مقالات

فنانون بلا منابر.. الغناء في زمن الحرب وصالات الأعراس

24/06/2025, 12:01:20

مواجهة الجمهور تصقل الفنان بقدر ما تختبر صدق موهبته وقدرته على الأداء الحي.

ربما أضعفت التقنيات الحديثة هذا الجانب، إذ يسّرت لفنانين بلا رصيد فني حقيقي الظهور على خشبات المسارح، مدعومين بتأثيرات صوتية وإضاءة تصنع وهماً مؤقتاً.

لكن، ما يلمع تحت الأضواء الزائفة سرعان ما يخفت، وحدها الموهبة الحقيقية تبقى وتنمو.

في اليمن، عرفت الستينات والسبعينات لحظة فنية فريدة تزامنت مع حيوية ثورية شاملة، كانت تلك بدايات تشكل اليمن الحديث، وولادة جيل ذهبي أسس ذاكرة الغناء اليمني كما نعرفها اليوم. 

جيلٌ نهل من تراث ثري ومتنوع، لكنه لم يكرره؛ بل أعاد بعثه، وأضاف إليه، طوّره وابتكر أسلوبه الخاص عبره.

كانت تلك لحظة ميلاد اليمن جمهورياً وفنياً، حيث امتزجت الحرية مع النغمة، والثورة مع الإيقاع، والحياة مع الغناء.

حفلات الستينات والسبعينات كانت متزامنة مع حيوية خلاقة سرت في مفاصل البلاد، كانت اليمن تنمو وتشب في كل مجال.

أهم فناني اليمن ظهروا في تلك الفترة؛ جيل سيبقى في ذاكرة الغناء اليمني لزمن طويل قبل أن يوجد جيل آخر بمستوى مواهبه وثراء إبداعاته التي شكّلت ذاكرتنا الغنائية وما زالت حتى اليوم.

كانت تلك لحظة ميلاد اليمن ونغمة ولادتها الجديدة كبلد وشعب.

في لقاء تلفزيوني للفنان محمد مرشد ناجي، قبل سنوات من وفاته، تذكر عدن والفن؛ قال إن ثلاث حفلات جماهيرية كانت تُنظّم أسبوعياً: واحدة للفنان أحمد بن أحمد قاسم، والثانية يحييها الفنان سعد عبدالله، والثالثة هو نفسه.

أتذكر كلامه، أو أن هذا مضمون ما قاله في مقابلة مع الإعلامية مايسة ردمان:

"كنا نغني أمام الجماهير، كيف هذي الأيام فنان ولا يغني أمام الجمهور؟ ضروري الفنان الشاب يغني أمام جمهوره مش يجلس في المقيل؛ قال المعنى قال المعنى".

كان يشير إلى ما يشبه الفارق الجوهري بين زمنين: زمن يصنع الفنان من منصة واحتكاك حيّ، وآخر يصنعه المقيل.

في تلك الفترة، أُقيمت الحفلات الغنائية في عدن وصنعاء، وخرج الفنانون مع فِرقهم إلى العالم، يقدّمون الأغنية اليمنية في محافل عربية ودولية؛ سُجّلت أغانيهم في تلفزيوني عدن وصنعاء، وتداولها الناس على أشرطة الكاسيت.

بدأت موجات التطرف تنتشر تدريجياً من منتصف ثمانينات القرن الماضي، ومع الوقت بدأت الحفلات تخبو. 

تلاشت فِرق الإنشاد والرقص التابعة لوزارة الإعلام وفروعها في المحافظات بعد حرب 94.

جاءت مناسبة صنعاء "عاصمة الثقافة العربية" في 2004، وفتحت باباً لاستعادة بعض الانفتاح على دعم الغناء وإحياء الفعاليات الفنية المصاحبة لأيام عاصمة الثقافة.

توالت الوفود وتنوعت الفعاليات، ووجد بعض الفنانين الشباب الفرصة للغناء في قاعة المركز الثقافي وغيرها من الأماكن التي احتضنت الفعاليات في العاصمة صنعاء.

