مقالات
في ذكرى مؤسس الجمهورية الثانية
في اللحظات الفارقة في حياة الشعوب، ثمة رجال ينبثقون في وجه الظلام ككُوَّة ضوء، وكان عبدالرب الشدادي هو الومضة التي برقت في ليل الخيانة الكالح.
في ذكرى استشهاده التاسعة، لا يحضر الشدادي كعسكري منح القسم والشرف معناه فحسب، بل كقائد وطني استثنائي قدّم أفضل نماذج رجال الجمهورية الذين ينكرون ذواتهم ويتحلّون بقيمها.
لم يكن الرجل غريبًا عن هذا الميدان، فهو ابن شهيدٍ قارع الملكيّة وقت اشتداد الحرب الشرسة في ستينيات القرن الماضي.
ولقد سار على نهج أبيه، لكأنّ الأقدار كانت ترتّب لابن “العبدية” الأشم استكمال المهمة التي رفعت والده إلى السماء، لكنه بالتأكيد لم يكن يتوقع أن تأتي الخيانة من الجمهوريين المزيّفين الذين حكموا باسمها وسرقوها، ثم باعوها لطائفتهم بعد أن نخروها من الداخل، وسلّموها جثة جاهزة!
حين لاحت الحقيقة، كان ثمة قادة، شرفهم العسكري بلا شرف، وآخرون من ذات الصنف، كانوا مجرد بيادق في نقلات “الشيطان”، يخلعون الميري ليرتدوا “الزَّنَّة” المليشياوية محتشدين لشبههم الطائفي، يستبيحون في طريقهم كل شيء: القسم العسكري، والجمهورية، والتاريخ، وشرف البلاد، لكأنهم وُلدوا من الخيانة.
وعندما كانت البلاد تتساقط قطعةً تلو أخرى كأحجار الدومينو من صنعاء إلى شواطئ عدن، كان الشدادي وثُلّة قليلة من الضباط وأفراد الجيش يقفون مع مجاميع من القبائل والمقاومة الشعبية كعقبة أخيرة في مترس الجمهورية في مدينة صحراوية.
كادت مأرب وقتها أن تُضاف كآخر رقعة ثمينة إلى جيب الحوثي وصالح، ثم صارت بفضل الشدادي ورجال القبائل والمطارح أولى هزائم المليشيا، وأوشكت أن تكون مفتاح استعادة البلاد وبداية طريق العودة إلى صنعاء.
لم ينتظر الفريق عبدالرب الشدادي الأوامر لكي يحارب، فقد فعل كجندي رأى قلاع جمهوريته تتهاوى. وبعد تكليفه بقيادة المنطقة العسكرية الثالثة، كانت جميع مديريات مأرب المترامية تتطهّر من رجس المليشيا، ولم يتبقَّ سوى جيوب قليلة في آخر مديرياتها الشرقية بصرواح، بينما كانت طلائع الجيش تقف على تخوم صنعاء في نهم.
لم يكن الشدادي من نوع القادة الذين يديرون المعارك من غرف العمليات المحصّنة، ولا يعرف أولئك الذين يشرفون من الخطوط الخلفية، بل كان يتقدّم الصفوف وكأنه الجندي الذي يتوجّب عليه أن يقتحم خنادق العدو.
ورغم إصابته أكثر من مرة، كان يعود إلى مترسه كأنه آخر مقاتل منوط به حراسة البلاد.
ينتمي الشدادي إلى صنف نادر من القادة في هذه البلاد الشحيحة، ما جعل من استشهاده وهو يرابط في الخطوط الأمامية في جبهة صرواح خسارة فادحة وثقيلة على اليمن بصورة عامة، وعلى الجمهورية نفسها بصورة خاصة.
كان الرجل نظيف اليد، مخلصًا لليمن وشرفه العسكري، تنقّل بين الجبهات باذلًا المال، وقد غادر الحياة وفي ذمّته لائحة من الديون التي كان يوفّرها للإنفاق على الجبهات.
لم يكن يؤدي واجبه كقائد عسكري في منطقة جغرافية معيّنة، بل كان يتصرّف وكأنه القائد الأعلى في البلاد من حيث الواجب: يستقبل المقاتلين، ويرتّب الصفوف، ويوفّر المؤن.
ولكأن سقراط عندما كان يتحدث عن واجبات القائد كان يتحدث عنه: “يجب أن يعرف القائد كيف يعطي جنوده تعييناتهم وأي مؤن أخرى لازمة للحرب. يجب أن تكون لديه ملكة وضع الخطط وقدرة عملية على تنفيذها”. وقد فعل أكثر مما أتاحته الظروف، ثم ذهب لتنفيذ خطته بنفسه!
لقد أُطلق على القائد الفريق الشدادي وصف مؤسس الجمهورية الثانية، وهو لقب مستحق لقائد حقيقي فذّ مثّل الجمهورية كأفضل ما تتجلّى في الرجال حين يقاتلون تحت لوائها، يعيشون قيمها في حياتهم الشخصية وفي متارسهم، ويذودون عن سيادة الشعب، باذلين أرواحهم من أجل الحرية والمساواة والعدالة والكرامة.
كان المصاب في استشهاده فادحًا على البلاد، وقد شكّل ذلك أولى صدمات الحرب الثقيلة في حربٍ تحوّلت إلى سلسلة من الصدمات وميدانٍ لا نهائي من العبث، قبل أن تبلغ الصدمة ذروتها في الرجال.
يقتضي الوفاء للشهيد الشدادي تمثّل قيمه التي حملها وإحيائها، واستعادة نموذجه في الكفاح النزيه والمخلص، وفاءً للجمهورية التي عاشها في تفاصيل حياته وقضى من أجلها باذلًا روحه لله ذودًا عن الوطن وكرامة أبنائه، رافضًا الخضوع لأحد غير وطنه.