مقالات

كيف عزز النصر السوري حضور تركيا

25/12/2024, 12:00:25

في السنوات الأخيرة، عززت تركيا حضورها كقوة إقليمية تسعى إلى لعب دور محوري في إعادة تشكيل التوازنات السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى.

من خلال التدخل العسكري المباشر والدبلوماسية النشطة، انخرطت أنقرة في صراعات معقدة في ليبيا، أذربيجان (ناغورني كاراباخ)، وسوريا، بالإضافة إلى تدخل محدود في كازاخستان. هذه التدخلات لم تكن مجرد استعراض للقوة، بل عكست رؤية إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تحقيق مصالح قومية، توسيع نطاق نفوذها، وتعزيز مكانتها كقوة إقليمية موثوقة.

على الساحة السورية تحديداً، يشكل الدور التركي نقطة تحول حساسة في سياق التنافس الدولي والإقليمي.

سوريا، التي تعد ساحة صراع متعدد الأبعاد، فتحت المجال لتركيا لتقديم نفسها كطرف قادر على حماية مصالحه وتحقيق مكاسب حلفائه.

لكن السؤال، الذي يفرض نفسه، هو: كيف يمكن للنصر التركي في سوريا أن يعزز مكانتها كلاعب إقليمي موثوق؟ وهل تستفيد أنقرة من سجلها الناجح في مناطق أخرى، مثل ليبيا وكازاخستان، لتقديم نفسها كحليف لا يخذل شركاءه؟

- ما الذي يميّز تركيا للعب هذا الدور

تركيا تتميّز بمزيج استثنائي من الموقع الجيوسياسي الحيوي، والتقاليد الديمقراطية، والديناميكية الشبابية، ممّا يجعلها قوة إقليمية صاعدة قادرة على لعب أدوار محورية في منطقة تمتد من البحر المتوسط إلى القوقاز والخليج العربي. موقعها بين آسيا وأوروبا يمنحها القدرة على التأثير في مسارات التجارة والطاقة والسياسة الدولية، في حين أن الحكم الديمقراطي القائم على المؤسسات والتشبيب المستمر في القيادة والسياسات يُعزز قدرتها على التكيف مع التحديات المعاصرة.

تركيا تنظر إلى نفسها كامتداد حديث للإرث الإمبراطوري العثماني، وتسعى لاستعادة دورها كقوة إقليمية قائدة من خلال مزيج من النفوذ الحضاري، الذي يُعزز علاقاتها مع الدول الإسلامية، والقوة العسكرية، التي تظهر بوضوح في دعمها لحلفائها في ليبيا وأذربيجان وقطر، وفي عملياتها في سوريا.

مع امتلاكها واحدة من أقوى الجيوش في الناتو، واستثماراتها المتزايدة في الصناعات الدفاعية والتكنولوجيا المتطورة، تلعب تركيا دورًا رئيسيًا في تشكيل التحالفات الإقليمية وحماية مصالحها الحيوية.

إضافة إلى ذلك، تشكل حيوية المجتمع التركي ودور الشباب في السياسة والاقتصاد عاملًا أساسيًا في تحويل تركيا إلى مركز للابتكار والإنتاجية. تنعكس هذه الحيوية في قدرتها على تحويل الأزمات إلى فرص، كما يظهر في تعزيز نفوذها بعد الأزمات الداخلية كالمحاولة الانقلابية عام 2016.

اليوم، تركيا تدور في صلب المعارك الجيوسياسية في المنطقة، ليس فقط كطرف داعم، بل كفاعل محوري يسعى لفرض رؤيته واستعادة دوره كإمبراطورية حديثة ذات سيادة ونفوذ عابر للحدود.

