مقالات
فقيد اليمن والأمّة القاضي محمد راشد
القاضي الجليل العلامة المثقف محمد راشد عبد المولى قاضٍ من أهمِّ قُضاةِ اليمن كفاءةً ونزاهةً وخُلقًا واستقامةً.
مأساة اليمن -عبر تاريخها الممتد والطويل- هي أنَّ القضاء فيها لم يعرف الاستقلال. فهو إمَّا طرفٌ في السلطة، أو جزءٌ من سلطتها، ونادرًا ما يكون معارضًا لها.
في المتوكلية اليمنية - دولة الاستقلال والعصر الحديث لم يعرف القضاء معنى الاستقلال، وكانَ -كشقيقاته في شبه الجزيرة العربية- جزءًا من الجهاز الإداري.
بعد ثورة الـ26 من سبتمبر 1962، كثيرًا ما تحدثت الدساتير عن استقلال القضاء، وعن السلطة الثالثة، ولكن القضاء بقيَ في الظل، وفي أحايين عُدَّ مِنْ أكثر أجهزة السلطة ضعفًا.
ومن هنا نلاحظ أنَّهُ حينما يبرز قاضٍ مؤهل وكفء ونزيه، فإنَّ الأنظار تتجه إليه، ويحظى بحب واحترام مواطنيه. والقاضي الجليل محمد راشد عبد المولى من هؤلاء القلة القليلة مِنْ القضاة في اليمن. خرج من قريته «حارات»؛ من قرى الاعبوس- تعز، إلى مدينة المدن اليمنية الحديثة (عدن)؛ مدينة العصر والتعليم الحديث. درسَ في قريته «حارات» المبادئ الأولية للقراءة والكتابة -كما تقول سيرة حياته العطرة.
كانت عدن، في بداية الأربعينات، تشهد نهضةً وتمدنًا وتحديثًا؛ فتزايدت الهجرة إليها من أرياف اليمن، وبالأخص من أرياف تعز.
قرأَ وحفظ أجزاءً من القرآن، وبدأ الدراسة الأساسية في عدن في منتصف أربعينات القرن الماضي. كانت القرى اليمنية مرتعًا للأوبئة والفقر والجهل والحرمان من الأعمال؛ فاتجه كثير من الناس إلى مستعمرة عدن الملاذ والملجأ.
يشرح -في سيرته- قصة الأمراض في القرية التابعة لحيفان، وقصة الانتقال إلى عدن. بعد استكمال دراسته والحصول على الثانوية العامة G.C.E، حصل على شهادة النجاح في مواد من جامعة كمبردج - لندن في اللغة العربية، والجغرافيا، والتاريخ، والفيزياء، والكيمياء، والرياضيات.
تبنى أخو، الدكتور أحمد راشد، دعوته إلى الدراسة في القاهرة بعد الحصول على منحة من السفارة اليمنية في القاهرة. تَمَّ قبوله في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ويشدد الفقيد على نصيحة أخيه الدكتور أحمد بالتفرغ للدراسة، والابتعاد عن النشاط السياسي. ولعلَّ هذه النصيحة والالتزام بها هما ما أفاداه النجاح في التحصيل العلمي، وفي حياته العملية.
كثيرًا ما التقينا في مقيل الأستاذ المحامي سيف أحمد حيدر مع العديد من الزملاء السودانيين، وكان القاضي الأكثر عزوفًا عن النقاش السياسي.
كطالب مجدّ ومجتهد أنهى دراسة الحقوق في أربع سنوات بدرجة جيّد؛ وفي هذه السنوات التي قضاها في القاهرة كطالب عكف على الدرس والمذاكرة، وعزل نفسه عن الصراعات السياسية والأيديولوجية؛ معطيًا تخصصه المهم جُلَّ وقتهِ، مُوقنًا بالمقولة السائرة: "العلم إنْ لم تعطهِ كُلَّك لم يعطكَ بعضه".
كان القاضي الجليل في طليعة الإصلاحات المحدودة التي شهدتها اليمن في عصرها الجمهوري في سبعينات القرن الماضي في مجال القضاء؛ فقد عاد العشرات من الخريجين من التخصصات المختلفة، وبالأخص في القضاء والمحاماة، ورفدت كلية الشريعة والقانون هذه المجالات بالعشرات من الخريجين والمؤهلين، وأُسِّسَ معهد القضاء العالي.
