مقالات
عبقرية الإنسان "حيث الإنسان!!
هذا الموضوع أردت كتابته، العام الماضي، بعد أن تابعت الموسم الرابع من برنامج "حيث الإنسان" على قناة بلقيس. فقد جذبتني القيمة الإنسانية للبرنامج، وأنا أشاهد كل يوم قصة مُلهمة عبقرية لمجموعة من الناس، أو لجزء من المجتمع أو لأفراد أو لأسرة، في مختلف مناطق اليمن المتاحة. مساحة القصة لا تزيد عن عشر دقائق تقريباً في كل حلقة، لكن الحقيقة أن القصة استغرقت شهوراً، وتتوفر في القصة كل عناصرها: الزمان، والمكان، والأبطال، الذين نسميهم في الأدب "الشخوص والحدث"، هذي العشر الدقائق هي اختصار لرحلة طويلة من العمل، والتخطيط، والبحث، والوصول إلى جماعة أو فرد، أو جزء من المجتمع أو أسرة، مستهدفون بفتح آفاق الخير والعم أمامهم، والتفكير في المشروعات المناسبة، وهذا أمر في غاية الصعوبة والتعقيد، والدعم المدروس الذي يقف خلفه فريق -بلا شك- هم بمثابة الجنود المجهولين، ولكننا نلمس أعمالهم، وهي ماثلة للجميع، قد يمتد هذا العمل لشهور طويلة؛ متزامناً مع تسع وعشرين مشروعا آخر، تصل إلى ثلاثين مشروعاً كل موسم. يسيرون بانضباط وتوازٍ وتوازن للوصول إلى لحظة الحقيقة النبيلة. وهذي الحقيقة يتم تلخيصها خلال عشردقائق فقط، بدون تكلف أو إعلانات أو ماشابه.
وعلى مدار أربعة مواسم، وهذا الموسم الخامس، يصبح لدينا مائة وخمسون مشروعاً، حصيلة خمس سنوات فقط، اتسمت كلها بأنها جاءت في زمن الحرب والقحط، وهذي عبقرية أخرى أن تنجح في زمن متكالب على الأرض والإنسان بالحروب، وقطع الطرق، وظروف الحصار الجائر، واقتصاد منهار، والألغام منتشرة من كل نوع وحجم بطريقة عشوائية، كما هي عادة المليشيات في كل زمان ومكان، - إن لم يكن أبشع- والقناصة منتشرون في كل تبة وجبل وواد.
يقول المثل الصيني الشهير "لا تعطني سمكة كل يوم ولكن علمني كيف اصطاد". هذي رسالة واحدة من ضمن عشرات الرسائل، التي يقدمها البرنامج (حيث الإنسان).
إضافة إلى متابعة هذي المشاريع مستقبلاً، ومدى نجاحها، ووضعها تحت المجهر، وإعطاء الجمهور فرصة التصويت على جدواها ونفعها،
فهو لا يقف عند حالات فردية، بل يذهب إلى البنية التحتية، التي هي في الأصل واجب دولة، ولكن الوطنية اليمنية، التي تتحلى بها مؤسسة "توكل كرمان"، والذين يقفون خلف برنامج "حيث الإنسان"، أعتبروا بناء الإنسان اليمني من أسمى الأهداف.
وهذا يذكرنا بقصة الأب، الذي كان يقرأ جريدة، لكن ابنه الصغير شتت ذهنه، فقام الأب وأعطى لولده خريطة ممزقة، وطلب منه إعادة ترتيبها. ولم تمضِ سوى دقائق إلا والولد يقول لأبيه: لقد أعدت ترتيبها. فاستغرب الأب. فقال له الابن: لقد كان في الجهة الأخرى صورة إنسان، فقمت بإعادة بنائه، فعادت الخريطة كما كانت. وهذا شاهد على حيوية وقيمة بناء الإنسان.
