مقالات
عشر سنوات من الصدق والتجرّد
في الذكرى العاشرة لقناة "بلقيس"، أكتب وأنا أستحضر المشاهد الأولى، كمن يُطل من شُرفة في الذاكرة مفتوحة على عقد من الزمن.
أشم رائحة البدايات الأولى، ذلك الارتباك الممزوج بالحماس، والقلوب التي تفيض بنبض حي متدفّق، هنا أروي مسارا إنسانيا عميقا، مشهدا حيا أنا جزء منه، وما زال يشكِّل إلى اليوم خيط انتمائي ووجداني.
"بلقيس"، التي عرفتها كأول قناة إخبارية يمنية متخصصة، تحافظ على تفرّدها وسط مشهد يتآكل فيه التمايز وتزدحم فيه الأصوات، تواصل الإمساك بخطِّها الإخباري بثبات، وحتى حين قررت بجُرأة محسوبة أن تدخل ساحة المنافسة الدرامية الرمضانية، جاء ذلك تعبيرا عن قدرتها على التنويع مع صون جوهرها الأصيل.
مع تطوّر رحلتي، تشكّلت علاقتي بالقناة منذ التحاقي بها بعد أشهر من البث، باعتبارها منبرا تلتقي فيه قناعاتي بممارستي، من برنامج "لست وحدك"، البرنامج الحقوقي الذي وثّقت فيه مع زملائي ما يقرب من ثلاثمائة قضية حقوقية، إلى عملي في إعداد البرامج، تحرير الأخبار، وكتابة التقارير اليومية بمعدل يكاد يوازي عدد أيام العمل الرسمي.
العمل في "بلقيس" يتجاوز حدود الوظيفة والتوصيف الإداري، فالفريق هنا تحرِّكه قناعة راسخة بأن الإعلام، في السياق اليمني، ممارسة للمقاومة وتحمّل للمسؤولية.
كل أداء يحمل حرارة الالتزام، وكل مُهمة تنبض بإحساس يقظ، فكل جملة تكتب، وكل تقرير يُبث، وكل ملف يُفتح، يُمثل إسهاما واعيا في معركة الوعي والذاكرة.
حين أستعرض ما تعنيه "بلقيس" بالنسبة لي، أراها قبل كل شيء منحازة للناس، متجذرة في تفاصيلهم، تنقل همومهم اليومية كما تسلِّط الضوء على قضاياهم الكُبرى، هي أكثر من شاشة تنقل مشاهد عن بُعد؛ هي مرآة تعكس روح الشارع المُنهك، حرارة البيت المُهدّم، وصوت المرأة التي تبحث عن حقها وسط حالة الضياع والفشل والحرب، وارتعاشة الطفل الذي يرى الضوء للمرة الأولى بعد غارة، يرتجف بين الأنقاض، يبحث بعينيه المرتجفتين عن وجه مألوف أو حضن وسط فوضى الرُّكام، صوت الهاربين من عدسات بنادق القنَّاصين، القابعين في ظلمات زنازين الظلمة، المحرومين من المرتًَبات، الهالكين في الصحاري البديلة عن الطرقات المُلغمة.
في كل خبر يُعرض، وفي كل تقرير يُكتب، تسري روح الشاهد والمعايش، الذي يحمل وجع الناس بصدق نابع من القلب، ينقٍِب في زوايا الحكايات ليكشف جوهرها، ويبث الأمل في النفوس كواحد منهم، مشاركا إياهم ثقل اللحظة وحرارتها.
تصبح الشاشة جزءا منا، تلتحم بتفاصيلنا، يتنفَّس قلقنا وتطلّعاتنا، يُشاطرنا الارتجاف في الليالي المُظلمة، ويجعلنا نؤمن بأن الصوت الصادق يمتلك القدرة على صُنع الأمل الذي يُقاوم أدوات الخراب.