لم تحافظ ثورة الربع عشر من أكتوبر في الجنوب على التقاليد الموروثة من الاستعمار البريطاني، خصوصًا بعد كارثة الـ13 من يناير 1986.
في حُمَّى الصراع السياسي في اليمن، تَحوَّلَ القضاء إلى أداة طَيِّعَة بيد السلطة؛ لقمع المعارضة السياسية، وأصحاب الرأي، وكانَ -ولا يزال- الحكمُ بالإعدام أسهلَ من شُرْب الماء.
لم ترث اليمن تقاليد حقيقية لقضاءٍ كفءٍ حديث ومستقل، وتعومل مع القضاء باستهانة شديدة بأحكامه الصادرة عنه، وكان جوهر المشكلة عدم قدرة القضاة على التنفيذ، أمَّا القضاة الذين حافظوا على مكانتهم وأدائهم وسمعتهم فقليلون -وقليل ما هم-، ومن أهمهم: القاضي محمد راشد الذي فقده القضاء اليمني ووطنه اليمن والأمة العربية والإسلامية.
سِجِّلُ الفقيد في الأعمال والمؤسسات حافل، وإنجازاته طيبة ومائزة وزكية.
ربما كانت البداية في البنك اليمني للإنشاء والتعمير، وبعض المؤسسات التابعة له، ومنها في الاستثمارات: مدير عام شركة القطن. وعمل كمستشار قانوني لشركة مأرب للتأمين، وتولى مسؤولية محامي الإدارة القانونية للبنك اليمني للإنشاء والتعمير، وقاضٍ في المحكمة التجارية الابتدائية؛ وهي المحاكم التي أنشئت في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي، وأسهمَ في إدارته قُضَاة سودانيون على قدرٍ مِنْ المعرفة والخبرة، ولكن القضاة التقليديون شنَّوا حملاتٍ نكراء على هذه المحاكم، وتمكنوا من إغلاقها.
كما عَمِلَ مستشارًا قانونيًّا لبنك اليمن والكويت، ومستشارًا قانونيًّا في بنك التضامن الإسلامي، ورئيسًا للتفتيش القضائي بوزارة العدل، وعضوًا في المحكمة العليا، وعضوًا في الدائرة التجارية.
وقد أسهم بدورٍ في التدريس بمعهد القضاء العالي؛ وهو المعهد الذي يعود إليه الفضل في تخريج العشرات والمئات من الكوادر الشابة والجديدة في القضاء، وأقسامه العديدة.
وتتسع أنشطة وأعمال الفقيد في مجالات عديدة منها: التأسيس للمركز اليمني للتوفيق والتحكيم، وكان -يرحمه الله- عضوًا في مجلس إدارته.
كما كان رئيس الدائرة التجارية بالمحكمة العليا، ورئيسًا لهيئة التفتيش القضائي.
كان الفقيد نجمًا من نجوم القضاء كفاءةً وعِلمًا وإخلاصًا ونزاهةً، وإسهاماته في الحياة ثَرَّة، وعطاؤه واسع.
كتب في عدة مجلات وصحف، وحاضر في العديد من المواقع والمناسبات في مجال تخصصه وعن تجربته في الحياة والقضاء.
ويشير الزميل الباحث والموثق الصحفي الأستاذ عبد الحليم سيف إلى دور الفقيد راشد في القضاء وإصدارته:
- تطوير التشريع القضائي في الجمهورية العربية اليمنية. صدرت منه طبعة ثانية.
- علامة على معالم الإصلاح القضائي، 2003.
- دور الإدارة القضائية وأهمية قانون المرافعات: بحث مقارن، 2003.
- أوراق في الشأن القضائي، 2006.
- الحكم الرشيد: إطعامٌ مِنْ جوع، وأمانٌ مِنْ خوف.
- ذكريات في مسيرة الحياة؛ وهي السيرة الزكية التي دوَّنها بدون ادعاء أو تباهٍ. وقد كانت مرجعي فيما كتبته عنه؛ إضافةً إلى ما كتبه الزميل عبد الحليم سيف، ومعرفتي الشخصية به.