مقالات
عمار العزكي وعبدالله العديني وجهاً لوجه..
حتى لو حدث زلزال في المدينة، ومات مائة ألف مواطن في يوم واحد، سيُصاب الناس بالذهول، وسوف تواصل الحياة مجراها، سيسمع شاب أغنية في سهرته، ويغازل آخر حبيبته، وسوف يبعث صديق طرفة لصديقه، ورابع سيقرأ قصيدة ثورية، وخامس سيقوم الليل ليصلي ويبتهل لله أن يلطف بأهل المدينة.
المآسي لا تلغي تدفق الحياة، ولا يجب أن تفعل، مناسبات الفرح لا تضاعف الكارثة، النشاطات الفنية ليست بلوى، ومصائر المدن والشعوب لا تتحكم بها حفلة غنائية في العيد. في كل العصور والأزمان، وتحت كل ظرف، وفي كل شعب ومدينة، يمارس الناس حياتهم بشكل طبيعي، ويحضر الفن كعنصر ملازم ودائم الحضور.
احتفلت تعز في مهرجان عِيدي في 'قلعة القاهرة'، كان الحضور لافتا ومبهجا، قضى الناس ساعات في التسلية، وكالعادة خرج علينا أصوات مستاءة من الحدث، تحدث البعض عن اختلاط الجنسين، وآخرون عن دور الحفلات الغنائية في تثبيط عزائم الناس، إلهاءهم وتأخير النصر. وطرف ثالث وجد تفسيراً للبلوى التي يعيشها المجتمع، قائلًا: لن يتغيّر حالنا ونحن نجاهر بالذنوب، ونقيم حفلات غنائية ملئية بالمعاصي والسيئات.
لن أكرر الفكرة البدهية حول الحريات المدنية للناس، وحقهم الشخصي بممارسة ما يرغبون، بصرف النظر عن الحكم الديني تجاه هذا السلوك، ولا عن قدسية الفن وأهميته كأحد أهم الابتكارات البشرية السامية في الوجود، وأعلى تجلي من تجليات الذات الإنسانية، كما لا جدوى من الدفاع عن تناغم الحفل مع طبيعة المجتمع، وحدوثه بصورة ليس فيها أي خدش أخلاقي، أو لنقل خروج عن التصور الأخلاقي العام في المجتمع.
تعالوا نتحدث عن منطقية الأفكار المعترضة على الحفل الفني في تعز، إنها ليست خاطئة فحسب؛ بل وكارثية من منظور المنطق الديني ذاته، إن ربط البلوى العامة بالفن، تبرير الكوارث السياسية عن طريق ربطها بالذنوب الشخصية -حتى لو افترضنا جدلًا وفقاً لمنطقهم الديني المتعصب، أن الغناء محرم- ترديد هذه الأفكار ليس فيه زجر للمجتمع والمساهمة في صلاحه؛ بل هي ممارسة وعظية تمثل غطاءً للفساد العام، وتخفض من غضب الناس ضده، إذ ليس من المنطق مناهضة الفساد، ما دام عقاب من الله ضد الشعب، فكيف يناهض الناس عقاب الله، بل لا طاقة لهم على مناهضته.
هناك فكرة أخطر من هذه، نابعة من ربط البلوى الشخصية بالذنب، هو أنك بهذا تلغي البعد الأخروي في الدين، وتحيل الله لتاجر، يعاقب من يذنب، ويكافئ من يحسن، هذا الربط يهز عقائد الناس الدينية ولا يثبتها، فأنت حين تربط ما يحدث للناس من مصائب في حياتهم، بذنوبهم الشخصية، تضاعف صدمتهم الدينية، حين تعترضهم مصيبة، فيصرخون: ماذا فعلنا يا رب لتصيبنا بهذه. وحين لا يجدون تفسيراً لمصائبهم تتفكك قناعاتهم الدينية وتضعف.
ما يصيبك من خير لا علاقة له بصلاحك الأخلاقي، وما يصيبك من شر لا علاقة له بفسادك الأخلاقي أيضاً، مصائرنا الشخصية لا تتحدد بناءً على قيمتنا الأخلاقية الخاصة، بل انطلاقاً من فاعليتنا البشرية العامة، إنها خلاصة لمجموعة إرادات إنسانية خارجك، تصنع مصيرك العام ولا علاقة لها بسماعك لأغنية أو إقامتك الصلاة ليلاً.
