مقالات
علي محمد زيد وترجمة كتاب "الدولة والقبائل في تاريخ اليمن الحديث"
الكتاب ذو المباحث المهمة للباحث البريطاني بول دريش. وبول دريش باحثٌ مهم. أحبَّ اليمن، وطاف بالعديد من مدنها وقراها وأريافها. تديّر منطقة حاشد، واندغم بأهلها الطيبين، وعاشر القبائل لأعوام، ودرس القيم والتقاليد والعادات.
على درايةٍ باللغة العربية، ويُخفِي في أحايين معرفته بها؛ ليتمكن من معرفة ما يدور حوله، وليطمئن مضيفوه إلى عدم معرفته باللغة؛ فيأخذوا راحتهم في الكلام بدون أيِّ تحفظ.
حصل على الدكتوراه من «جامعة أكسفورد» في الانثروبولوجيا عن بحثه الميداني الذي أعده حول القبائل في شمال صنعاء. و عمل أستاذًا في «جامعة متشجن» «آن اربر» التي تعدُّ من أهم الجامعات في أمريكا، ثم عاد إلى «جامعة أكسفورد»؛ حيث عمل بالتدريس والبحث حتى تقاعد.
ظلَّ يزور اليمن من آونة لأخرى إلى ما قبل سنة 2011؛ لمواصلة البحث حول تاريخ اليمن وأوضاعه الاجتماعية. وهو معروف بين الباحثين الأجانب المهتمين باليمن بالنظر إلى الأمور من زاوية بحثه؛ أي يهتم أكثر لتصرفات القبائل وعاداتها وأعرافها وحرصها على استقلالها الذاتي عن الدولة المركزية.
أما الدكتور محمد علي زيد المترجم للكتاب فهو عالم جليل. واسع الاطلاع. مثقف عضوي، ومتعدد. أستاذ أكاديمي. باحث، وأديب، وناقد. له العديد من الإصدارات المهمة، والأعمال النقدية، وأربع روايات. وهو من رموز الحركة الوطنية الحديثة، والمدافعين عن صنعاء إبَّان حصار السبعين يومًا. كان عضوًا في قيادة المقاومة الشعبية مُمثِّلاً للطلاب، وقاتلَ في موقع الأزرقين إلى جانب رفيقه الشهيد أحمد عبد الوهاب الآنسي قائد المدفعية حينها.
يقع الكتاب الكبير نسبيًّا في 411 صفحة من القطع متوسط الحجم. طُبِعَ في «مرجل للتنمية الثقافية»، توزيع «أروقة للدراسات». يشتمل الكتاب على مقدمة المترجم، وهي مكرسة عن اطلاعه عام 1989 على مُسَوَّدَة الكتاب. وقبل صدوره ببضعة أعوام لم يتردد في ترجمته؛ ليطلع عليه القارئ اليمني بشكل خاص والقارئ العربي عمومًا.
ويعدد الدكتور المترجم الأسباب التي دعته لترجمته. فأهمية الكتاب تتجلى في كونه بحثًا علميًّا وميدانيًّا كُتِبَ بمنهج رصين، ورَصدَ أوضاع جانبٍ من المجتمع اليمني، كما تناول جانبًا مما كان لا يزال حتى تلك اللحظة مجهولاً للغالبية الساحقة منه، حتى عن كثير من رجال القبائل أنفسهم.
ويشير المترجم إلى تناول فترة التجاذب بين الاستمرار، والقطيعة بين البُنى التقليدية، والمفاهيم الجديدة، ويرى أنَّ أهم مساهمة للكتاب أنه يقدم صورةً مفصلةً بعض الشيء عن الواقع القبلي شمال صنعاء في لحظةٍ حرجة.
كما يرى أنَّ الكتاب يكتسب أهمية من ناحية الريادة في موضوع لم يتجاوزه أي بحثٍ آخر، ويقدم قاعدةً فريدة يستطيع الدارس الاستناد إليها. يستجيب الكتاب لتعريف اليمنيين بأنفسهم معرفة صحيحة. فالمثقف اليمني بحاجة لمعرفة الواقع، والسياسي محتاج لمعرفة واقعٍ لم يهتدِ إلى نجاح في التعامل معه، والأجيال الجديدة محتاجة لمعرفة واقع يصيبها بالحيرة، وحاجة الرجل القبلي في رؤية وجهه في المرآة، وحق كل إنسان في المعرفة بعد نشأة أوضاع جديدة للبحث عن تراجع الحدود بين ما كان يُعرف بالشمال والجنوب.
وختامًا -كما قال المترجم-: فإنَّ الكتاب يوفر معلوماتٍ للتحليل والاختلاف معه أو الاتفاق، ولكن عن بينة، ويثنى المترجم على الباحث الأجنبي المنغرس في بيئة شديدة القسوة والاضطراب؛ مشيدًا بما قاله الباحث البريطاني الآتي من جامعة أكسفورد: "إنَّ عمله الميداني كان مصدر سعادة له".