- فلسفة التدخل التركي: الأبعاد والدوافع

تعتمد فلسفة التدخل التركي على مزيج من الأبعاد التاريخية، السياسية، الاقتصادية، والشرعية. تسعى تركيا من خلالها إلى تعزيز مكانتها كقوة إقليمية مؤثرة وتحقيق مصالحها القومية. هذه الفلسفة تستند إلى ركائز أساسية يمكن تحليلها كما يلي:

تعتمد السياسة التركية على مفهوم "العمق الإستراتيجي"، الذي يبرز موقعها الجغرافي المتميّز كجسر بين الشرق والغرب.

يُسهم هذا الموقع في جعل تركيا لاعبًا محوريًا في مناطق مثل الشرق الأوسط، البلقان، والقوقاز. بالإضافة إلى ذلك، تسعى تركيا إلى استعادة دورها كقوة إقليمية كبرى مستوحاة من إرث الإمبراطورية العثمانية، وهو ما يظهر في تدخلاتها في مناطق تشهد فراغًا في النفوذ مثل سوريا وليبيا وأذربيجان.

على الصعيد الأمني، تبرر تركيا تدخلاتها في سوريا والعراق بحماية أمنها القومي من تهديدات الإرهاب الكردي (حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية).

تحقيق عمق إستراتيجي في الدول المجاورة يعزز قدرتها على حماية حدودها. كما أن التوازن بين علاقتها مع الغرب ودورها كقوة مسلمة يمنحها مرونة في إدارة القضايا الإقليمية والدولية.

تركيا تجمع بين استخدام أدوات القوة الناعمة مثل التعليم، الإعلام، الثقافة، والدبلوماسية لتعزيز نفوذها، وبين القوة الصلبة، التي تشمل التدخل العسكري المباشر، كما في ليبيا وسوريا ودعم الحلفاء كما في أذربيجان خلال نزاع ناغورني كاراباخ.

اقتصاديًا، تسعى تركيا إلى فتح أسواق جديدة وتأمين مصالحها الاقتصادية. في ليبيا، عادت الشركات التركية لتنفيذ مشاريع البنية التحتية، وفي سوريا تعمل على استقرار المناطق الحدودية لخلق بيئة اقتصادية تُخفف من أعباء اللاجئين. كما أن موقعها كممر رئيسي لنقل الطاقة بين الشرق والغرب، مثل خط أنابيب الغاز "تاناب"، يعزز من أهميتها الاقتصادية.

كما تحرص تركيا على تقديم تدخلاتها كخطوات قانونية مدعومة بشرعية دولية أو إقليمية، فتدخلها في ليبيا جاء بناءً على طلب حكومة الوفاق الوطني المعترف بها أمميا، وفي قطر دعمت الحكومة أثناء الحصار الاقتصادي بموجب طلب من حكومتها، تركيا  تسعي أيضًا لكسب دعم الشعوب المحلية من خلال الترويج لدورها كمدافع عن قضاياهم، سواء في ليبيا أو سوريا أو آسيا الوسطى.

تعكس هذه الإستراتيجية طموح تركيا المتعدد الأبعاد الذي يجمع بين الإرث التاريخي، المصالح الاقتصادية، والتحديات الأمنية.
ورغم النجاحات المحققة، تواجه تركيا تحديات كبرى في التوازنات الدولية والعلاقات مع القوى الكبرى، مما يجعل نجاح هذه الفلسفة مرهونًا بقدرتها على التكيف مع المتغيرات الإقليمية والدولية.

- ما بين تركيا وإيران

تُعتبر تركيا وإيران لاعبين إقليميين بارزين يسعيان إلى توسيع نفوذهما، ولكن تختلف أساليبهما وأهدافهما ونتائج تدخّلاتهما بشكل جوهري. تتميز تركيا بنهجها البراغماتي، الذي يرتكز على الشرعية الدولية والتوازن بين القوة الصلبة والناعمة لتحقيق مكاسب لحلفائها دون تعميق الانقسامات الطائفية. في المقابل، تعتمد إيران على مشروع أيديولوجي طائفي يترك تأثيراً مدمراً على استقرار الدول المستهدفة.
الأيديولوجيا والمصالح:
علي المستوي الإيدلوجيا والمصالح تركيا تقدم نفسها كقوة حامية للمصالح الوطنية والقضايا الإسلامية من منظور براغماتي.