كنت أقف مذهولاً أمام إنجاز كل يوم، وما يتبعه من مِنح وعطاء بلا حدود للمشتركين عبر الاتصالات لمجرد سماعهم القصة وأحداثها ومواقعها وأبطالها، يتلقون أسئلة كهدايا رمضانية ليحصلوا على مبالغ طيِّبة بكل سهولة ويسر؛ بما يوازي مليون ريال كل يوم وأكثر، على مدى ثلاثين يوماً. هذا يمكن تسميته بعبقرية العطاء للناس في هذا الشهر الفضيل.
البرنامج بأكمله يقوم على فلسفة العطاء؛ سواء على مستوى المجتمع أو القرية أو المديرية أو الفرد، وكل قصة لها فلسفتها الخاصة، فتتوفر لها كل مقومات النجاح والديمومة وعناصر البقاء والفائدة.
ولعلي هنا أذكر لكم قصة عظيمة كتبها أنطون تشيخوف عن أحد الفقراء العاطلين عن العمل، الذين أدمنوا البطالة ، فقرر أحدهم مساعدته على العمل بدل التسول!، وأوكل أمره إلى إحدى العاملات في قصره، وفي نهاية القصة يصبح المتسول رجلاً مكافحاً في سبيل العيش والتقاه صاحب القصر يوماً على أحد أبواب المسارح، وقال له: أنا من دفعك دفعاً إلى الطريق الصحيح. فقال الرجل: بل تلك المرأة التي تعمل عندك هي التي أنقذتني، فقد كانت تقوم بكل العمل الذي تكلفني به، كل ما أعرفه هو أن ما قالته والطريقة النبيلة التي تصرفت بها أحدثا تغييراً في نفسي لن أنساه ما حييت.
وللأسف الشديد جداً، أن هذي التجارب لم تعلِّم أحداً من أصحاب روؤس الأموال على كثرتهم، مع العلم أن هولاء حتى لم يحاولوا التفكير في خدمة مسارات وطرق المواصلات، التي تستخدمها ناقلاتهم، وسط هذا الحصار منذ ثماني سنوات وأكثر.
وعلى سبيل المثال، طريق الأقروض الذي دمرته دينات رجال الأعمال وضيقت على المواطنين وتنقلاتهم. فلدينا -على سبيل الذكر وليس الحصر- "نقيل الرُّباحْ" أسفل سوق الأقروض، الذي هو سوق أبو أربعة دكاكين، وفي وسطه اثنان معاهم شبك حديدي لبيع الدجاج، رغم كل المصائب في الطريق ولا تزحزحزوا قيد أنملة، وهو -لو تعلمون- منحدر رهيب على كل سائق وراكب وعلى الأطفال والنساء، ولا يتعدى ربع كيلو أو قريب من 250 مترا لنقل نصف كيلو متر.
مرت ثماني سنوات، ولم يكلف أحد من روؤس الأموال نفسه لإصلاح ذلك المنحدر الرهيب لوجه الله. وقد راح ضحيته أرواح كثيرة، وبلغت أرواح البعض الحلقوم من الخوف والرعب، وبدتْ بعض السيارات الحديثة -في حال انطفائها- كأنها مشنوقة وبداخلها أطفال ونساء وصراخ ورعب، لولا ستر الله على البعض.
والعَجبُ العُجاب: أن رمضان، الذي هو شهر العطاء والبذل والخير، يتحول لدى أكثر القنوات إلى شهر الهبوط والانحلال بمسلسلات تافهة بلا نص ولا دراما ولا سيناريو ولا حوار ولا قضية ولا شخوص.
وتتحول كثير من القنوات اليمنية إلى أوكار للاعلانات الاستهلاكية لمواد غالبيتها تالفة، وانتهت صلاحيتها أو تحمل تواريخ مزيفة، ويتحول كثير من التجار إلى بائعين للمواد المسرطنة في ظل غياب شامل للرقابة والمحاسبة في طول اليمن وعرضها.
ولقد أثبتُّ هذي المقارنة هنا لجلاء الأمر. وإحداث نوع من الزخم العقلي؛ للمقارنة بين الحق والباطل وبين العطاء والأخذ فقط، وبين حب الوطن والحقد على الوطن، بين من يعملون للوطن، ومن يعملون لأنفسهم!!