ويقول المترجم بتواضع: "فإنني لأشعرُ بالخجل من القول أنَّ ترجمتي للكتاب بلغته المتقنة، وجمله المعقَّدة، وميله إلى استخدام المجاز والأمثلة السائرة المستمدة من لغة المؤلف ومجتمعه قد كانت مرهقة". ويضيف: "والحق ترجمتي للكتاب قد كانت في النهاية مصدر متعةٍ معرفية لاتُحَدَّ، وآمل أنْ يجد القراء المتعةَ نفسها في القراءة".
يعنون المؤلف المقدمة «مقدمة وشكر»؛ يتناول فيها قيام الباحثين الأثنوغرافيين ببسط شيء من تجربتهم، ومدى أهميتها بالدرجة الأولى للأنثروبولوجيين. ويرى أن ذلك يستغرق أغلب المقدمة. ويشير إلى بعض القضايا التي تزيد إزعاج القارئ، وأنَّ ما يهم هو الأثنوغرافيا نفسها.
ويضيف: "وأعتقد أننا ينبغي أنْ نمنح القُرَّاء ثقةً تزيد ما هو معتاد حاليًّا". ويؤكد أنه لا يمكن حل المشاكل الحقيقية لكتابة الاثنوغرافيا حلاً مُرْضِيًا باللجوء إلى التجربة الشخصية؛ مشيرًا أنَّ عمله كان ممتعًا. ويشير أن يتوقع المرء أن تكون الحياة مختلفة من مكانٍ إلى آخر، ومن زمنٍ إلى آخر، كما أنَّ العمل الميداني أقل كشفًا مما قاله فيبر عن السياسة في أنها "عملية ثقب قوي وبطيء لألواح صلبة تحتاج إلى الانفعال والتصور".
ويشير إلى صعوبة التصور. وبتواضع جم يقول: "قد لا أكون وُفِّقْتُ كثيرًا في بلوغ ما رغبت في الوصول إليه". ويرى -كباحث اثنوغرافي- أنَّه في حوار بين أطراف ثلاثة: نفسه، والمجتمع، وزملائه الاثنوغرافيين؛ مشيرًا إلى أنَّ الانثربولوجيا تراكمية، وأنه حاول تزويد اليمنيين بمادةٍ كافية تمكنهم من الاختلاف معه على المدى القصير، وأنْ يقرروا إذا رغبوا القيام بتحليل مختلف.
يشير إلى نقطتين تُسوِّغَان هذا القول؛ الأولى: أنه ينبغي أن يكون تحليل أيَّة ثقافة مفتوحًا بلا نهاية. والثانية: أن الانثربولوجيا -ذاتها- جهدٌ جماعي. يدرس ما قام به علماء الانثوغرافيا ونظرياتهم، ويتناول وصف إيفانس بريتشارد نفسه عمل الانثروبولوجيا بأنه «ترجمة الثقافة»، ويناقش نظرياتهم، ويرد على بعضها.
ويدرس تطبيق المنهج، ويرى أنه يستغرق وقتًا، ويحتاج لتماسك واتساق تام؛ لإعداد كتابٍ كبير؛ مُلحًّا على ضرورة الإنجاز. ويشرح إحساسه بالحرية، وهو يتمم شروحاتِه الخاصة، وأنَّ المنهج يفرض التزامًا على أي كاتبٍ يتبناه؛ إضافةً إلى ما يقوله الناس المحليون.
وقد زودته أعمال من سبقه بمعالم اهتدى بها، وأنه قد تأثر بالمنظر الماركسي التوسير، ويأمل أنْ لا يكون أسلوبه ولا منهجه قد تدخلا كثيرًا فيما يكتب. ويشير إلى قراءته لشتراوس، ولا علاقة للبنيوية بمبحثه؛ معترفًا بتأثير قد يصل إلى تفكيره. ويرى اتباع منهج الخصوصيات، وأنْ ينتظم الكتاب خط روائي واضح؛ مشددًّا على الاستقلال الذاتي في المجتمع القبلي، والعلاقات بين العُرْف القبلي، والتعاليم الإسلامية، أو القيم الوطنية؛ وأنه قد قابل عددًا كبيرًا من الناس أكثر مما فعل الآخرون.
يدين بالعرفان للشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، وأنَّ مجاهد أبو شوارب قد أسكنه مع حرسه، واعْتُبِرَ «النصراني حق مجاهد». تحسنت لغته العربية، وكان يتحرك مع جماعة مجاهد أينما ذهبوا؛ الأمر الذي سهل مهمته. يُشبِّه العمل في القبيلة بمسك طرفٍ من الحيوان، وأنه مَسَكَ الحيوان كله، ويَعِدُ بنشر القراءة الأخرى، ويرى أنَّ القبائل ليسوا مجتمعًا مغلقًا.