تدخلاتها، مثل دعم حكومة الوفاق في ليبيا أو حماية حدودها في سوريا، تُسوّق على أنها تهدف لتعزيز الشرعية والاستقرار.

أما إيران، فتستند إلى مشروع أيديولوجي ديني عابر للحدود يعزز نفوذها الشيعي عبر دعم "ولاية الفقيه"، مما يثير حساسيات طائفية ويعمّق التوترات مع الدول السنية، كما يظهر في تدخلاتها في سوريا والعراق واليمن.

في مستوى الأدوات المستخدمة في التدخل، تركيا تمزج بين القوة الصلبة؛ مثل التدخل العسكري المباشر باستخدام الطائرات المسيّرة، والقوة الناعمة كالاستثمار والتعليم والمساعدات الإنسانية.

في كازاخستان، تدخلت ضمن إطار منظمة الدول التركية، مما يعكس التزامها بالتعاون الإقليمي السلمي، بينما ركّزت في ليبيا وسوريا على دعم حكومات شرعية أو حليفة.

إيران، على الجانب الآخر، تعتمد بشكل أساسي على دعم المليشيات؛ مثل حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، مما يثير القلق الإقليمي ويعمّق الانقسامات الطائفية والسياسية.

الشرعية الدولية والإقليمية تحرص تركيا على شرعنة تدخلاتها، مثل دعم حكومة الوفاق المعترف بها دولياً في ليبيا، أو تبرير عملياتها في سوريا بدوافع أمن قومي، كما شاركت في كازاخستان ضمن مبادرات إقليمية متعددة الأطراف.

في المقابل، تتجاهل إيران مبدأ سيادة الدول، مما يجعل تدخلاتها انتهاكاً واضحاً، كما هو الحال في سوريا واليمن، حيث يُنظر إلى وجودها كاحتلال طائفي.

التأثير علي الحلفاء حيث تُترجم تدخلات تركيا إلى مكاسب سياسية وعسكرية لحلفائها، كما حدث في ليبيا، حيث ساهمت في تغيير ميزان القوى لصالح حكومة الوفاق.
بينما تؤدي تدخلات إيران إلى إضعاف الدول المستهدفة وزيادة عزلتها الدولية، رغم الدعم العسكري الكبير الذي تقدمه لمليشياتها، كما في سوريا واليمن.

القوة الناعمة في التدخل فتركيا تستثمر في أدوات القوة الناعمة مثل الإعلام، المنح الدراسية، والمساعدات الإنسانية، مما يعزز قبولها لدى الشعوب السنية، وتُسوّق نفسها كقائد للعالم الإسلامي.
أما إيران، فيفتقر نفوذها للقوة الناعمة الكافية، حيث يرتبط وجودها بالمليشيات والقوة العسكرية، مما يخلق رفضاً شعبياً لها.

الرؤية الإستراتيجية تسعي تركيا لترسيخ موقعها كقوة إقليمية معتدلة ذات أهداف اقتصادية وسياسية واضحة، متوازنة بين علاقتها بالغرب ودورها في العالم الإسلامي.

أما إيران، فتركز على بناء محور أيديولوجي طائفي لمواجهة الغرب ودول الخليج، مما يجعلها قوة مثيرة للجدل، وغير موثوقة لدى العديد من الدول.

- تركيا في النموذج السوري نموذج التدخل المحسوب

عندما اندلعت الأزمة السورية، اتخذت تركيا خطوات حاسمة لحماية حدودها الجنوبية، مدركة أن الفوضى قد تهدد أمنها القومي.

