مقالات
ما بين الحميني والعربية الفُصحى!
الإبداع يستدعي لغة جديدة قادرة على استيعاب نبض الحياة، وما تمور به من معانٍ وتجارب.
اللغة ليست حالة منفصلة عن الفكرة التي تحملها، ليست وعاءا محايدا، اللغة جزء متمازج مع ما تحمله من أفكار ومعانٍ وأحاسيس مكثفة بالكلمات والجملة والأسلوب.
الشعر الحميني خرج عن جمود وهيمنة "العربي الفصيح" شعراً ولغة، ولكنه لم ينزلق إلى العامية، وأبدعت لغته الشعرية الغنائية بلاغتها وتفرّدها وإلهامها وثراءها واكتمالها وغنائيّتها اليمنية العربية الفصيحة في الصفحة المفارقة هذه، الواقعة بين "العربية الفصحى" و"العامية".
كان الشعر الحميني بدايةً من رواده الأوائل في فترة الدولة الرسولية تعبيراً عن الخصوصية اليمنية وثقافتها وشعرها الغنائي وفنها، وتأكيداً لهذه الروح الإبداعية الباحثة عن تأكيد فرادتها وثرائها أمام هيمنة "المركز العربي"، وهيمنته اللغوية الثقافية والسياسية.
-الهوة بين "العربية الفصحى" ولغة الحياة اليومية: قفزة إلى القرن العشرين!
لفهم السبق الزمني للشعر الحميني في ابتكار لغة حية للكتابة «الشعر الغنائي في حالته»، والتحرر من جمود العربية الفصحى، والإدراك المبكر لروّاده لأهمية تجديد اللغة وربطها بالحياة، سأتخطى بدايات الشعر الحميني، بمسافة سبعمئة عام.
سأبدأ من النصف الثاني للقرن العشرين.
خارج ثنائية الكتابة باللغة العربية الفصحى واللغة العامية، توجد ثنائية مختلفة هي موضع اِهتمامي في مفتتح هذا المقال؛ ثنائية خلقتها الهوة التي تفصل "العربية الفصحى" عن لغة الحياة التي يعيشها الكاتب.
كل كتابة إبداعية يجد صاحبها نفسه أمام تحدٍ مزدوج؛ التحرر من جمود العربية الفصحى، وابتكار لغة حية قادرة على الاتصال بالحياة، وما تمور به من تجارب، وتنتجه من معنى، دون الوقوع في مزالق «العامية اليومية».
في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت ثنائية اللغة بين فصحى كلاسيكية ولغة الحياة التي يعيشها الكاتب موضوعا لمؤلفات عديدة؛ واحد منها كتاب هشام شرابي «النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي».
يصف رولان بارت اللغة بأنها مؤسسة اجتماعية ونظام قيم في آن. وبتعبير هشام شرابي، فإن ما يكتب بواسطة اللغة، يتضمن حقائقها الموضوعية ونظام قيمها.
مدخل الدكتور هشام شرابي يبدأ بتحديد "العربية الفصحى" بأنها لغة النظام الأبوي، التي تعمل على صياغة سُبل المعرفة: المعتقدات والتصورات والمعلومات والوعي بالذات وأنماط إدراك الذات، وعلاقاتها الخاصة بثقافة الأبوية المستحدثة، والتعبير عنها في الخطاب.
إحدى الخصائص المميّزة لما نطلق عليه "العربية الفصحى» هي الثنائية القائمة بينها وبين اللغة المحكيّة في الحياة اليومية. هذه الثنائية لا تقوم على الفصل بينهما، فحسب، على أساس الفرق بين الفصحى كلغة للكتابة الأدبية والأخرى «العامية»، بل على أنهما لغتان متمايزتان، مترابطتان بنيةً إلا أنهما مختلفتان في المضمون.
«هذه الثنائية أدت إلى ترسيخ الانقسامات الاجتماعية، وطمس الأساس المادي للتباين الثقافي بين النخب المهيمنة، والثقافة الشعبية وإرثها الأدبي الثقافي والاجتماعي. وعليه فإن المعرفة باللغة العربية الكلاسيكية الفصحى أصبحت أداة تملكٍ ونفوذٍ وتمييزٍ».
لا أوافق الدكتور هشام شرابي في مبالغته التي ذهبت إلى حد تشبيه الهوة بين العربية الفصحى ولغة الحياة اليومية بالاختلاف القائم بين الفرنسية المعاصرة واللاتينية الوسطى، ومع ذلك فإن اللغة العربية الكلاسيكية الفصحى، رغم أنها لم تفقد الصلة كليا باشتقاقاتها بحسب عبدالله العروي، غدت أشبه باللغة الجامدة، وتفتقر إلى نبض الحياة ودفقها.
