مقالات
عبدالله عبدالوهاب نعمان.. خاتمة النشيد
في كل قصائد عبدالله عبدالوهاب نعمان تجد فكرة مركزية ذات معنى مشترك: الحُب والوطن.
هنا يقع سرّ "الفضول": كتب النشيد ليُؤسس ضميرًا جمعيًا في الوطنية، ورسم قصيدة العشق ليرفع الحُب إلى مستوى الوجود الإنساني.
وما بين أناشيده الوطنية ومعلقاته الوجدانية بناء رمزي كامل للوعي: أن تعيش الحُب كما تعيش الوطن، وكلاهما معًا في جملة واحدة: أن تكون أنت. كلاهما يطلب منك النزاهة ذاتها، العطاء ذاته، الامتلاء ذاته، أن تكون أنت أولًا.
أن تمنح نفسك كاملة؛ عندما تحب كما عندما تنشد للوطن، أن تتوحد بموضوعك، أن تكون واحدًا غير منفصل، هذا ما فعله عبدالله عبدالوهاب نعمان.
أي قدرة يمتلكها الفرد ليسِم عصرًا بأكمله أو أمة كاملة بميسم قلبه الجمالي، مانحًا لهويتها شكلًا ونشيدًا، ولوجودها الإنساني معناها الأوسع كمحبة؟
فرد واحد. تمر في ذهنك سلسلة مشاهد لا تُحصى لبشر بلا عدد، وبينهم فرد واحد يتجسد فيه الكل. جملة تبدو مستهلكة عندما تُستخدم في وصف مستبد يعتقد أنه "القائد الضرورة"، لكنها عند الفنان تتجلى وقد استعادت معناها، حقيقية بكامل بهائها: فرد يتجسد فيه الكل، فرد يختزل نغمة أمته وعصره: وطنيةً وحبًا، كأنه خاتمة النشيد ومنتهى العشق.
لم يكتب مجلدات، ولا أفرط في الكلام. فعل شيئًا بسيطًا وعميقًا: أحس باليمن حتى التقط نغمتها من عمق أعماقها. اندمج بالحب وحوّله إلى وطنية وصلاة وجودية في محراب اليمن.
لا يكتب "الفضول" من وطنية نخبوية متعالية، ولا من بؤس يتوق إلى خلاص غامض. يكتب من إحساسه النابض بالحياة، من مكانٍ ما بين الشغف والانتماء.
تحوّل عبدالله عبدالوهاب نعمان إلى إحساس جمعي يلامس وجدان اليمنيين ويسكن قلوبهم؛ شعور يتجاوز الكلمات وما يمكن أن تقوله اللغة وأساليبها.
-شخصية متعددة الأبعاد
أقصى الوطنية في الشعر والغناء ليست إلا انعكاسًا لأقصى الحُب والعشق العاطفي. كل شاعر كبير أبدع في كتابة الأناشيد الوطنية، أبدع بالتوازي في كتابة أغانٍ فاتنة عن الحُب وهيام العُشاق. وتاريخ الشعر والغناء في اليمن يخبرنا عن بُعد ثالث: من كتب وغنّى للوطن والحُب، كتب وغنّى كذلك للأرض ومن يزرعها ويتنفس عبق تربتها.
عبدالله عبدالوهاب نعمان ومطهر الإرياني يقفان في ذروة الشعر الغنائي الوطني. ومعهما، يترسخ هذا التمازج بين الوطنية والحُب والانتماء للأرض، ويصعدان به إلى مستوى الظاهرة اليمنية الفارقة.
هذه الحقيقة الوجدانية نجدها في فنانين غنوا لهما: أيوب طارش، علي الآنسي، وعلي السِّمة، الذين ترجموا قصائدهم الوطنية والعاطفية إلى نغمات شجيَّة وأناشيد ملحمية.
إلى هذا الوجدان الثري بالمحبة والوطنية والانتماء، يجمع الشاعران الفضول والإرياني ولادتهما في بيئتين أسريتين كانتا في متن الوطنية اليمنية المعاصرة في القرن العشرين بداية من الأنين الأول في ثلاثيناته.
جذور تجربتهما الثقافية والنضالية ترتبط مباشرة بأسرتيهما: بيت النعمان وبيت الإرياني، اللذين أفرزا شخصيات متعددة الأبعاد تجمع بين الثقافة والأدب والتاريخ والموقف الوطني. هذه الأسر أعدّت شخصياتها لتكون قادرة على المساهمة في بناء اليمن في الثقافة والسياسة والفن والشعر والوعي الجمعي.
"الفضول" شخصية متعددة الأبعاد. كل بُعد من أبعاده يكفي لكي يوضع في مقامٍ عالٍ في ذاكرة اليمن ووجدان أمتها وهويتها الوطنية والثقافية.
هو ابن الشهيد الشيخ عبدالوهاب نعمان، أحد الأوائل الذين ثاروا ضد الإمامة. وقد تتلمذ على يد والده في صنعاء أثناء اعتقاله في عشرينات القرن العشرين، ثم تلقى العلم على أيدي أساتذة؛ أبرزهم الأستاذ أحمد محمد النعمان "ابن عمه"، وعبدالله المعزبي في زبيد.
هذه المدارس الأسرية والسياسية والثقافية هي التي صاغت شخصيته، وأعدته لاحقًا ليكون مدرسًا في المدرسة الأحمدية في تعز، ومدرسة بازرعة في عدن، وعضوًا مؤسسًا في حزب الأحرار، وكاتبًا صحفيًا ينشر مقالاته في صحيفة "صوت اليمن" الناطقة باسم الجمعية اليمنية الكبرى في عدن 1946.