تدخلت عسكريًا عبر عمليات محسوبة؛ مثل "درع الفرات" و"غصن الزيتون" و"نبع السلام"، بهدف القضاء على الإرهاب، ومنع إقامة كيان كردي مستقل. هذا التدخل كان مدروسًا بما يخدم إستراتيجيات تركيا في الحفاظ على الاستقرار الداخلي، وتعزيز قدرتها على إدارة الأزمات.

ورغم الطابع العسكري، لم تغفل تركيا عن الأبعاد الإنسانية، حيث استضافت ملايين اللاجئين السوريين، وقدّمت الدعم الإغاثي، ما عزز صورتها كداعم رئيسي للعمل الإنساني.

لم تقتصر التحرَّكات التركية على الجوانب العسكرية والإنسانية فقط، بل امتدت لتشمل إنشاء مجالس محلية لإدارة المناطق، التي حررتها مثل إدلب وعفرين، وإعادة تشغيل الخدمات الأساسية مثل المدارس والمستشفيات، ما ساهم في تحسين الوضع المعيشي للسكان المحليين.

كما أن الوجود التركي الفاعل في سوريا عزز من مكانتها كقوة إقليمية قادرة على التدخل الفاعل، ما يعكس قدرتها على إدارة النزاعات وحسمها بشكل إستراتيجي.

موقف تركيا من الثورة السورية يعكس رغبتها في تثبيت دورها كلاعب إقليمي مؤثر، إذ يعزز هذا الدور موثوقيتها بين الحلفاء الإقليميين والدوليين، ويثبت قدرتها على تقديم الدعم الفاعل لحلفائها في مناطق أخرى مثل ليبيا وأذربيجان. كما يعزز الوجود التركي في سوريا من قوتها الردعية، حيث يظهر تركيا كدولة قادرة على الدفاع عن مصالحها وحدودها.

إضافة إلى ذلك، يُساهم تدخل تركيا في سوريا في الترويج لنموذجها السياسي والاقتصادي القائم على الجمع بين القوة الصلبة والدبلوماسية النشطة، وهو ما قد يجذب دولًا أخرى للتعاون معها. كما يمنحها النجاح في الملف السوري أوراق ضغط في قضايا إقليمية أخرى، مثل شرق المتوسط والقضية الفلسطينية، مما يعزز نفوذها وقدرتها على تشكيل تحالفات جديدة أو تقوية تحالفاتها الحالية.

يتمثل الدور التركي في سوريا في عدة مرتكزات أساسية، أبرزها تعزيز مكانتها كقوة إقليمية حاسمة في النزاعات، حيث يعزز نجاحها في تحقيق أهدافها في سوريا صورتها كداعم رئيسي للأمن والاستقرار في المنطقة. كما ساعد موقفها في سوريا على بناء الثقة مع حلفائها، مما يعزز مكانتها كشريك موثوق.
من ناحية أخرى، عزز وجودها في سوريا قوتها الردعية وأكد قدرتها على الدفاع عن مصالحها وحدودها.

تركيا أيضًا تروّج لنموذجها السياسي والاقتصادي الذي يجمع بين القوة الصلبة والدبلوماسية النشطة، ما يعزز نفوذها في قضايا إقليمية مثل شرق المتوسط والقضية الفلسطينية.

أخيرًا، فإن نجاحها في سوريا يسهم في تحقيق مكاسب إستراتيجية طويلة الأمد، من خلال السيطرة على مناطق حيوية وتعزيز استقرارها الداخلي.

بالتالي، يظل نجاح تركيا في سوريا عاملاً مفصليًا في تعزيز حضورها الإقليمي والدولي وتحقيق مكاسب إستراتيجية على الأرض، مما يعزز استقرارها الداخلي، ويؤكد قدرتها على إدارة الأزمات بشكل فعال.