يقول هشام شرابي:
"لا يستخدم أي مجتمع آخر لغته الكلاسيكية كما هي عليه دون تبديل في وسائل الاتصال العادية والخطاب الرسمي.
اللغة تكون الفكر. واستخدام الفصحى الكلاسيكية يحمل معه قدرتها على فرض أنماطها وبناها على كافة الصياغات اللغوية.
الفصحى الكلاسيكية تستخدم الألفاظ الرنانة والمفردات الخطابية، وهي ناتجة ومنتشرة في ظل حماية السلطة السياسية الحاكمة والنظام الديني السائد. إن هذا الخطاب مهيأ للتعبير عن نوع خاص من الوجود، ولتنظيم اللامعقول».
الخطاب الأحادي، في منظور المفكر والمؤرخ هشام شرابي، لا يصدر عن السلطة فحسب بل عن اللغة نفسها أيضا، فهي تحبّذ الخطابة، وتحبط من عزيمة الحديث الحواري. إن الغرض من النص المكتوب بلغة فصحى كلاسيكية هو تثبيت الهيمنة، وليس التنوير والتفكير النقدي، واستقلالية الفرد.
"العربية الفصحى" ترسّخت كأداة للخطاب التقليدي الأحادي، وتمازجت معه لتكون واحدة من خصائصه.
الخطاب الأحادي، كما يُستبان من رؤية هشام شرابي، يستثني الخلاف في الرأي وينبذ التساؤل الحر، وينهض على توكيد راسخ بكونه خطابا نهائيا. خطاب هيمنة على مستويين: المستوى الظاهري للنص بكليته، والمستوى الباطني للمقولات اللغوية.
ويمكننا بسهولة فهم المستوى الأول، في ما يمدنا به من تعابير بلاغية وشكلانية. يستمد هذا الخطاب مغزاه الضمني من بنية اللغة نفسها، وليس ممـا ينطق بـه الفرد.
-النغمة اليمنية وفرادة التجديد اللغوي في الشعر الحميني
دعوني ألخّص صِفتين أساسيتين للتجديد الإبداعي الذي جاء به الشعر الحميني؛ لغةً ومضموناً:
الأولى، ابتكار لغة شعرية غنائية قادرة، بحسب الأستاذ جعفر الظفاري، على "خلق النغم النابع من لغة الحديث اليومي، وتكثيف الشحنة الإيحائية التي تتوهّج من الألفاظ اليمنية المصطفاة من قاموس لفظي معروف في جميع أنحاء اليمن، والوقف المتولّد من حذف حركات الإعراب، وجرس الألفاظ المنتخبة، وأنغام التراكيب اللغوية والنحوية، والالتفات النغمي الذي يغاير الالتفات الموضوعي".
الثانية تفسَّر بتاريخيّتها: تأكيد الثراء الثقافي اليمني، ما اقتضى الانفلات من هيمنة المركز العربي الثقافية واللغوية.
استخدم الشعر الحميني مفردات يمنية خارج قاموس "الفصحى العربية" بحذر وبشرط أن تكون معروفة في كل المناطق اليمنية، وكأنّه هنا قام باستخدام لغة يمنية فصحى تتحرر من العربية الفصحى لشمال الجزيرة المعتمدة مقياسا لغوياً، بنحوها، قاموس مفرداتها ، مع إجادته لكل مضامينها البلاغية، مضامينها لا شكلياتها.
قراءة التجديد، الذي قام به الشعر الحميني في زمن الدولة الرسولية، يوضح أن هذا الشعر الغنائي اليمني خرج عن «العربي الفصيح» بحثا عن تجديد في المضمون، ولم يفارقه إلى بنية عامية مختلفة. إن مضامينه التي عبّر عنها لم تكن «العربية الفصحى» قادرة على استيعابها.
والغرض من استخدام الألفاظ اليمنية غير العربية "وضعاً، وصرفاً أحياناً" يُفسره الأستاذ جعفر الظفاري بأنه جاء "توظيفاً لما تحمله هذه الألفاظ من طاقات إيحائية لا توجد في نظائرها العربية، ودونما النظر في استبدالها بالنظير العربي. وفي وسع المرء من الناطقين بالضاد قراءة نماذج من الشعر الحميني، متحدرة من القرن الثاني الهجري حتى يومنا هذا، وتمثله والاستلذاذ بأنغامه الشجية، ولكن عين هذا المرء لا يستطيع قراءة أزجال ابن قزمان وغيره من الزجالين العرب، والاستمتاع بأنغامها؛ لأنه لن يفقه لها معنى، إذ أن هذه الأزجال في لغة عامية مستهجنة لا تمت كثيرا بصلة للسان العربي الفصيح".
