مقالات
شغل الشاغر ليس الاَّ ..
أدري أن القضايا والموضوعات المرشّحة للكتابة كثيرة، بل غزيرة، أو كما يُقال بالعامية: "أكثر من الهمّ على القلب".. ولذلك، لن يعدم كاتب أو راغب في الكتابة، أو كل من تحكُّه يده للقبض على لجام القلم والشخبطة به، موضوعاً للكتابة مما تتقافز من موضوعات حواليه.
غير أن كتابة عن كتابة تفرق - كما يُقال - أو تختلف، فناً وأسلوباً ومنهجاً.
فثمة كتابة قائمة على وعي بموضوعها، وإيمان بمضمونها أو رسالتها، فيما كتابة أخرى لا تعدو أن تغدو خبط عشواء أو نبشاً في الرمال أو هرطقة!
فَلْنَجُلْ بأبصارنا على ذلك الركام الهائل من المقالات والأعمدة، التي تزدحم بها يومياً تلكم المواقع والمنصات الإليكترونية، التي باتت مستشرية كالفيروسات بعد أن قلَّ بل ندرَ وجود الصحف والمجلات في هذي البلاد، وفي العالم كله.
ولا بُد لك بعد هذا التجوال من أن تحطّ باهتمامك على عدد قليل جداً منها، وجدتها تستحق قراءتك فعلاً، وما عداها تجدها هباءً منثوراً.
قالوا في المأثور منذ زمن بعيد: "الكلام مافيش عليه جمرُك"، أي أن تتكلم (أو تكتب، لا فرق) فهو من أسهل ما يمكن أن يبدر عن المرء.. ولكن... هل كل الكلام - أو كل الكتابة - سواء؟
كما جاء في مُحكم كتابه: "قُل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون".
فهل يستوي كلام العارف مع كلام الهارف؟
وهل تستوي كتابة من يدري ماذا ولماذا يكتب، بكتابة ذاك الذي لا يريد من الكتابة إلاَّ تحبير الورق أو ملء الفراغ أو نيل شهرة مزعومة؟
ويتفاخر بعضهم بأنه يستطيع كتابة مقال من ألف كلمة ببساطة وبسرعة قياسيتين!.. ولا يدري هذا المُتفاخر أن كثافة العبارة وخلاصة الجملة واختزال الفكرة هي القدرة البارعة والمهارة الفائقة، وليس الفضفضة!
إن ذلك النوع من الكتابة أشبه شكلاً ومضموناً بذلك الركام الذي تراه في مقالب القمامة الكبرى خارج المدن (كالأزرقين في بعض ضواحي صنعاء، والحسوة في إحدى ضواحي عدن)، مصيرها ليس أكثر من قبرها أو إحراقها أو إتلافها في أحسن الأحوال.
مثالاً ليس إلاَّ: قام جيش روسيا بغزو أوكرانيا، فقام جيش من الكَتَبَة بغزو رؤوسنا بزخَّات متتالية من التعليقات والتحليلات والاجتهادات، التي ما أنزل الله بها من سلطان. جميعهم صاروا خبراء إستراتيجيين في السياسة الدولية، وأساتذة في القانون الدولي، وجنرالات وعناصر مخابرات، وفطاحلة تاريخ عسكري، وجغرافيا سياسية، وطوبوغرافيا، وفاصوليا بيضاء بالصلصة، وفوقها هم متخصصون في شؤون وشجون الاتحاد السوفياتي السابق، وأوروبا الشرقية.
لم يتركوا شاردة ولا واردة في خلفيات الصراع بين الدولتين الشقيقتين سابقاً، والعدوّتين لاحقاً.
خاضوا في كل الزغاطيط الشوفينية العرقية والعقدية الآيديولوجية والأنثروبولوجية والسوسيولوجية، وكشفوا أسرار العلاقات المتوترة بين أطراف الأسرة، التي لها زوج روسي سكير وزوجة أوكرانية مغناجة، منذ أوائل القرن الرابع عشر للميلاد حتى عشية اندلاع الحرب الأوكراسية!
ثم راحوا يُفكفكون خفايا الخلاف وخبايا الاختلاف بين مطابخ روسيا وطبخات أوكرانيا في السياسة، كما في التغذية، وفي الاقتصاد كما في الرياضة، وفي الأدب كما في قلّة الأدب إياه!
غير أن ذلك كله لم يكن مكتوباً عن عِلم ودراية ومنطق، وإنما عن هَطَل وهَبَل وسفسطة جوفاء، ليس إلاَّ، ولمجرد تحبير الورق وشَغل الشاغر من الموضوعات كعادة العرب دائماً. وأكثر من 90 في المئة من هؤلاء لم يزوروا تلك المنطقة يوماً، ولا حتى شاهدوا أفلاماً تسجيلية عنها في قناة الجزيرة الوثائقية، أو ناشيونال جيوكرافيك، بل لعمري لم يعرفوا بين أيّ خطّي طول وعرض تقع الدولتان!