الخط التحريري، الذي تعتمده "بلقيس" يتجلى كضمير حي يسري في كل كلمة تُبث وكل تقرير يُصاغ، مشحون بروح الالتزام والمسؤولية، نابض بحس لا يخضع للمساومة، يحمل قناعة صافية وإصرارا صلبا يدفع العمل الإعلامي إلى أن يكون انعكاسا صادقا لجوهر الرسالة التي يحملها، حتى عندما تتباين وجهات النَّظر، تظل الروح التي تجمعنا روح إيمان مشترك بأن المبدأ واحد، وأن المصلحة تتجسَّد في الانتصار للناس.
يمتد هذا المسار التحريري الصارم والملتزم بروح تتجسَّد في حضور توكل كرمان، رئيسة مجلس الإدارة، التي تمثل القناة بكل وضوح الامتداد الطبيعي لقيمها ومبادئها.
تحمل توكل صوتا حقوقيا فريدا في المشهد اليمني، وهي صاحبة الصرخة الأولى التي غرست في الوعي العام يقينا بأن حرية التعبير ليست ترفا يُستدعى في أوقات الرّخاء، بل هي شريان جوهري يُغذي قدرة الناس على مجابهة شبكات المصالح وعصابات الفساد زمن السِّلم، وتتحوّل إلى سلاح وعي في زمن الحرب لمواجهة أولئك الذين يخوضون معاركهم على حساب حياة الناس وحقوقهم في الأمن والتنقل والتعليم والصحة. وقبل ذلك كله، حق الناس في اختيار من يحكم وكيف يحكم؛ كما أن حضورها الفكري والإنساني ووضوح انحيازها الصادق لقضايا الناس، يظهر نبضا أصيلا يغذي يوميا مسيرة القناة ورسالتها، ويدفعنا جميعا إلى العمل بروح مستلهمة من ذلك العُمق الذي لا يتراجع أمام العوائق، ولا ينكسر أمام الإحباط.
مع هذا الإيقاع التحريري الصارم، يبرز أحمد الزرقة، رئيس التحرير ومدير القناة، كقائد أوركسترا حقيقي، ينسِّق النّبرات، يضبط الإيقاعات، ويصب الحياة في كل تفصيل صغير، حتى تخرج الصورة النهائية نابضة ومتماسكة، معه نعمل مدفوعين بإحساس عميق بالمسؤولية تجاه الناس الذين نكتب لهم ومن أجلهم، وندرك أن كل قرار تحريري يحمل وزن أمانة لا تقاس بالعلاقات الشخصية أو الاعتبارات الهامشية، بل بمعيار جوهري واحد: ما الذي يستحق أن يصل إلى الناس بحق؟
في هذه اللحظة المفعمة بالحنين، تعود بي الذاكرة إلى خطواتي الأولى داخل مكتب القناة، إلى تلك الساعات التي تعرَّفت فيها على محرِّكها الأول، هناء صالح، المرأة المخلصة الدؤوبة التي تذوب في تفاصيل العمل بنكران ذات مُذهل، تُواصل الليل بالنهار في مواجهة ضغط المهمّة بثبات وإصرار، وما نجاح المشروع الإنساني لبرنامج "حيث الإنسان"، المموّل من "مؤسسة توكل كرمان" إلا واحدا من تجليات تجرّدها وإخلاصها.
أستعيد أيضا ساعات عملي الأولى إلى جانب مسك الجنيد ونورس عزيز، حيث تشكَّل بيننا نسيج إنساني عميق جعل من القصص التي عملنا عليها امتدادا لحيوات الناس وآلامهم، يتردد صداها في داخلنا أكثر من تردده على الشاشة، كانت لحظات الانفعال الإنساني، حين تتفجَّر الدّموع أمام قسوة الحكايات، تشهد ذوبان القشرة الرسمية التي نحاول أن نغطِّي بها وجوهنا في مواقع العمل، وما أن نلتصق أكثر بنبض الناس ومعاناتهم، حتى ندرك بعُمق أن هذه المهنة ليست تسجيلا للأحداث، ولا ترتيبا للوقائع، بل فعل انتماء يومي لجراح الوطن، ومشاركة واعية في تشكيل ذاكرة نريد لها أن تصمد أمام محاولات المحو وعوامل النسيان، وسعي مستمر لرفع وعي يستحق الصبر والرهان.