قد تحدث لك أمور سئية وأنت شخص جيد، وقد تحدث لك أمور جيدة وأنت شخص سيئ، في الحالتين الأمر لا علاقة له بتقييمك الأخلاقي، لا سوءك جلب لك مصيراً جيداً ولا جودتك كشخص هي مصدر تعاستك، الأمر له علاقة بتفاعلات كونية عامة، أنت مجرد ذرة فيها فحسب.
من زاوية أخرى، لدينا ميراث فقهي ما يزال يستجر تفسيرات تقليدية لمظاهر الحياة، منها الموقف تجاه المرأة والفن، وبالرغم أن هذا الميراث الفقهي لا يقدم آراء قطعية تجاه المرأة والفن وفيه مساحة تأويلية وجدلية، لكن التأويلات الحادة ما تزال تحتفظ بوقعها، وتسهم في تنشيط التوتر بين الميراث الديني ومظاهر الحياة الطبيعية.
القول إن الفن يُلهي الناس هو أيضاً تنشيط لمقولة قديمة، تُنسب لابن عباس، وهو يفسِّر لهْو الحديث بالقول: إنه الغناء.
هذه الرؤية التقليدية ما تزال تحتفظ بوقعها وفاعليتها لدى حُراس الماضي، مع أن مقولة ابن عباس ليست حكماً سماوياً، وإذا ما أخذناها كمقولة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، فهذا المجال متغيّر بطبعه ولا يصح استجرارها لقمع مشاعر المرء اليوم بحُجة أنها تلهيه عن الطريق السويّ أو حتى عن شؤون الدنيا.
طبيعة الحياة الحديثة اختلفت، والجيل الحديث ليس مطالباً أن يكون خشناً وجاف المشاعر؛ كي يكون بطلاً، كما أنه ليس مطلوبا من الجميع أن يتحولوا إلى جنود على أهبة الاستعداد للقتال. عكس الماضي، وما تتطلبه الحياة من قسوة لحماية الذات والمصير.
هؤلاء الملايين، الذين يشعرون بانتماء للفن، ليسوا شبابا ونساء متفسخات، وليسوا ضعفاء الهمّة، بل هم بشر يتمتعون بكامل اتزانهم النفسي، واستقامتهم السلوكية، كما لن يترددوا في الدفاع عن مصائرهم حالما استدعى نداء الواجب ذلك، ومثلما تجاوبوا مع حفلة فنية للبحث عن مساحة للبهجة في حياتهم، سبق أن تداعوا بالمئات والآلاف للدفاع عن مدينتهم.
مشكلة المتدينين أنهم غير مستعدين لتغيير نظرتهم إلى الجيل الحديث، وما يزالون يضعونه في دائرة الاستفهام والشكوكية، كلما لاحظوا نظرته المختلفة للجوانب الفنية، وانتماءه للعالم الحديث بكل ما فيه، فهم يفترضون فيه سوءاً، ويرتابون منه، مع أنهم لو اقتربوا منه لوجدوه يتمتع بكامل استعداداته النبيلة والخلاقة تجاه الحياة.
فيما مضى من الزمان، كانت العواطف والمشاعر ينظر إليها كنيقضة لشؤون العقل والحكمة، أو على الأقل معيقة لهما؛ لكن هذا المفهوم تغيّر كثيرا، فالحياة المعاصرة تكتسب العواطف فيها قدسية عالية، بل يذهب بعض علماء الإجتماع إلى القول إن المشاعر هي دين الناس الجديد، وعقيدتهم المعززة لدوافعهم في الوجود.
الخلاصة:
هناك تصاعد كبير في موقع الفن من الحياة قديماً وحديثاً، وتغيّر كبير في دور العواطف الجماعية في حياة الشعوب، وعليه فلسنا بحاجة لقمع مظاهر الفن والفرح لدى الجماهير، بحُجة أنها تضعف دوافع الناس، تشتتهم أو تؤخر النصر عنهم. بل ليس من مصلحة الدين تبخيس دور الفن، والاستخفاف بعواطف الناس الجماعية.
لقد أصبح كل ما يتصل بشؤون الفن والعاطفة والمشاعر عوامل باعثة للإحساس الجماعي، ومكوّن مركزي في صياغة وجدان الناس، وعليه، نحن بحاجة لتعزيز روابط الناس به، وبما يُسهم في تحقيق الوحدة الجماعية، وصناعة مصير تتناغم فيه شؤون الفرد ورغباته مع الشأن العام للأمة بكاملها، بدلا من تعميق الفجوة، وخلق صدام عبثي مع الناس.