مقالات
عن "طوفان الأقصى" مجدداً: هل يبدو الثمن أكبر من المكسب..؟
لعلّ أحد أكبر مساوئ النقاش في القضايا المفتوحة هو أن الجدل حولها يدور في حدود الحدث المستجد بشكل مفصول عن الصورة الكلية للقضية. وقضية فلسطين بكل تعقيداتها ميدان خصب لكل أنواع النقاشات المسلوقة والمبتورة عن سياقها. في حديثه التلفزيوني الأخير، يوم الأحد الماضي، على قناة "العربي"، تحدث المفكر الفلسطيني الشهير، عزمي بشارة، عن الموضوع، وأشار إلى هذه الجزئية.
يقول لك شخص، يتصوّر نفسه ناقدا عقلانيا للحدث: "إن قرار المقاومة بمهاجمة إسرائيل يبدو بوضوح أنه كان قرارا مرتجلا، وحماقة كاملة". ليست هذه عقلانية في التقييم؛ بل حكم إطلاقي غارق في العاطفة، وأعمى تماما عن مسار القضية.
هل كانت حماس سوف تُقدم على الفعل لو كانت تتصوَّر أن الكلفة ستكون كما هي الآن..؟ أو كان قرارها سيكون بطولياً وعقلانياً فيما لو كانت تملك توقعاً لطبيعة الرد..؟
قناعتي أن ما قامت به حماس يظل فعلاً تاريخياً جسوراً وحدثاً كامل البراعة، حتى لو امتدت الكلفة أضعاف ما قد وصلت إليه الآن. ذلك أن وحشية إسرائيل هو نهج أساسي ملازم لها بوجود فعل المقاومة وبغيابه. ثم إن اتخاذ الضحايا مبررا لوقف الفعل المقاوم -كما يزعم الناقدون- هو سلوك مختل يخلط الأسباب بالنتائج، ويُشرعن للتفريط بالحق.
إدانة المقاومة هو منطق مضلل ونقاش يدور حول الفصل الأخير من الحكاية. ذلك أن سقوط الضحايا ليس نتاج فعل المقاومة؛ بل نتاج وجود الاحتلال بالأساس. وجود المقاومة هو نتيجة لوجود الاحتلال. ما يعني أن البديهيات لا يمكنها إدانة المقاومة؛ بل يفترض بكل بساطة أن يذهب السؤال نحو السبب الأساسي للصراع. إنه وجود كيان محتل يسلب الأرض، ويقتل أصحاب الحق.
الطبيعي هو وجود مقاومة، غير الطبيعي هو وجود احتلال. ومن العبث بالمنطق المطالبة بالغاء الفعل الطبيعي لصالح استمرار القوة المحتلة. هذا منطق يتضمن تشريعا خطيرا للمحتل، وكأن وجوده هو الأساس. إنه منطق مختل يغفل الصورة الكلية للقضية، ويقدِّم تصورا مشوهاً ومجتزئاً بشكل كارثي.
حتى متى كان على المقاومة تأجيل فعلها، وبأي طريقة كان عليها أن تقوم بما قامت به..؟ وقبل هذا وبعده، لماذا قد يكون ما قامت به خطأ..؟ بأي معيار هو خطأ..؟ يبدو لي أن كل الملاحظات حول فعل المقاومة، تلك الأصوات الزاعمة صفة التعقل، لا تملك أي وجاهة جذرية في ما تقوله. إنهم يبدون ريبتهم مما جرى، دونما تقديم أي تصور بديل، والإجابة عن سؤال: كيف كان على المقاومة أن تدير مواجهتها مع المحتل؟ وما الذي يمكن أن يتغيّر في منطق الاحتلال، ولو تم تأجيل الفعل قرنا كاملا..؟
بالنظر إلى واقع المقاومة، وهي مجاميع مسلحة محاصرة من أي امداد، وكل المنافذ أمامها مغلقة، وما تتمكن من تطويره في عتادها العسكري هو جهد ذاتي يعمل داخل شروط حصار كاملة. وعليه فقيامها بحدث كهذا هو فعل منطقي. لقد حشدت كامل إمكاناتها؛ كي تُنفذ هذا الفعل، ليكون بمثابة حدثا يُعيد التذكير بالحق المسلوب، ويؤكد جدوى وجود كتل مقاومة.
بمعنى أن ما قامت به حماس هو حدث يعيد إليها فاعليتها السياسية بما يمنح فصائل المقاومة وزنها المعتبر كحامل عسكري أول للقضية الفلسطينية. وهو أمر كان عُرضة للذبول، خصوصا أن تاريخ المواجهات كله يحيل إلى مناوشات محدودة، للدرجة التي كادت إسرائيل تستبعد أي تطوّر ممكن في قوة المقاومة، وتتوهم أنها نجحت في خنقها وإبقائها رهينة لصواريخ عديمة الأثر.
الخلاصة: في مواجهة كيان محتل، يملك كل أدوات البطش وتنمو قوته بشكل دائم، وبما يجعل إمكانية اللحاق به أو تطوير قوة مضادة توازي قدراته، أمراً عسيراً في المدى المنظور، يغدو سياسية التخطيط لهجمات مباغتة مهما كان أثرها، هو قرار حكيم، ناهيك أن تكون عملية توازي ما قامت به حماس. ففي حالة كهذه، يتجاوز الفعل كل مستوى متوقع، ويغدو نصراً استثنائياً ومنجزاً ظافراً مهما كان منظارنا التقييمي.
ستنتهي الجلبة اللحظية الواسعة حول الحدث، وتؤوب الأمور إلى سلام مؤقت. ولسوف يظل الحدث، الذي قامت به حماس، فعلاً خالداً؛ مرجعية تُقاس بها قوة المقاومة، وذكرى تُبث الخوف في ذهنية المحتل، وتورث المقاومة ومجتمعها وشعوب المنطقة إيماناً حياً بأن سياسة المجابهة تجاه المحتل هي أفضل السبل لردعه.
لقد كانت الشعوب العربية على وشك الكفر التام، أو لنقُلْ كادت تذبل في أرواحهم أي وهج للقضية. لقد انطمرت أسفل هموم شعبية كثيرة ومتراكمة، وأوشكت قصة المحتل وأصحاب الأرض أن تغدو حكاية هامشية تتوارى في الخلفية البعيدة للأذهان.
أتت حماس ودفعت بالقصة إلى الصدارة، ومهما تكن الكلفة فهي ليست أمراً أكبر من الثمن الذي يتوجّب على أي شعب دفعه؛ بهدف التحرر. ناهيك أن يكون هذا الشعب فلسطين، بكل ما تنطوي عليه القضية من رمزية وصراع تاريخي ممتد واشتباك الشرق بالغرب. وتلك حكاية طويلة؛ لكن -وبعيدا عن تفاصيلها- يظل ما أنجزته حماس حدثاً فارقاً في مشوار النضال الطويل والزمن، سيؤكد أن كل التضحيات ليست بأغلى من وزن القضية.