أتذكر -بمحبة وحنين وامتنان- ضيفي الأول في أولى حلقات برنامج "لست وحدك" القاضي والمجاهد الشهيد عبد الله الحاضري، بتواضعه الكبير مع علو مكانته، وصدقه المتزامن مع حرارة إيمانه، وتحليله الذكي لدوافع ما كنا نظنه قصفا عشوائيا من الحوثيين لأحياء المدنيين، فكشف لنا أنهم يعاقبون الحاضنة الاجتماعية للمقاومة، ويشعرون بعدم الانتماء إليها، وبالتالي فإن القصف ليس عشوائيا، ولكن أهداف القصف واسعة.
أتذكر كيف تعاملنا مع اتساع ميدان الانتهاكات، وكيف ذوت آمالنا بالعودة إلى اليمن بعد أسابيع من تحرير عدن، وتحوّلها إلى مرتع لانتهاكات مليشيا الإمارات، وعصابات المرتزقة العابرة للحدود، ثم شلال الدِّماء من ضحايا الاغتيالات التي كانت تختار خيرة رجال المجتمع وأكثرهم إخلاصا ومساهمة في قيادة المجتمع لمقاومة عدوان مليشيا الحوثي.
عشر سنوات نقف خلالها أمام أخبار تنحت في أرواحنا، تلامس أعماقنا وتثبت وعيا اختبره الزمن وصقلته التجربة، نواجه تحدِّيات تتجاوز حدود أي مؤسسة تبني رسالتها من خارج جغرافيّتها، بينما يعيش أفرادها القضية بكل تفاصيلها اليومية، تسكن تفاصيل حياتنا وتشغلنا في كل لحظاتنا.
كل يوم نقبل على العمل محمّلين بثقل المسؤولية، كمن يحمل الوطن كله على كتفيه، مدفوعين بيقين راسخ، وعزيمة صلبة لا تتراجع أمام الدّم المسفوك، ولا أمام الألم المتكرر، عشر سنوات كانت امتحانا مستمرا لصدق الانتماء، شيّدت فينا إيمانا عميقا بأن الكلمة حصن الذاكرة، وركيزة تستند إليها الأرواح الساعية نحو الغد.
عقد كامل مضى، و"بلقيس" تمضي بخطى ثابتة، وأنا أراها بعين من عاش تفاصيلها يوما بعد يوم، أستمد معها قوّتي من المعنى الذي نناضل من أجله، ومن الإيمان الذي صار يسري في عروقي كهوية وتاريخ شخصي.
أرى هذا المنبر جزءا من رحلتي الذاتية، من الأيام التي كتبت فيها تقاريري بعين دامعة أو قلب مضطرب، من الذكريات التي حملتها على ظهري وأنا أواجه صدمات الأخبار، من لحظات الفرح القليل والانتصارات الصغيرة التي صارت علامات محفورة في داخلي، محفورة بعمق في وجداني.
الانتماء لهذا المعنى يتجسَّد في عُمق التجربة، وفي القدرة على حمل الأمانة حتى النهاية بثبات وصِدق، ومع كل يوم يمضي تتعزز قناعتنا بأن وجود هذا المنبر فعل وفاء للناس ووفاء للرسالة، وختمه الحقيقي يُقاس بما يترسّخ في الوجدان من أثر حي وصادق، مُمتد في العقول والقلوب، حاضر بقوّته كلما دعت الحاجة إلى صوت شُجاع يؤنس وحشة الليل، وضوء قادر على كشف معالم الطريق.