بعد فشل ثورة 1948، أصدر في عدن صحيفة "الفضول" نسبةً إلى حلف الفضول الذي كان مهتمًا بإنصاف المظلومين، وعُرِف بلقب الفضول نسبةً إلى صحيفته؛ تلك مرحلة مهمة في حياته.
أُغلقت الصحيفة من قِبل الاحتلال الإنجليزي عام 1953.
مِئة عدد صدرت من صحيفة "الفضول" تمثل جزءًا مهمًا من سيرة عبدالله عبدالوهاب نعمان: الصحفي والكاتب السياسي والشاعر.
تتضمن هذه الأعداد قصائده الوطنية، مقالاته الصحفية الساخنة، وكتاباته السياسية الساخرة باسمه أو بأسماء مستعارة مختلفة. وقد ضمها الكتاب الذي صدر بعد ثورة 2011، وجُمعت فيه كل قصائده بعنوان "أشعار عبدالله عبدالوهاب نعمان - الفصول"، وتصدرته مقدّمة كتبها ابنه السفير مرون.
-ضيف ريحان الضحى
الفضول ليس شاعرًا يبتكر صورًا جميلة فحسب، بل موج جمالي أخلاقي دافق في قلب اللغة. الصورة عنده لا تشبه أي صورة عند أي شاعر آخر على الإطلاق. هذه الصورة الشعرية لم يسبقه إليها أحد:
هيمان حتى لو سكنت السحاب
لأصبحت قيعان فيها سراب
وحيث مر الغيم والسيل سال
إذا دعاني الورد قلِّي تعال
خذ لك ندى عندي وخذ لك ظلال
يكفي ظما خلي الظما للرمال
لغته ذات طابع خاص به وحده. معجمه لا يشاركه فيه أحد. روح الشجن والشغف في الكلمات تعكس روحه وشخصيته، شخصية معلم عاش الحياة وخبر تجاربها بعين الشاعر، عين قلب مُحب يتوق إلى التناغم مع تجليات روح عظمى تسري في الإنسان كما في الطبيعة من حوله:
أقاسم الطير في الأعشاش ضوء البكور
واشرب كؤوسي من الإصباح إشعاع نور
وألُفّ بالأنداء روحي
وكم قد نمت في حضن الغمام
إنما مكانني ضمآن
"الفضول" شاعر الشوق لنبع الجمال المطلق. شاعر الظمأ الكبير: ظمأ المفارق لمن يحب، ظمأ الأرض لعرق أبنائها، ظمأ الروح إلى معنى يربطها بالوجود كله.
في قصائده، كل ارتواء ناقص. وكأنه يستلهم القول الصوفي: "ما بعد الكمال إلا النقصان".
مع ذلك، هو لا يتحدث عن رغبة فردية أو جوع عاطفي، بل عن ظمأ كوني، ظمأ الروح إلى ما يتجاوزها. هنا يتحوّل الحُب من حالة شخصية إلى تجربة وجودية مطلقة، تتجاوز الماء والنار، لتغدو هي نفسها الماء الذي يروي والدم الذي يسري.
بين الأغنية الوطنية والأغنية العاطفية، كان الفضول يشدّ الخيط نفسه: ظمأ القلب لمن يحب، ظمأ اليمني للوطن الحُلم، ظمأ الأرض لمن يعطيها هويتها ومعناها، ظمأ الشاعر للتوحّد بالوجود.
الفضول ليس شاعرًا عابرًا يلامس الأشياء من خارجها، بل شاعر خيميائي يحوّلها إلى جواهر نادرة: يحوّل الأرض إلى معبد، والحُب إلى ضوء القلوب في ليل الحياة، والإنسان إلى كائن رفيع يستعيد الإحساس بجوهره ويتوحّد مع كل ما هو جميل، والكلمة إلى نداء يتردد في أعماق الأمة اليمنية.
-يا من رحلت إلى بعيد..
اكتملت كلمات "الفضول" بصوت أيوب طارش، كأنهما موجة سماوية واحدة نبتت في اليمن لتكون نغمة هويتها وأغنية الحُب في حياة أبنائها.
غنى له عبدالباسط عبسي مجموعة من أجمل أغانيه، وكذلك غنى من كلماته الحارثي والسنيدار والسِّمة وآخرون، لكن أيوب طارش أخذه كاملًا ولم يترك للآخرين سوى ما يحميه من العين.
بدأ أيوب معه بعد عودته لكتابة الشعر عقب ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، واستمر يدق القاع بأناشيده، ويحيي القلوب بأغانيه العذبة حتى بعد رحيل الفضول عام 1982.
لا يُذكر الشاعر الفضول إلا وحضر معه الفنان المتفرد أيوب طارش. هما ليسا مجرد ثنائي "فنان - شاعر"، بل كل منهما يُكمل الآخر.
كانت نغمة الفضول ستبقى مكتومة لو أن أيوب طارش لم يفك شفرتها ويطلقها بصوته مجلجلة في الآفاق.
غنى أيوب "يا من رحلت إلى بعيد" بعد رحيل الفضول بسنوات، وكانت عزاءً له قبل مماته، ووداعًا متأخرًا بعد الوحدة التي كتب الفضول نشيدها الوطني وسكنت وجدانه وتناثرت في أشعاره.
-ثم ماذا بعد؟
سيصعب على اليمن أن تتعرَّف على نفسها من دون وجود عبدالله عبدالوهاب نعمان.
أكملت هذه المقالة بصعوبة بالغة. عندما فكرت بالكتابة عنه، شعرت أنني أتعلم الكتابة لأول مرّة في حياتي.