مقالات
عندما يكون اليمنيون مجرد كرة!
لا شيء يشير إلى أن اليمنيين يتحرّكون بمحض إرادتهم. لا السلام يتدحرج إلى الأمام ضمن مسار أولويات يمنية، ولا الحرب وضعت أوزاها تحقيقاً لرغبة ومصالح داخلية.
في كل الأحوال كانت الإرادات الخارجية تتبارز على أرضنا، وكان اليمنيون وقوداً لأجندة تشتبك بدمنا، وتدير نقاشاتها وتفاهماتها وصفقاتها على طاولة لجني الثمار في الإقليم.
وحدهم اليمنيون ماتوا ويموتون بلا وجهة ولا هدف.
بعد 9 سنوات حرب، كانت تدار برغبات الفاعلين الإقليميين وحساباتهم، لا يمكن القول إن أحداً من الأطراف اليمنية لديه طريق، أو وجهة قاتل من أجلها، ثم أخذ حلفاءه بعده، أو تركهم خلفه حين توقفوا عن مواصلة الطريق.
أخفق "الجمهوريون" في السير في طريق استعادة الجمهورية، ثم رهنوا إرادتهم لمن يفترض أنه حليف مؤقت في أفضل التوصيفات، وليس صاحب القرار!
ونجح الإماميون في تحقيق ما يجيدونه دوماً: تمزيق اليمنيين ومنح بلدهم جائزة للأغراب.
لم يمنعوا السعودية والإمارات من تحقيق أهدافهما الأهم، ومنحوا إيران حدوداً محاذية للسعودية، وإطلالة مجانية على البحر الأحمر.
بدون تمكين التيار الإمامي من رقبة الجمهورية في عهد صالح ثم الإنقلاب معهم، لم يكن بوسع إيران ولا السعودية ولا الإمارات الحصول على البلد بهذه السهولة كجائزة نفوذ سهل يتم استثماره للتفاوض، وتحقيق مكاسب في ملفات إقليمية.
لا يمكن بالطبع المساواة بين الأطراف الداخلية، فالحوثية ببشاعتها وفظاعتها، ونزعتها المتخلفة، صنعت كل هذا البؤس، وقادت اليمن إلى هذا المصير.
لكن هذه المأساة الفارعة، ممثلة بسطو المليشيا على الدولة واستدعاء التدخلات الخارجية وسحب اليمنيين إلى الخلف، كان يفترض أن تتحول إلى طاقة مضاعفة لكفاح مخلص لاسترداد البلاد، وليس التبعية التامة للخارج!
حين ذهب اليمنيون إلى ما يسمى الهدنة، في إبريل 2022، كان الأمر نتيجة لتفاهمات الفاعلين الإقليميين.
كانت الرياض قد شقت قنوات خلفية إلى طهران دفعت الحوثي إلى إبرام هدنة مع السعودية، وليس مع اليمنيين!
قبلها كانت أبوظبي قد أبرمت صفقة مع طهران لوقف هجمات الحوثيين مقابل انسحاب القوات الموالية لها من سواحل طويلة على البحر الأحمر، وكانت دماء اليمنيين قد عبدتها إلى مداخل الحديدة.
ومثلما كان التوقف عن استمرار معركة "تحرير الحديدة" قراراً غير يمني، كان الارتداد عنها، وتسليمها مجددا كذلك!
سنشاهد لاحقاً سلسلة لا تنفك جسَّدت حالة استلاب تام، تحوَّلت معها الأطراف اليمنية إلى مجاميع من متفرجين، أو لاعبي احتياط في أحسن الأحوال، بينما يغدو الأغراب أصحاب قرار.
ضمن التوافقات الإقليمية، وإرغاماً لليمنيين، جرى إزاحة هادي، وإعادة هيكلة شرعيته،ثم تجلت التفاهمات أكثر بعد انتقال الاتصالات السعودية - الإيرانية من القنوات الخلفية إلى اتفاق معلن برعاية صينية.
في هذه المرحلة، تدحرجت كرة الحديث عن السلام بصورة أكبر دون أن تبلغ أي مكان، باستثناء الركل المتبادل من الأطراف الإقليمية والدولية، بينما بقي اليمنيون يلعبون دور الكرة!