في 2009 نظّمت شركة "واي" حفلين غنائيين بمناسبة افتتاح خدمتها في اليمن، دعت الفنان راغب علامة لإحياء حفلة نُظّمت في ملعب المدينة الرياضية في صنعاء، والفنانة أصالة نصري للغناء في حفلة جماهيرية أُقيمت في عدن.

قبل إقامة الحفلتين، شنّ المتشددون حملات تحريض واسعة ضد إقامة أي نشاط غنائي:

خطباء حرّضوا، وحملات تعبويّة حاولت ثني راغب علامة وأصالة نصري عن زيارة اليمن، لكن إصرارهما على تحدي حملة الإرهاب، وإقامة الحفلتين في صنعاء وعدن، كان موضع إعجاب، ولاقى تقديراً كبيراً من جمهورهم في اليمن.

تلك كانت ذروة الممكن في ظل دولة هشّة، لكنها لم تدم طويلاً. 

فبعد سقوط الدولة، تعمّم مناخ العداء للفن والمرأة والفعاليات المدنية، وهو تكوين ثقافي تتقاطع عليه كل قوى الحرب، رغم تباين تموضعاتها وخلفياتها.

في الداخل، غابت الفعاليات الفنية، لكن الأغنية لم تغب. تحايلت على الحرب، ووجدت لنفسها مكاناً في بلدان الشتات، وصالات الأعراس، ومنصات التواصل، وقبل ذلك وبعده في وجدان اليمنيين، وفي حنينهم إلى بلدٍ يغني كما كان.

في هذه الظروف، برزت الأعراس صيغةً لاستمرارية الفنانين ومتنفّساً للأغنية، وفّرت لهم مصدر دخل، واحتضنت مواهب شابة، وأتاحت منبراً حيّاً وجماهيرياً لهم داخل بلدهم، وإن كان محصوراً في مساحة المناسبة.

لكن هذا الواقع، بما فيه من ضرورة، لا يخلو من فوضى وتشوهات تُضعف من قيمة الفن وصورة الفنان، وتفرض حاجة ماسة إلى وقفة من داخل الوسط الفني، تُعيد الاعتبار للفن، وتضع حدوداً للارتجال والانزلاق نحو الابتذال،

وهو ما يستدعي وقفة أخلاقية من داخل الوسط الفني، يتوافق فيها الفنانون على ميثاق شرف مهني يحترم جوهر الفن، ويحفظ كرامة الفنان وهيبة المنصة التي يغني عليها.

خطوة كهذه لتنظيم فن الأعراس لا تحتاج بالضرورة إلى نقابة، ولا يشترط لإتمامها أن تُكتب في وثيقة ملزمة.

في مرحلة اللاقانون، تنبع المسؤولية من الذات، ومن أخلاق المهنة لا من مؤسسات لا وجود لها، يكفي أن يتوافق الفنانون فقط على احترام قيم ومبادئ مهنية تحترم الفن، وتحفظ مكانتهم كفنانين.

-من أجل فن يليق باليمن وأهله: عشر وصايا لفناني الأعراس

1. احترام الأغنية التراثية: الامتناع عن تغيير كلمات الأغاني التراثية أو التلاعب بألحانها. هذا التراث ليس ملكاً خاصاً، بل إرث ثقافي يجب صونه.

2. الابتعاد عن الشخصنة: تجنّب إدخال أسماء العرسان أو الضيوف في الأغاني، لما في ذلك من ابتذال يُفرغها من معناها الفني.

3. رفض المجاملات أثناء الأداء: الكفّ عن “الترحيب” وذكر الأسماء خلال الغناء، فالأغنية ليست وسيلة علاقات عامة.

4. تنظيم المساحة حول الفنان: الحرص على منصة واضحة، تمنع التكدس والفوضى التي تُربك الأداء وتشوّه المشهد.

5. الامتناع عن تعاطي القات أثناء الغناء: خصوصًا عندما يؤثر على الأداء أو يشوّه صورة الفنان أمام جمهوره.