- التدخل التركي في ليبيا: استعادة التوازن الإقليمي

لقد جاء التدخل التركي في ليبيا استجابة لطلب حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا، في خطوة إستراتيجية تهدف إلى حماية المصالح الأمنية والاقتصادية لتركيا في المنطقة.

كان هذا التدخل حاسمًا في منع سقوط العاصمة طرابلس بيد قوات خليفة حفتر، وهو ما كان يمكن أن يؤدي إلى تغيّرات جذرية في موازين القوى في ليبيا. عبر دعم حكومة الوفاق الوطني، استطاعت تركيا إعادة التوازن العسكري في البلاد لصالح الحكومة الشرعية، حيث زوّدتها بطائرات مسيّرة وأنظمة دفاع متقدمة أثبتت فعاليتها في الميدان.

على الصعيد الاقتصادي، بعد استقرار الوضع العسكري في ليبيا، عادت الشركات التركية لاستئناف مشاريع البنية التحتية، التي كانت قد توقفت في ظل الفوضى. فتح هذا الباب أمام تركيا لدخول سوق اقتصادي واعد في ليبيا، بما يتماشى مع مصالحها الاقتصادية طويلة الأمد.

كما لعبت المشاركة التركية دورًا حاسمًا في استعادة مدينة ترهونة الاستراتيجية، ما غيّر مسار الصراع لصالح الحكومة الشرعية، وأسهم في تعزيز النفوذ التركي في المنطقة.

من خلال هذا التدخل، أثبتت تركيا قدرتها على الجمع بين الدعم العسكري لتحقيق الاستقرار في المناطق، التي تخضع لسيطرة حكومة الوفاق، وبين تحقيق مصالح اقتصادية عبر استعادة مشاريعها السابقة، ما يعكس إستراتيجيتها الفعالة في تحقيق التوازن الإقليمي.

- النجاح التركي في أذربيجان: نموذج التعاون الإقليمي

في صراع ناغورني كاراباخ، عام 2020، لعبت تركيا دورًا محوريًا في دعم أذربيجان، سواء على الصعيد العسكري أو الدبلوماسي. قامت تركيا بتزويد أذربيجان بطائرات مسيّرة من طراز "بيرقدار TB2"، التي كانت حاسمة في تغيير مسار المعركة لصالح أذربيجان. بالإضافة إلى ذلك، بذلت تركيا جهودًا دبلوماسية كبيرة لدعم حق أذربيجان في استعادة أراضيها، وهو ما ساعد على حشد التأييد الدولي لقضيتها.

هذا الدعم العسكري والدبلوماسي لم يكن مجرد مشاركة في صراع عسكري، بل كان جزءًا من إستراتيجية تركية طويلة الأمد تهدف إلى تأمين ممر زانجيزور، وهو ممر إستراتيجي للطاقة يربط بين آسيا وأوروبا.
عبر هذه الخطوة، عززت تركيا مكانتها كحليف موثوق لأذربيجان، وحققت مصالح إستراتيجية مشتركة مع حلفائها في المنطقة.

أثبتت تركيا في كل من ليبيا وأذربيجان قدرتها على الجمع بين الدعم العسكري لتحقيق الاستقرار الإقليمي، وبين تحقيق مصالح اقتصادية إستراتيجية طويلة الأمد. كما أثبتت إستراتيجيتها البراغماتية قدرتها على تعزيز مكانتها الدولية بعيدًا عن الأبعاد الطائفية والتدخلات العسكرية المزعزعة للاستقرار.

- بين تركيا في سوريا والتحالف في اليمن

عند إجراء مقارنة بين الدور التركي في سوريا،؛والدور الذي لعبه التحالف السعودي - الإماراتي في اليمن، نجد أن الفروقات بينهما تعكس نجاح تركيا، وفشل التحالف في تحقيق أهدافهما.
يمكن تفسير نجاح تركيا في سوريا من خلال إستراتيجيتها المتماسكة وتعاونها الفعال مع المعارضة السورية، بينما عانى التحالف السعودي - الإماراتي في اليمن من تضارب المصالح، انعدام الثقة، والخلل في إدارة الصراع، مما أسهم في تمزيق الحكومة الشرعية بدلاً من توحيدها.