لأن الأولويات الإقليمية كانت هي الاعتبار الوحيد خلف هذه التحركات، كان ميزان القوى على الأرض، يعكس حالة الاختلال بين طهران والرياض لصالح الأولى، وكانت الثانية قد اكتفت بالنفوذ الذي حازته في الجنوب.
حصل الحوثيون على كل شيء طالبوا به، ولم يقدموا في المقابل تنازلاً واحداً.
كان السعوديون على عجلة من أمرهم، ومثلما انتهى اتفاق استوكهولم "الموقع بدوافع خارجية" إلى مجرد ذكرى للتاريخ، تتحول تفاهمات الهدنة إلى ذكرى أخرى، مكّنت الحوثيين، ومن خلفهم إيران، من حيازة المكاسب بالجملة دون تقديم مقابل.
كانت اعتبارات الفاعلين الإقليميين هي الأولوية "المقدّسة"، التي تحدد التزامات الأطراف الداخلية، وكانت "الشرعية" هي الخاسر الأكبر والدائم!
التزمت مليشيا الحوثي بصورة تامة بإيقاف الهجمات على السعودية، أما الجزء المتعلق باليمنيين، وهدنة الداخل، فلم يكن أكثر من إشارات ضوئية خضراء لاستباحة كاملة لمصلحة الحوثي: لم يتوقف عن قصف مختلف المناطق بمختلف الأسلحة وشن الهجمات، ووصل الأمر حد تعطيل تصدير النفط، وقصف المنشآت النفطية، بينما جرى تقييد الحكومة اليمنية عن الرد.
هي التزمت بالهدنة، فقط؛ لأن الحوثي توقف عن قصف الأراضي السعودية!
أما عن ملف فتح الطرق، ورفع الحصار عن المدن، كتعز مثلاً، فلم يكن استحقاقاً مستعجلاً، حتى إن خارطة الطريق الأممية للحل، التي أبرمتها الرياض مع الحوثيين لاحقاً، كجزء من "الحوافز" الثمينة للمليشيا، ستوفر للحوثي جوائز إضافية: فتح بلا قيود لميناء الحديدة، ووجهات مفتوحة لمطار صنعاء، مقابل "تشكيل لجان للطرقات، وفتح تدريجي"!
ذلك يعني تخويلا تاما للحوثي لاستمرار حروبه الداخلية وحصار تعز.
نتذكر بالطبع مسألة تشكيل اللجان، وكيف تتحول المفاوضات إلى سلسلة لانهائية من الجلسات، التي لا تفضي إلى شيء، كما حدث في مفاوضات اللجنة العسكرية المشتركة في العاصمة الأردنية!
حينها قال رئيس اللجنة، الذي حصل على أحضان سعودية دافئة، إن مليشياته ستحيل تعز إلى مقبرة!
اليوم يرتفع صوت وزير الثقافة السابق، مروان دماج، بصورة غير متوقعة، محذّراً من تفاهمات تجري بين السعودية والحوثي.
قال دماج إن "هناك ما قد يكون صفقة العمر بالنسبة للحوثي".
ولأن الأمر يبدو جللاً، فقد ذهب الرجل بعيداً، وهو الوزير الصامت طيلة فترة الحرب، ليطالب "الشرعية" بمغادة حالة الذهول.
كما كان لافتاً دعوته إلى إفساد الصفقة، أو تأخيرها من خلال "معركة صغيرة لجبهة جيدة الإمداد"، محذراً من أن "الجميع يمشي إلى المسلخ" في حالة عدم وجود أي تحرك!
لقد قاتل اليمنيون منذ البدء لاستعادة بلدهم من مليشيا، تمثّل بصورة لا مراء فيها، وكيل طائفي لإيران يريد ان يستوي على ظهورهم "سيداً بأمر السماء!".
هذا الاعتبار الأهم هو الذي حرَّك حماسة المقاتلين في كل الجبهات، وليس العمل كوكلاء لمصالح واعتبارات خارجية.
وكما الحرب، فإن السلام يجب أن يمنح اليمنيين مستقبلهم المنشود، واستعادة دولتهم، أما التعامل معه كتحويلة في مسار حرب أخرى أكثر دموية بعد تفخيخه بكل عوامل الاقتتال، فإنه ليس أكثر من فخ ووهم ومتاهة أخرى.
لكن السؤال: متى يستعيد اليمنيون أنفسهم؟
إن استعادة الذات والإرادة الحُرة هي المقدّمة المنطقية لاستعادة الدولة والجمهورية.