه لهذه العناوين العصرية. 

بين هذا وذاك، يبقى النموذج الديمقراطي التركي ملهماً، وأكثر تعبيراً عن سلطان الديمقراطية في عالم اليوم.

مقالات

ترامب ونتنياهو وصفقة القرن

ربما كانَ من الأنسب أن يكون عنوانَ هذا المقال «نتنياهو وترامب وصفقة القرن». فنتنياهو مؤلف كتاب «مكان بين الأمم»، والذي تُرجِمَ إلى «مكان تحت الشمس» هو الأساس. فـ«صفقة القرن»، وما تشربه ترامب منها، وصرّح به هي المبادئ الأساسية لـ«السلام من أجل الازدهار»؛ فمصدرها كتاب «مكان تحت الشمس»، وفي 28 يناير أعلن الرئيس الأمريكي، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، نص الصفقة.

مقالات

حلفاء أم محتلون؟

الأوضاع الاقتصادية الكارثية، التي نعاني منها اليوم، ليست سوى انعكاس أكثر بؤسًا وكارثية لوضع سياسي مخجل.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.