مقالات
محاولة في فهم الانتحار
لربّما يكون الانتحار هو أكثر الظواهر البشرية غموضاً من بين كل الظواهر النفسية في تاريخ العلوم الإنسانية، ذلك أننا أمام موضوع يصعب الإحاطة به بشكل دقيق واختبار كل تفاصيله، للوصول لسردية شارحة للحدث بصورة دقيقة. وغموض الظاهرة هنا لا يعود إلى طبيعتها المعقّدة والمنغلقة فحسب؛ بل لغياب الطرف الأساسي في الظاهرة، وهو المنتحر، ما يجعل كل محاولات دراسة الظاهرة تعتمد على مصادر ثانوية، هما ما تركه المنتحر خلفه من آثار مكتوبة أو رواية أقاربه عن شخصيته وحياته.
ما سبق يفسّر لنا لماذا يحتدم الجدل كثيراً بعد كل حادثة انتحار، وتتعدد التأويلات لدرجة التناقض، فالجميع هنا لا يفسّرون الواقعة بأسبابها الفعلية، بل انطلاقاً من أثرها النفسي وموقفهم الأيديولوجي إزاء حادثة الانتحار بشكل عام. ما يعني أن كل حديث يعقب حادثة انتحار غالباً هو حديث ذاتي، يبوح فيه المتحدّث بمشاعره، وغالباً ما يكون منفصلاً تماماً عن التفسير الواقعي للحادثة كما هي وبشكل محايد.
نحن إزاء حدث ملتبس، ينبرِئ فيه الأحياء لمدافعة واقعة الانتحار وحراسة أنفسهم منها؛ كنوع من الدّفاع عن حياتهم أمام حدث سالب للحياة، ويظهر ارتباكهم كتعبير جلي يكشف عجزهم عن احتواء أثر الحادثة في نفوسهم، ومع تعدد حالات الانتحار، تطفو السجالات المتكررة نفسها كل مرّة، ولا يكادون يحسمون أمرها أو يتوصلون لأي خطوط تفسيرية جامعة ولو بحدها الأدنى.
ولا شك أن هذا التخبّط، يعود -كما أسلفنا ابتداءً- إلى غموض ظاهرة "الانتحار".
يكمن غموض الانتحار، في كونه خلاصة لسردية طويلة عاشها المنتحر، بكل تفاصيلها وتقلباتها ومنعطفاتها وصراع داخلي طويل عاشه على امتداد سنوات عديدة، وصولا لتلك النهاية، وهو ما يجعل القدرة على التقاط دوافع وأسباب الظاهرة، معقّد كثيرا، بل إن المنتحر نفسه لو عاد لما استطاع تحديد الأسباب الرئيسية لقراره "الانتحار"، ذلك أنها مجموعة متداخلة من المشاعر والمواقف والأحلام والخيبات والتراكمات، والطبائع النفسية والواقع المعيشي، كلها تفاعلت مع بعضها واختمرت وصولا للحظة الانتحار.
غير أن غموض الظاهرة لا يعني أنها مستعصية على الشرح كلياً في حقل الدراسات المختصة بها، فثمة حزمة من المحددات تمنحنا صورة تفسيرية مقرّبة للانتحار، فالمنتحر هو شخص فقدِ كل أسباب البقاء، وتقطّعت كل روابطه بالحياة، وذلك أمر لا يحدث فجأة بل يأخذ مساراً متدرجاً حتى يكتمل، وهو مسار يمكن تشخيصه، وبما يمكّننا من مدافعة الظاهرة وفهمها؛ بل وتلافيها كثيراً.