إن الشعر الحميني كان تعبيرا عن الواقع اليمني، ثقافته وأدبه ونبض حياة، ناسه، وتجاربهم، وأحاسيسهم، وليس تعبيرا عن نخبة مهيمنة تحتكر لنفسها إجادة الكتابة الأدبية ب"العربية الفصحى" المفارقة للحياة، التي تمور حول الكاتب وفي واقعه الحي.
في تحديد رومان جاكوبسون لأنظمة الكلام يشير إلى ذلك بقوله: "لا يتوجب تعريف نظام كلامٍ ما بقدر ما يُتيح لنا هذا النظام قوله، بل بقدر ما يضطرنا هذا النظام إلى قوله".
نفهم جيدا هنا نظرة العلماء والمصنِّفين العرب الذين نبذوا الشعر الحميني؛ لأنه وفق منظورهم "يلقى هوًى في نفوس من حادوا عن منهج الحياة الأعدل!، وجانبوا سُلم القيم الإسلامية الأصلية!، فأفرغوا مضمونات عبثهم ومجونهم في التراكيب القافوية المختلفة للحميني، وبألفاظ وتعابير ينفر منها الطبع السليم!".
تميّز الشعر الحميني بكونه التجديد الأدبي المعبّر عن نبض الحياة في اليمن، إنه لم يكن مفارقا لنخبة الحكم أيام الدولة الرسولية، وإنما نشز متمازجاً مع نخبتها، وفي ظل رعايتها، وذلك يوضّح أن هذه النّخب لم تكن على قطيعة مع حياة المجتمع اليمني وثقافته، وإنها أكثر تعبيرا عنه، واقترابا منه.
والأمر كذلك، ما الذي فارقه الشعر الحميني بلغته الفريدة والجديدة؟
إضاءة هذا الجانب من منجز الشعر الحميني لا يمكن فهمه بمعزل عن تاريخيّته، والواقع السياسي والثقافي الذي نشأ فيه داخل اليمن، وحولها في المركز العربي للدولة العربية الإسلامية.
نستبين ذلك بتوسيع الدائرة باتجاه المركز العربي، و"العربي الفصيح" المعتمد لديه.
-"العربي الفصيح" ومقياس العربية الفصحى لشمال الجزيرة
اللغة كائن حي، وتتشكّل عبر مراحل زمنية متتالية تؤثر في بنيانها وتراكيبها ولهجاتها، وتتأثر بأحداث التاريخ ونشوء الدول، وإندثارها. إلقاء نظرة سريعة في مراحل التاريخ القديم، سيجد القارئ بعدها أن جُل اللغات البشرية الراهنة لم تولد دفعة واحدة بالصورة المعروفة اليوم في عالمنا، وأنها تطورت من لغات أقدم منها، وأنها نتاج لمرحلة طويلة تفاعلت فيها لغات عديدة ولهجات ونظم وأعراق ودول، ومن ولم تكن قديما بصورتها الراهنة في عالم اليوم.
اللغة العربية واحدة من هذه اللغات، ومرت بما تمر به أي لغة من تأثيرات وتغيرات حتى وصلت إلى الشكل الذي نعرفه بها اليوم.
اعتبر الشعر الحميني خارج العربية الفصحى؛ لأنه استخدم ألفاظا عربية فصحى من لغة عربية استخدمتها بعض القبائل اليمنية قبل الإسلام، ومفردات من اللغة اليمنية العربية الجنوبية القديمة «الحميرية»، ولأنه أهمل الحركات الإعرابية «النحو»، واستبدلها بالوقف على السكون، والمبرر الثالث أنه ليس ضمن فنون الشعر العربي التي يعتمد «الحلي» مرجعاً أساسياً لها.
كل هذه المبررات تفصح -بصيغ متعددة- عن هيمنة المركز العربي الجديد في شمال الجزيرة بعد الإسلام.
ما اعتُمد بعد ظهور الإسلام باعتباره لغة عربية فصحى هي لغة قبائل شمال الجزيرة الست، التي فرضتها، وأقامت النحو عليها، فبدت في أحيانٍ كثيرة مخالفة للغة اليمن، ولغات بقية القبائل في شمال الجزيرة نفسها، ووسطها وغربها.
