مقالات
عبد الله علوان.. عاشَ جميعاً وماتَ وحيداً!!
كانت الأعوام 2014م وما بعدها قاسية على أدباء وكُتَّاب وشعراء اليمن حد الوجع، كلنا كنا على أمل أن تنتهي هذي الحرب، ليعود الناس إلى ممارسة حياتهم والحياة إلى طبيعتها، وإكمال رحلة الحياة المقدَّرة، وبناء الوطن كما يفعل العالم من حولنا، ومازلنا حتى اليوم نأمل ألاَّ نموت قبل أن نرى السلام في ربوع اليمن، ولقد رحل كثيرون وهم ينتظرون السلام، لكن للأدباء والشعراء أحلامهم المتواضعة، وهي طباعة أعمالهم الإبداعية؛ باعتبارها تخليداً لإبداعهم وتجاربهم الكتابية، أو لنقل تخليداً لحياتهم، وكما قال عباس محمود العقاد بما معناه: "الكتب حياة -مشيراً إلى مكتبته الضخمة- لقد طفت العالم من هذا المكان، ولقد عشت حياة كل هولاء الذين في الكتب.
قبل أن يكون عبد الله علوان ناقداً وشاعراً وكاتباً من الطراز الممتاز، كان إنساناً إلى أبعد الحدود، كان الصدر الحنون لكل الأدباء والشعراء الشباب الذين توافدوا مطلع التسعينات إلى صنعاء بحثاً عن الأضواء، وإمكانية التواصل مع ثقافة المركز، أو اكمال دراستهم في الجامعة، والحقيقة أنني لست واحداً منهم -ويا للأسف- لم ألتق بالناقد علوان إلا مرتين في مقهى النخيل بالدائري، الذي كان قُبلة للأدباء في فترة مهمة منتصف التسعينات، وكنت مطلعاً على تجربته الإبداعية شبه الكاملة، وكان من أنشط الكُتَّاب في ذلك الوقت، وبقدر ما احتوى الكثيرين في بيته للسكن والمأكل والمشرب، على ضيق حاله احتواهم إبداعياً، فبشَّر بمواهب الكثيرين الذين بدأوا الكتابة منتصف التسعينات وكانت تجاربهم خجولة في البداية، قبل أن تتطور وتصبح لها شأن وقيمة أدبية في الكثير من الصحف، وكان التنويه والإشادة والتعريف بهم وإضاءة الطريق للكثيرين هي السبيل النبيل الذي أختطه عبد الله كواجب أخلاقي، ولم يستثن أحدا، ولم يعاد أحدا، وكان يمثل الوسطية في الآراء النقدية ونظريات الشعر؛ سواء النقدية العربية القديمة أو الحديثة أو نظريات النقد الغربية والعالمية، ولم يكن متعصباً لأحد الأنواع الأدبية على حساب الآخر، ولذلك لديه مؤلفات كثيرة في شتى الأنواع إبداعاً ونقدا؛ سواء في مجال الشعر بأنواع ومذاهبه، أو القصة أو النقد أو المسرح، وليس هذا معناه أنه كان كاتب سلطة، بل كان على الضد دوماً وصاحب آراء صادمة في الفكر والثقافة والأدب.
وفي المرتين، التي التقيته فيها، قال لي حرفياً: "أنت تكتب نقداً بلغة الشعر".
وكانت به صفات محببة من القرية ذبحان، التي يعتبرها المصدر الأول لإلهامه، وهي الصراحة الشديدة، و"العرعار" لمن يحيد عن حب الوطن ويجري بعد مطامعه.
ومن أبرز اشتغالاته المتميزة في تجربة الشاعر الراحل عبد الله البردوني، التي جُمِعتْ في كتابين الأول بعنون بـ"المأساوي والهزلي في شعر البردوني"، والآخر بعنوان "بردونيات النص والمنهج"، وليس آخرها كتاب "القصة اليمنية.. الموقف والأسلوب".
وله مخطوطات كثيرة شعرية وسردية كانت تنتظر النشر؛ منها "شعر الزبيري من التنوير إلى التثوير"، و"نظرية المعرفة القرآنية"، و"دراسات في النقد الأدبي"، و"حمينيات.. دراسة في الشعر الحميني"، و"مأساوية الشاعر العربي"، و"مواسم الجدب"، و"خمسة دواوين شعرية"، و"الإنذار الأخير، وزمن النحس؛ وهما مجموعتان قصصيتان"، و"نقد الشعر الحديث".
وما علمناه يقيناً أنه كان له ابناً عاصياً مات في حياته بشكل مأساوي، وبقيتْ أعمالُه في أقراص مع ابنته سلمتها للأديب علوان الجيلاني لغرض طباعتها، ولم تطلب أي مقابل سوى على أمل نشر أعمال والدها، وأكد علوان الجيلاني أن أعماله محفوظة، وقريباً ستبدأ بالصدور - إن شاء الله.
والغريب هو ما وجدته في حوار أجراه معه محمد القعود بتأريخ 12 مايو 2003م بعنوان "الطفولة هي ينبوع الشعر"، يتحدث هكذا:
"وشعراء مثل زهير والمتنبي والبردوني يحصنهم الحياء بحصانة الصدق والمروءة؛ لأنهم أحيانا يجهرون بالقول الصادق، وإنْ غضب منهم الأوغاد، أما صحتي فحدِّثْ ولاحرج، فضعف كل أديب ناجم عن نشاطه الإبداعي أياً كان ضُعفه. أحيانا لا أجد قيمة الخبز أو الفاكهة، وكثيرً من الأحيان لا أجد قيمة الملبس فأُصاب بالضعف والرعشة والجُبنْ، لأن أصغر حقير يجدني أتحاشاه، خوف أن يجرحني؛ فالجرح مع مرض السكر وبال على الجسم. حدث ذلك مع حسين باصديق، فقد بتروا رجله المجروحة، وبتروا ساق بو مهدي، لأنه لم يجد العناية اللازمة، وكادوا يقطعوا إصبعي، وكثير من الأدباء يتعرضون لأمراض فيعتكفون في بيوتهم، لا يسألون الدولة إلحافا، مع أن الدولة غالباً ما تستنجد بهم عند المناسبات الثورية، ليكتبوا عن تفاهة الساسة وعظمة المخربين وبهلوانية المفسدين وسفاهة المنافقين"، أ.ه.
ووجه الغرابة هنا هو موت الشاعر والناقد والموسوعي عبد الله علوان بالطريقة نفسها التي خاف منها وحدثت مع غيره من الأدباء الذين أصابهم مرض السكر.
مات ميتةً حزينة حقاً في 25 مارس 2014م. وكان أنْ علم بوفاته أحد الذين كتب عنه كثيراً، وتنبأ له بمستقبل روائي كبير، وبقي فوق كرسيه يشرب الشاي بلا مبالاة، في زمن عز فيه الوفاء.