-وحدة الأهداف

تلعب وحدة الأهداف دورًا محوريًا في النجاح العسكري والسياسي، وقد تجلّت هذه الوحدة بشكل واضح في سوريا من خلال الإستراتيجية التركية المترابطة. تركيا ركّزت على دعم المعارضة السورية بشكل منظم ومتسق، متبنية نهجًا طويل الأمد يحقق مصالحها الأمنية في المنطقة، مثل منع قيام كيان كردي مستقل على حدودها الجنوبية.

في المقابل، فشل التحالف السعودي - الإماراتي في اليمن؛ بسبب تضارب الأهداف؛ حيث ركزت السعودية على مواجهة الحوثيين، بينما كان اهتمام الإمارات منصبًا على السيطرة على المناطق الإستراتيجية في الجنوب، مما خلق توترات داخلية أدت إلى إضعاف الحكومة الشرعية.

- توحيد المقاومة مقابل تمزيق الشرعية

نجحت تركيا في توحيد فصائل المعارضة السورية تحت مظلة سياسية وعسكرية واحدة، مثل "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" و"الجيش الوطني السوري"، مما أسهم في إنشاء جبهة منظمة وفعالة ضد النظام السوري. في المقابل، فشل التحالف في اليمن في الحفاظ على وحدة الحكومة الشرعية؛ حيث دعمت السعودية الرئيس عبدربه منصور هادي، بينما عملت الإمارات على تقوية المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يسعى للانفصال عن الشمال. هذا التناقض بين أهداف الحليفين أدى إلى تفاقم الصراعات الداخلية بين الأطراف المتحالفة، مما أضعف الشرعية اليمنية.

- الثقة مقابل انعدام الثقة

منح الدعم التركي المستمر للمعارضة السورية الثقة لها في اتخاذ قراراتها السياسية والعسكرية، وهو ما عزز مصداقية تركيا كشريك إستراتيجي، ومنح المعارضة حرية الحركة بما يتوافق مع أهداف مشتركة.

على العكس من ذلك، أظهرت السعودية والإمارات في اليمن شكوكًا متواصلة تجاه الحكومة الشرعية وحلفائها، مما أدى إلى تدخلات مستمرة في قراراتها السياسية والعسكرية. هذا التدخل المستمر نزع من الحكومة اليمنية استقلاليتها، وقلل من مصداقيتها أمام الشعب اليمني.

- الأهداف المتناسقة مقابل المصالح المتضاربة

على الرغم من أن تركيا كانت تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة في سوريا، مثل ضمان أمن حدودها ومنع قيام كيان كردي مستقل، إلا أن هذه الأهداف كانت متوافقة إلى حد كبير مع أهداف المعارضة السورية. هذا التوافق بين الأهداف السياسية والعسكرية ساهم في نجاح تركيا في تحركاتها.

في اليمن، كانت أهداف التحالف السعودي - الإماراتي متناقضة بشكل واضح؛ حيث ركزت السعودية على مواجهة الحوثيين في الشمال، بينما كانت الإمارات تهدف إلى ترسيخ وجودها العسكري في الجنوب والسيطرة على الموانئ، مما قوّض التنسيق بين الجانبين وأضعف التحالف العربي.

- العمل المؤسسي مقابل التدخل العشوائي

إن إنشاء المؤسسات الحكومية الفعالة في المناطق المحررة كان أحد العوامل الأساسية، التي ساعدت تركيا في استقرار المناطق السورية التي حررتها من سيطرة النظام.
تركيا تعاونت مع المعارضة لإدارة هذه المناطق بشكل مؤسسي، مما ساعد في توفير الخدمات الأساسية واستقرار الوضع المحلي.

