مقالات

صنعاء اليمن قلبي لتربتك حن!

22/07/2024, 15:14:37

هذا النص الشعري الجميل البديع، الذي كتبه الشاعر عبدالله عبد الوهاب نعمان، والذي يعرفه الناس ب"عدن عدن فيها الهوى ملون"، هو نص كتبه للشجن الذي كان يملأ نفسه نحو صنعاء، رغم إقامته الطويلة في عدن، لكن عدن لمن أسلي بها أو أشتكي وأحزن، رغم كل ما فيها من جمال المدن وهوى القلوب.

عبر التاريخ الإسلامي تشيَّعتْ صنعاء عدة مرات، ثم عادت تحتضن اليمنيين جميعاً كما هي عادتها، وكما هو ديدنها بعد أن تنجلي عنها السحب والعمائم السوداء، ولقد تحدَّث البردوني عن سنوات التشيع هذه في كثير من كتاباته من خلال الكتابة عن الأحداث السياسية، أو الكتابات النقدية والأدبية، أو عندما يؤرخ لشخصيات عاشت في ظل هذا التشيع الأعمى تبعاً لمن يحكم في زمن ما لا يتعدَّى السنوات القليلة بينما يفيق اليمنيون من سباتهم لاسترداد عاصمتهم التي حوت كل فن.

من بداية الأربعينات، بدأت أفواج اليمنيين المقيمين في صنعاء، أو من أبنائها، بالرحيل من صنعاء نحو عدن بعد أن ضاقت بهم السّبل من النظام الإمامي البشع الذي حوَّل اليمن من بلد غني ومنتج إلى بلد تعيث فيه المجاعات والجبايات والمظالم والفقر والمرض.

وكانت صنعاء تستحوذ على كثير من أشواق اليمنيين وأشجانهم وهم بعيدون عنها، حتى ولو لم تكن صنعاء مسقط روؤسهم، ولكنها مدينة تسكن وجدانات أبنائها وغير أبنائها من كافة اليمنيين باختلاف مدنهم وقراهم، وظلّت صنعاء تستحوذ على قلوب كل اليمنيين، وخاصة أولئك الذين قضوا فيها فترة زمنية للدراسة أو التعليم، وكان شاعرنا الفضول قد عاش في صنعاء رفقة والده الشهيد عبد الوهاب النعمان، الذي ظلمه التاريخ والمؤرخون، وأغفلوا تسجيل نضالاته وتضحياته حتى إننا لا نجد أكثر من صفحتين كسيرة ذاتية له يتم اختتامها بسقوطه شهيداً بعد ثورة 48 الدستورية في ميدان حورة بحجة مع عشرات الشهداء اليمنيين إرضاءً لمزاج الإمام أحمد المنتقم.

وبعد ذلك، قضَّى شاعرنا سنوات طويلة في عدن، مارس فيها الكتابة والصحافة في أعلى مستوياتها إلى جانب ما كان يصدر عنه من قصائد وطنية جنباً إلى جنب مع وطنيات الزبيري، وزيد الموشكي، وغيرهم كثيرون.

وعندما تحول مزاج الشاعر إلى كتابة الشعر الغنائي، في منتصف الستينات، وبعد قيام الثورة عادت هواجسه إلى صنعاء تفتح له أبوابا كثيرة من المشاعر الجياشة باعتبارها المدينة التي حوت كل فن، ولجوها البديع طوال العام، وبدأ يشكو ما يكابده في عدن المدينة الصيفية، التي فيها الهوى ملون، ولكن..

لنلقي هنا نظرة سريعة إلى مطلع النص النابض عن عدن:
عدن عدن فيها الهوى ملوّن لكن لمن أسلوا بها أو أشتكي وأحزن
لا اشتدَّ لي فيها وتر ولارن  القلب أنْ وما عليه لو أنْ
عيشي حزن لا البعد هان ولا الوصال أمكن
لو ما عرفت الحب كان أحسن

طبعاً البعض يصنّفها على اعتبار أنها قصيدة وحدوية، وهي كذلك، لكن هناك في بعض النصوص الشعورية دلالات مرتبطة بالوجدان، وهذا تفكير عميق العاطفة بالتحول والانتقال من عدن إلى صنعاء خاصة وهو يدلف العقد الخامس من عمره، فيخاطب صنعاء، وهو هنا يتحدث بلسان كل من يشتاق ويحن إلى صنعاء:

صنعاء اليمن قلبي لتربتك حنْ
يكفي شجن ما لاح بارق فيك أو مطر شن
وأنا وأشواقي أنام واذهن
من ذي يزن فيك الهوى تمكن
حتى الزمن غنَّى على صنعاء اليمن ودندن
أرض الملاح الغيد جنة الفن

من خلال هذا المقطع الصغير استطاع الشاعر أن يختزل تاريخ صنعاء العاطفي والشعوري والوجداني المتعلق  بمشاعر كل اليمنيين، والرهان قائم على أن صنعاء لن يطول بها الزمن حتى تفتح أحضانها وقلبها لكل اليمنيين، وتلم شملهم مجدداً، ولزمن طويل قادم، وأن التمزق الحاصل ما هو إلا حدث عابر قد ألفته صنعاء في غفلة من التاريخ والزمن، لكن الحقائق التاريخية تعيد تصويب الأمور والحياة.

وبرغم حجم القصيدة، وعدد أبياتها، لكن الشاعر استطاع تطويع الزمن كله من خلال أبيات لا تتجاوز أصابع اليدين، وهو الذي يعجز عنه أي شاعر، وهذه من أهم معجزات الفضول الشاعر الذي أعادنا إلى صنعاء، وأعاد صنعاء إلى اليمنيين كما يفعل التاريخ بالضبط.

مقالات

كيف عزز النصر السوري حضور تركيا

في السنوات الأخيرة، عززت تركيا حضورها كقوة إقليمية تسعى إلى لعب دور محوري في إعادة تشكيل التوازنات السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.