يمضي الظفاري في دراسته البحثية عن الشعر الحميني، مستعرضاً أسس تشكّل النحو واللغة العربية، قائلاً:
«لقد جمع علماء اللغة الكلام العربي الفصيح، ودوّنوه وسجّلوه حفاظاً عليه، وصيانة له. ورجع النّحاة إلى أولئك اللغويين، فرأوهم يأخذون أكثر اللغة من بعض القبائل الضاربة في وسط شبه الجزيرة العربية، مقتصرين في الأخذ على نحو ست من تلك القبائل، تاركين ما عداها من باقي القبائل العربية (غير اليمنية)، التي تتجاوز الثلاثين قبيلة. فاستنبط النّحاة من لغات تلك القبائل الست قواعدهم، وكادوا يقتصرون عليها، ولكنهم لم يستطيعوا استيعاب اللغات واللهجات الخاصة بتلك القبائل الست، يدلك على ذلك، ويهولك ما ترى من تشعّب الآراء، وكثرتها، وتنافرها في كتاب "همع الهوامع" للسيوطي».
«وازدادت المشكلة تعقيداً بازدياد هجرة القبائل إلى الأمصار الجديدة، فتباينت اللغات في المواطن الجديدة تباينها في المواطن القديمة؛ فنشأت اللهجات، ثم جاء التدوين والتأليف والتعليم، فنشأت الفِرق والمذاهب النحوية وأنصارها - ما بين بصريين، وكوفيين، وبغداديين، وأندلسيين، ومغاربة - كل فريق يستمد أحكامه، ويستنبط قواعده، من اللغة التي تحيط به، وتشيع في حاضرته. فاتسع ميدان الفوضى النحوية، وكثر المضطربون حوله».
لم يناقض علماء العربية الفصحي اللغة العربية الجنوبية في اليمن فحسب «العربية والحميرية»، بل إنهم ناقضوا لغة القرآن الكريم.
لنقرأ قول الظفاري في هذه الجزئية: «لقد أنزل القرآن الكريم عربياً، وباللسان العربي المبين، وأجمع الكل على أنه أعلى مراتب الفصاحة. وقد رجع النحويون إلى شواهد القرآن، وأجمعوا على أن القرآن موضع الاستشهاد والاحتجاج بكلامه، جملةً وتفصيلاً. ولكنهم ناقضوا أنفسهم حين زعموا بأن القرآن قد يحوي القياسي وغير القياسي. فكيف يوفــق بـيـن قــولهـم إن القرآن فصيح، وموضع الحجة، والإشارة إلى أنه قد يحوي غير القياسي، وهذا عند جمهــور النّحاة لا يقاس عليه؟ وكيف يأتلف هذا مع الإجماع على أنه أسمى بلاغة عند العرب؟».
يسترسل شرحه هذا موضحاً: «إن الغرض من وضع قواعد "النحو العربي" بين، ويفترض أن تساعد قواعده، الكلية والجزئية، على إصابة الضبط الإعرابي المؤدي إلى كشف المعنى وصحته، وإقدار المتكلم، أو الكاتب، على سلامة الحركات الإعرابية، وما يتصل بها في سرعة ويُسر. ولكن ما وضِع من النحو "العربي" لا يفي بالمرام؛ إذ إن فيه تعويقاً، ومشقة، وتخليطاً، فوق مــا فيــه مــن تشعيب وإفاضة تحيّر العقل، وتكد الذهن، ولا تساعد على تفهم، ولا إجادة».
ينتقل الظفاري إلى تفكيك مقولة أن الشعر الحميني ليس نظما عربيا فصيحاً، من المزعم المحوري للحلي الذي كان، وما زال معتمد مؤرخّي الأدب العربي، من مستشرقين وعرب، أورده بعبارات الحلي نفسه:
"ومجموع فنون النظم عند المحققين سبعة فنون لا اختلاف في عددها بين أهل البلاد، وإنما الاختلاف بين المشارقة والمغاربة في فنين. والسبعة المذكورة هي عند أهل المغرب ومصر، والشام الشعر القريض، والموشح والدوبيت والزجل، والمواليا، والكان كان والحماق، وأهل العراق، وديار بكر ومن يليهم، يثبتون الخمسة منها، ويبدلون الزجل، والحماق، بالحجازي والقوما، وهما فنان اخترعهما البغاددة".
يعلق الظفاري علي الحلي بقوله: «يبدو أن الحلي لم يكن يدري بأن أهل اليمن لهم سبعة فنون شعرية أخرى (وربما أكثر تغاير)، في أغلبها، الفنون التي ذكرها».
في نهاية المطاف، يتجلى الشعر الحميني صورة مُثلى لنغمة اليمن، معزوفتها الأكثر جمالاً، مفرداتها النابضة بالحياة، وتعبيراً فذاً عن روح الأمة اليمنية، وأصالة لغتها، أسلوبها، ومضامين شعرها الغنائي، وما حملته كلماته من إحساس أنيق بدأ تحليقهُ في الأعالي قبل سبعة قرون ونيف، ليصل إلى أقاصي لم يطأها أحدٌ غيره.