مقالات
في ذكرى 14 أكتوبر.. هل نحتاج "عيد جلاء" جديد؟
على مدار التأريخ، كانت كل الثورات تتحرك بدافعين اثنين: ثورة ضد مستبد داخلي، يحتكر الثروة والسلطة بيده ويعبث بحقوق الناس ومصالحهم وحرياتهم، وثورة ضد محتل خارجي، ينتهك سيادة الدول والشعوب ويتحكم بمصيرها الداخلي ويفرض نفسه وصيًّا عليها دون وجه حق.
ثورة الـ14 من أكتوبر، كانت بمثابة أعظم حركة تحرر عروبي كافح فيه اليمنيون؛ لرفع الوصاية البريطانية على الشطر الجنوبي من الوطن، لم يكن نضالهم لطرد مستعمر أجنبي فحسب؛ بل أيضًا من أجل استرداد الهوية اليمنية المغيبة وتوحيد جغرافيا البلاد المتشظية والموزعة بين إمارات وسلاطين بلا عدد.
بشيء من المفارقة يمكننا القول إن واقع الجنوب اليمني، عشية انفجار ثورة الـ14 من أكتوبر، كان يشبه الحالة الراهنة التي يُراد للجنوب أن يعيشها اليوم، حيث الجغرافيا مقسمة لكنتونات صغيرة وكل قطعة تسيطر عليها قوة معينة وكأننا نمهد لعودة السلطنات بطريقة مغايرة.
يحمل الخليج ضغينة تأريخية خاصة تجاه جنوب الوطن، مثلما هو الحال تجاه الشطر الشمالي من البلاد، إلا أن مخاوفه من الجنوب تختلف قليلا عن مخاوفه من الشمال، كما أن الأطماع تختلف أيضًا. ففي الجنوب تطمح الإمارات للسيطرة على المناطق الحيوية فيه وتعزيز نفوذها في خطوط الملاحة البحرية المطلة عليه، فيما ترغب السعودية بحيازة نفوذ خاص وقوي في المهرة وحضرموت تحديدًا ولدوافع مماثلة، ناهيك عن رغبة دفينة بالاستئثار بالنفوذ في منطقة البحر الأحمر بشكل عام.
من زاوية أوسع وكما هو معروف، فالسعودية لديها حساسية خاصة من فكرة اليمن الموحد، وقد اثبتت مواقفها طوال التأريخ اليمني الحديث، أنها لا تفضل وجود دولة يمنية قوية وموحدة، كونها تمثل تهديدًا مستقبليا لمصالحها غير المشروعة في البلاد _كما تعتقد_ بالنظر لما يمكن أن تمثله الدولة اليمنية الواحدة والقوية من نموذج حيوي يحمل كل مؤهلات النهوض داخله.
من هذا المنطلق، فإن الواقع الذي يتم تكريسه اليوم في جنوب البلاد، يتطابق مع ما تحلم به السعودية والإمارات، من بقاء الدولة اليمنية هشة، وبما يمكنهم من السيطرة عليها وتمرير أطماعهم دون وجود أي معيق حقيقي يمنعهم من انجاز أطماعهم.
نحن، إذن، أمام مطامع تقوِّض الأهداف المركزية لثورة الـ14 من أكتوبر، حيث اليمن فريسة أمام دول خارجية، ترغب بالسيطرة على موارد البلاد وتمزيق وحدتها وانتهاك سيادتها الوطنية.
وصاية عسكرية وأطماع نفوذ ورغبة دفينة بتفكيك الجغرافيا، أليست هذه الأجندة، هي أهداف مشابهة لأجندة كل محتل خارجي، ثم أليست هذه الدوافع هي المولدة لأي ثورة وطنية، ترفض استلاب الأرض والعبث بمصير الشعوب..؟! وهي نفسها دوافع ثورة الرابع عشر من أكتوبر، وصولًا لعيد الجلاء في الـ30 من نوفمبر 1967م.
ما هو صادم اليوم، ليس وجود دول خارجية تتربص بالبلاد وتضمر نوايا شريرة ضده، بل تواطؤ جهات داخلية معه؛ لدرجة تماهيها مع مشروعة بل واعتقادها أحيانًا، أن هذه القوى الخارجية، جاءت لتحقق أحلام الشعب وتساعده على الاستقلال، كما تروج لذلك قوى جنوبية مرتهنة للإمارات والسعودية.
نحن أمام أكبر عملية تجريف للمنطق وتسويق للأوهام، باسم الحرية والاستقلال، إذ كيف يمكن لدولة خارجية لديها أطماع معروفة، وتجند لذلك قوى محلية، أن تدعم خيارات الحرية والاستقلال، وهي أول من يعمل على تقويضها..؟
إن أي محتل خارجي، لا يأتي ويقول إنه محتل، هو دومًا ما يتعلل بلافتات جذابة، ويدعي أنه جاء لمساعدة أبناء البلد نفسه؛ لكن سلوكه دومًا ما يكشف عن أطماع خاصة لا علاقة لها بأبناء الأرض، وبهذا فإن توصيفه كقوة محتلة، تكون بناء على سلوكه وليس ادعاءاته.
بالمقابل، مهما بلغ المحتل من وقاحتة، فهو بالأخير يظل قوة خارجية تعرف أن بقاءها لن يدوم طويلًا ولا بد أن يغادر يومًا بإرادته أو رغمًا عنه، إلا أن ما هو أكثر حقارة، هو أن تتصدر الواجهة قوى داخلية تدعي التحرر وتعمل مع المحتل للعبث بمصير الشعب.
هذه القوى لا تكتفي بدسائسها ضد البلاد، وخيانتها الوطنية لأحلامه بالحرية والاستقلال، بل تزعم أنها تقوم بذلك بهدف تحقيق الأحلام الوطنية ذاتها، وبهذا تكون أدوات المحتل، أكثر وقاحة وحقارة منه، وبالتالي فالنضال ضدها وكشف زيفها مقدمة مهمة لأي عملية تحرير شاملة.
الخلاصة: لا يحتاج الجنوب اليوم لثورة واحدة يتخلص بها من التواجد العسكري الأجنبي في أراضيه، بل لثورتين متوازيتين، ثورة لتحرير المصير الوطني من أيدي القوى الجنوبية الناطقة باسمه والعاملة مع الخارج، وثورة لطرد القوات الخارجية المتواجدة بشكل مباشر.