6. ضبط عملية التسجيل: تسجيل الأغاني بجودة لائقة، لأنها تُستمع لاحقاً خارج المناسبة وتمثل الفنان أمام جمهور أوسع.

7. احترام الزمن الفني: الالتزام بمدة معقولة للأغنية دون إطالة أو اجتزاء، فالفن إحساس لا كمية.

8. تنسيق الحضور الفني: في حال وجود أكثر من فنان، يجب التنسيق المسبق منعاً للتداخل أو الفوضى.

9. المظهر اللائق: الظهور بلباس يليق بالمناسبة وبالفن، فالهيئة الخارجية تنعكس على احترام الناس للفنان.

10. اعرف ما تحمل:

الفن ليس “طِلبة الله” وإن منحك دخلاً مادياً. إنه شكلٌ راقٍ من أشكال الحياة الإبداعية، لغةٌ من لغات الروح، وتعبيرٌ جمالي عن حضور الإنسان في هذا الوجود.

-سأختم بهذه الحكاية:

كان الفنانون زمان أمراء حقيقيين.

لجيل اليوم من الفنانين حكاياته الخاصة، لكن تبقى حكايات جيل الرواد ملهمة وتستحق أن نتذكرها.

يُروى أن الفنان الشيخ علي أبوبكر باشراحيل، حين دعاه أحد أثرياء التواهي لإحياء عرس ابنه، اشترط أن يُذبح كبش في كل خطوة يخطوها من مدخل السقيفة إلى “المخدرة” التي ستُقام فيها الحفلة، ويُقدَّم اللحم للناس في وليمة عامة.

وكان هذا الفنان إذا لمح عدم التفاعل أو بعض الضجيج أثناء أدائه، يطوي عوده ويغادر في صمت دون أن يلتفت لأحد أو ينطق بكلمة واحدة.

تلك لم تكن نرجسية، بل إحساس عميق بقداسة الفن.

مقالات

ما بعد غزة وما بعد إيران

في إعلان الحرب على غزة حَدَّدَ نتنياهو الهدف الرائس: القضاء على حماس، وعودة الرهائن. كان القضاء على حماس مَطلوبًا، إلا أنَّ الهدف مِنْ وَراء ذلك هو القضاء على غزة بحرب إبادة يشنها عبر القصف المتواصل، والحصار القاتل. وَمَنْ لم يُقْتَل بالقصف والتجويع تَقتلهُ «المساعدة الإنسانية»: الإسرائيلية الأمريكية!

مقالات

حرب إيران وإسرائيل.. حقائق صادمة ومفارقات متضاربة

بصرف النظر عن نتائج الضربات الجوية الماحقة التي شنتها القوات الأميركية على معظم منشآت إيران النووية، وما إذا كانت سوف تغير من مجريات الصراع في المنطقة، إلاَّ أن أكثر ما استرعى انتباه ودهشة المراقبين، قبل ذلك، هو سلسلةُ المفاجآت اليومية التي كشفت عنها الحرب الإيرانية- الإسرائيلية المباشرة. أولها أن الصواريخ البالستية والمسيَّرات التي زودت بها إيران أذرعها في العراق وسوريا ولبنان واليمن لم تكن، في أفضل حال، سوى أدواتٍ لتجريب أسلحتها ذات الفاعلية العسكرية الكبيرة، على غرار ما شهدناه في مواجهتها الراهنة مع إسرائيل. لكن المؤسف أن تلك التجارب لم تفد إيران، ولم تلحق أي ضررٍ بإسرائيل، بل كلفت بلدان تلك الأذرع استباحة أراضيها من قبل جيوشٍ عالميةٍ كبرى يستحيل كسرها، وأدت إلى سلب إرادة شعوب، وانتهاك سيادة دولٍ لم يكن بالإمكان التعدي عليها لولا التدخلات الإيرانية في شؤونها، فضلًا عن تدمير بناها التحتية الأساسية، وعودتها عقودًا من الزمن إلى الخلف يصعب تعويضها.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.