وينوه إلى مَنْ تَعرَّفَ عليهم من قبيلة حاشد، وذو محمد، ووجد صعوبةً في الوصول إلى أرحب، وسفيان، وعيال يزيد، وذو حسين بسبب الاضطرابات، و يتناول عودته الثانية، وإصابته بالكبد، وعودته إلى أكسفورد، وكتابة أطروحته. ويشير إلى عمق معرفته بالعديد من المناطق: حاشد، وبكيل؛ معربًا عن تأسفه لعدم الذهاب إلى نِهْم، وضعف معرفته بخولان، واكتسابه صداقات مع «البَيَع»، وبعض السادة، وبعض اليهود القبليين. وأغلب ما يعر ف عن حياة النساء من خلال زوجته، ومن نساء زميلات.
ويعد وصفًا لمن تعرف عليهم؛ مشيرًا أنه حرر الكتاب في «متشجن»؛ حيث منحه قسم الانثروبولوجيا إجازةً من التدريس لمدة فصل، كما منحته «كلية راكهام» للدراسات العليا زمالة خلال فصل الصيف؛ فيشكرها، ويشكر الذين ساعدوه من اليمنيين: «مركز الدراسات والبحوث»، والدكتور يوسف محمد عبد الله، وعبده علي عثمان، وحسين العمري، والدكتور علي محمد زيد الذي وفَّرَ له مُرَاجَعةً يمنية لكثير من النقاط التفصيلية.
يشكر عبد الله ذيبان من سفيان، وعلي شويط من بني صريم، ويحيى القديمي صديقًا لا غنى عنه، وعبد العزيز القديمي، وأحمد شايف القديمي، وآخرون كُثُر. ويشير أنَّ هؤلاء الأصدقاء والمساعدين يحتاج إليهم الباحثون في الأنثروبولوجيا كمساعدين، ومترجمين فوريين، وحَمَّالين، ويذكر أنَّ فقره كان موضع تندر. ويشكو من استحالة جمع نصوص مهنية من مُخْبِرين ماهرين، ولا يهتم القبيلي بتسجيل الأحاديث.
ويذكر مشروع مستقل يتناول البقايا؛ فالملاحظات تُصَاغ بعد الحديث، ويشير إلى أسماء الأماكن والنباتات. ويذكر أنَّ مَنْ عملَ معهم لم يكونوا جامعيين؛ لذلك اهتم بما لم يفكروا به؛ فظلال ما قالوا وما فعلوا واضحة. والوثائق ليست ميتة.
ويتساءل: إلى أي مدى ينشأ اهتمامي بالتاريخ من الاثنوغرافيا؟ وكم في الواقع من الأخبار الجارية يستحيل قولها؟ يشير: "أنجزت كثيرًا من العمل المثير للاهتمام حول مجتمعات ليس لها سجلات مكتوبة، وأنجزت مجموعةً من الأعمال التي تستحق الإعجاب". ويشير إلى استعماله مصطلحات «بروديل»؛ مثل La Longue Duree ؛ المدى الطويل؛ حيث الأنماط والبُنَي تفوق الأحداث في وجودها، والمصطلح الأقصر La Conjuncture؛ الظرف الآني، و L Hisoire Evenementielle؛ سرد الوقائع التاريخية الذي يتناول ما يبدو حدوثًا منفصلاً.
ويأمل أن يكون فيما سيتناوله شيء من التاريخ اليمني؛ مشيرًا إل طبقات أو شرائح تتشابك الواحدة منها مع الأخرى، ويكون التمييز بينهما واضحًا أحيانًا في المكان وأحيانًا في الزمان. يعتقد أنَّ أكثر الحجج التي قد يثيرها عمله ربما حُسِمَتْ بصورة أفضل في مقالات منفصلة، ويضيف: "لا ينبغي أنْ تكبحَ الاثنوغرافيا أو تحُدَّ من عملها؛ وإلا انتهى الذيل بتحريك الكلب".
يرى أنَّ بعض القراء سيعتبرون الكتاب في الأنساب، وبعضهم قد يراه بنيويًا، وبعضهم يظن أنه وظيفي، ومَنْ ينسبه إلى غير ذلك. ويرى -محقًّا- أنَّ الأخطاء مسئولية المؤلف. ويذكر أنَّ المشرف على بحثه في مجال الانثروبولوجيا في «جامعة أكسفورد» دوين اردنر مات قبل الانتهاء من البحث، ويشيد بدوره، وأنَّ البرت حوراني هو مَنْ أشرف على رسالته للدكتوراه، ويعتبر شكره نوعًا من الاعتراف.
ويشيد بعون الدكتور سرجنت كخير معينٍ في الشأن اليمني، ويدين لروبرت ويلسون. ويشير إلى تولي مايكل جيلسمان، وجون ويلكلنسون فحص الأطروحة. يكرر الإشارة إلى الوزن المتواضع لجهده، وسيكون -كما يقول-: على باحثٍ آخر أن يستعيد لليمن مكانتها البارزة. ويشيد بدور العلماء الذين قرؤوا مخطوطة الكتاب، ويشكر بعضًا من طلبته وأصدقائه، ويعرب عن الامتنان لميندا بابكوك التي رافقته خلال الجزء الأكبر من العمل، وأنَّ فهرسة الأعلام من عملها؛ معتذرًا لابنه باتريك الذي عاش وحيدًا مقموعًا بدراسته. ولفصول الكتاب قراءة أخرى.