مقالات
منذ ما قبل جاليليو!!
منذ ما قبل جاليليو الأرض دائرية، بحسب جاليليو.. والكرة تدور، بحسب بيليه.. والدنيا دوَّارة، بحسب جِدَّتي زعفران. والدوران بالضرورة يعني الحركة، لا السكون.. حركة الزمان والمكان والبشر والأحداث.
وفي الفيزياء، كما في السياسة والتاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع، لا يتم هذا الدوران في اتجاهٍ واحد أو على نمطٍ أُحادي وبقانونٍ استاتيكي جامد. وفي إسقاط هذا المشهد على تضاريس الواقع الطبيعي المادي، يشير العظيم جمال حمدان إلى أن التاريخ جغرافيا متحركة، فيما الجغرافيا تاريخٌ ساكن.
كما أثبت العلماء - لا الفقهاء - منذ زمنٍ سحيق أن الضوء والصوت يحدثان في صورة دوائر.
وقال بعض المُفكّرين إن المجتمعات تتواجد ثم تتطور ثم تتقهقر وتضمحل بصورةٍ أشبه ما تكون بالدائرة أو الحلقة. حتى الخطوط المستقيمة في إطار هذا التصوُّر تكون حلقية. ولا تنتهي حياةٌ ما أو تتلاشى الاَّ اذا اكتملت دائرتها على نحوٍ مُغلق، لا يقبل الترابط بدائرةٍ أو دوائر أخرى. فالموت حالة قطعية من اكتمال الدائرة أو انغلاقها التام. وبرغم ذلك فإن تلك الحياة لا تفنى نهائياً بالضرورة الحتمية.
قلتُ يوماً لأحد الزملاء في سياق حديثنا الجانبي في موضوعٍ ما: أغلقْ هذي الدائرة يا صاحبي. سمعني أستاذ الفلسفة الفذ الدكتور نمير العاني، فهمس في أُذني: حسن، أنت درست الفلسفة، فكيف تتحدث هكذا عن اغلاق الدائرة؟ انتبهتُ حينها إلى المعنى العلمي، فخجلتُ من نفسي.
لا يوجد دليل قاطع في حوزتي الآن، على ما سلف من قول، أكثر مما يحدث في هذي البلاد. فإذا استعاد المرء أحداث التاريخ وحوادث الأيام في روزنامة اليمن منذ قرونٍ قليلة، سيجد الإجابة ماثلة قُبالته بوضوح ساطع.
عرفت هذه البلاد الغنى الفاحش حدَّ التُخمة في زمنٍ ما، مثلما عرفت الفقر المُدقع حدَّ المجاعة في زمنٍ آخر. وعرفت الدول الكبرى والحضارات العظمى والازدهار اللافت في شتى الفنون والعلوم والصنائع في فترةٍ من الفترات، كما عرفت في فتراتٍ أخرى: الدويلات الهامشية والتكوينات المُهلهلة والقبائل المُنحطَّة.
حكمتْها كل الأديان والمِلَل والمذاهب، وكان الناس يدخلون في دينٍ أفواجا، ليخرجون منه إلى سواه في ما بعد. وحكمتْها حتى الحركات التي اصطبغت بهويةٍ لا علاقة لها بأيِّ دين أو مِلَّة. كما تحكَّمت بها فئات أو جماعات أو أشخاص كل الأجناس والأعراق والألوان: من السكان الأصليين، ومن الدخلاء عليهم، ومن الأجانب القادمين من أراضٍ بعيدة.. ولم يبقَ إلاَّ سكان الكواكب والمجرَّات الأخرى، إنْ وُجِدوا!
اليمن من أقوى الأدلَّة على دائرية الحركة ودائرية الحدث، منذ قديم الزمان إلى هذه اللحظة. وتبقى التفاصيل منوطة بأهل الاختصاص في كل فرع من فروع المعرفة والذِكر.
ليس صحيحاً أن الزمان يتدهور، كما يرى بعضنا اليوم لحال العباد..
وليس صحيحاً أن اليمان يتقهقر، كما يرى بعضنا اليوم لحال البلاد..
فهذا وذاك قولٌ يُجانِب حقيقة المنهج العلمي المُثبت.
وقد عرفنا أن الحياة في اليمن - منذ سحيق الزمن - لم يتوقف مؤشرها عند دولةٍ ما أو جماعةٍ ما أو حدثٍ ما أو شخصٍ ما أو ملمحٍ ديني أو مذهبي أو اجتماعي أو اقتصادي من أيّ مُسمَّى، في أيّ وقتٍ البتة. إنما كان التعاقُب والتبدُّل والتغيُّر - محدوداً كان أو جذرياً - السمة الأساس في تاريخ البلاد والعباد في هذي الرقعة الجغراتاريخية المُسمَّاة: اليمن. تبدَّى ذلك منذ الأزل، وسيظل على هذا المنوال إلى الأبد.
إن أهل الحضارات أو الديانات أو الدويلات والحكومات أو الفئات والجماعات التي سادت ثم بادت - هنا - لم يدركوا يوماً هذه الحقيقة.. أو أنهم كادوا، ولكنهم أغمضوا الرؤية عنها لجهلٍ أو تجاهُلٍ أو غطرسة!
ولازالت هذه الحالة تتكرر إلى اليوم، وربما تظل على هذا النحو إلى زمنٍ غير معلوم.
ولذا، فإن مَن يُعشِّش - في هذي اللحظة - على بيضة العزَّة بالإثم، سيدرك قريباً أن هذه البيضة فاسدة، وأن ذلك العش مُتهالك، بل إن الشجرة نفسها يابسة جافة ومنخورة منذ قرون. فقط... عود الثقاب لم يتوافر بعد!
وحينها، سيعلم الذين انقلبوا... أنها تــــــــدوووووووووووووور!