في المقابل، لم يكن لدى السعودية والإمارات نفس الاهتمام بتأسيس مؤسسات مستقرة في المناطق المحررة. بل استثمرتا في دعم مليشيات متفرقة، مما أدى إلى غياب الاستقرار وضاعف من تعقيد الوضع في اليمن.

إن التجربة التركية في سوريا تكشف عن أهمية الإستراتيجية المتماسكة، وتوحيد الأهداف، وبناء الثقة بين الأطراف المعنية لتحقيق النجاح في الصراعات الإقليمية. في المقابل، أدت المصالح المتضاربة والتدخلات العشوائية في اليمن إلى إضعاف التحالف السعودي - الإماراتي، مما أفسح المجال أمام المزيد من الانقسامات والصراعات الداخلية التي كانت في النهاية على حساب الحكومة الشرعية.

- الخاتمة

تمكنت تركيا من بناء نموذج سياسي فريد يجمع بين الشرعية الدولية، المصالح الوطنية، والدبلوماسية الفعالة، وهو ما مكنها من تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية بشكل ملموس.

في مناطق متعددة مثل سوريا، ليبيا، وأذربيجان، أظهرت تركيا قدرة استثنائية على التكيف مع الأزمات المتسارعة، مستفيدة من الفرص السياسية والاقتصادية لتعظيم مكاسبها على المدى الطويل.

في سوريا، كان التدخل التركي نموذجًا لتوظيف القوة العسكرية بأسلوب محسوب، مما سمح لها بحماية أمنها القومي من تهديدات الإرهاب والتوسع الكردي، وفي الوقت نفسه استضافة الملايين من اللاجئين السوريين، مما عزز من مكانتها كداعم رئيسي للعمل الإنساني في المنطقة.

وفي ليبيا، لعبت تركيا دورًا محوريًا في دعم حكومة الوفاق الوطني، مما ساهم في تحقيق التوازن العسكري والسياسي على الأرض، وأدى إلى تعزيز نفوذها في البحر الأبيض المتوسط.

أما في أذربيجان، فقد ساعدت تركيا على تعزيز موقفها في القوقاز، مشجّعة على التعاون العسكري والاقتصادي مع باكو، وهو ما نتج عنه انتصار أذربيجاني في نزاع ناغورني كاراباخ.
ومع كل هذه النجاحات، يبقى التحدِّي الأكبر أمام تركيا في قدرتها على الحفاظ على هذه الديناميكية المعقدة في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية المتزايدة.

فعلى الرغم من قدرتها على استثمار الفرص وتكييف سياستها الخارجية مع المستجدات، فإن تركيا تجد نفسها في مواجهة تحدّيات عدة تتراوح بين العقوبات الاقتصادية الغربية، والتوترات مع جيرانها في الشرق الأوسط، إلى جانب التنافس المتزايد مع قوى إقليمية ودولية تسعى للحد من نفوذها.

كما أن السياسة التركية تعتمد بشكل كبير على قدرة الدولة على موازنة علاقاتها بين قوى كبرى؛ مثل الولايات المتحدة وروسيا، بالإضافة إلى إدارة التحالفات مع الدول الأوروبية والعربية.

ومن هنا، يصبح السؤال المطروح أمام تركيا هو مدى قدرتها على الاستمرار في تعزيز دورها كقوة إقليمية فاعلة، قادرة على التأثير في القضايا الإقليمية والدولية الكبرى، دون أن تتعرَّض لضغوط تؤثر على مصالحها الوطنية.

في هذا السياق، يبدو أن التحدِّي الأكبر يكمن في القدرة على الحفاظ على هذا النموذج المتوازن بين القوة الصلبة والناعمة، وبين الالتزام بالشرعية الدولية، وبين السعي لتحقيق مصالحها الحيوية في ظل عالم متعدد الأقطاب.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.