في نموذجه التفسيري للظاهرة، يطرح توماس جوينر -وهو عالم نفس أمريكي- مجموعة من المعايير المفسّرة لتطور الحالة، متى وجدت في الشخص تكون مؤشراً على وجود خطر يحيط بحياته. يفيدنا نموذج جوينر بالقول:
"إن أحد أسباب الانتحار في الحقيقة هي تطوير المقدّم عليه لحالة عدم خوف من الموت، لكن قبل الخوض في تلك النقطة دعنا أولا نتعرف إلى ما يسميه جوينر 'الرغبة في الانتحار'، وهي أن يطور الشخص أفكاراً انتحارية لكنّه لا يقدم على الانتحار بسببها".
بحسب جوينر: هناك معياران أساسيان يجب أن يوجد كل منهما معاً ضمن أفكار شخص ما عن نفسه لتطوير الرغبة في الانتحار، الأولهما هو "الانتماء المحبَط" الذي يتعلق بشعور الشخص أنه وحيد ومنعزل بالكامل عن العالم من حوله ولا ينتمي إليه، وفقدانه الرابط بينه وبين المجتمع من حوله، سواء كأشخاص -أصدقاء وأقارب- أو حتى الوطن نفسه، يتسبب في ذلك أيضا أن يفتقد الشخص حالة "العناية المتبادلة"، أي أن يفتقد الشخص وجود أشخاص يعتني بهم ويعتنون به في حياته، كالأولاد -مثلا- الذين يحتاجون لأبيهم.
المعيار الثاني من نموذج جوينر الذي يكوّن الرغبة في الانتحار: "تصور الشخص أنه عبء"، أي أن ينظر الشخص إلى نفسه على أنه عبء على الآخرين من حوله، حيث يكوّن فكرة فحواها: "موتي أفضل من حياتي بالنسبة لهم"، وغالبا ما يندمج الإفصاح السابق مع رسالة أخرى متكررة لذاته يقول فيها: "أنا أكره نفسي"، فيقلل كثيراً من تقديره لذاته، ويشعر بالعار واللوم الدائم لنفسه، وغالبا ما يقترن ذلك بحالة من التوتر الشديد، يحدث ذلك لعدة أسباب تتعلق بالبطالة مثلا: التشرد، السجن، الحياة بلا منزل، المرض الشديد، خاصة مع تقدم العمر والحاجة إلى الرعاية من قِبل الآخرين، الإعاقة، أو أي ظروف تدفع به لتكوين أفكار كتلك.
ما سبق ليس كل شيء بالنسبة للمؤشرات المنذرة بخطر على حياة الشخص، لكنها إطار عام لحالة شعورية مضطربة وملئية بالهواجس والملامح السلوكية المتعددة، داخل هذين المعيارين، الشعور الشديد بالوحدة والتأنيب الدائم للنفس، تتناسل كل الاختلالات النفسية وصولا لاتخاذ القرار بنفي الحياة.
لا يتخذ المنتحر قراره فجأة، ذلك أن غريزة البقاء شديدة المقاومة وتظل تعمل داخل النفس مهما بلغت درجة انهيارها، وطوال المراحل الزمنية التي يمر بها الشخص قبل انتحاره، تكون هناك إمكانية عالية لإنقاذه، حتى اللحظة الأخيرة، وقد حسم الشخص قراره نهائياً.
يمرّ المنتحر بأطوار نفسية عديدة ومتصاعدة، يفكّر بالانتحار مرات متكررة ويؤجّل قراره عشرات ومئات المرات، وطيلة زمن تردد الفكرة بداخله، يطلق المنتحر نداءات متفرقة وبطريقة غير مباشرة، تلك الإفصاحات تكشف جانبـاً من طبيعة الظاهرة، إنه يبحث عن من ينقذه ويعيد إليه وهج الحياة المنطفئ بداخله.
وفي علم النفس فكرة مهمّة تقول: إن كل من يطلق عبارات متكررة حول نيّته بالانتحار، يتوجّب أخذ قوله بجديّة، حتى لو قالها مزاحا، ومهما كانت نسبة صحتها، تظل مؤشراً على وجود نوازع خفية باتجاه الفكرة، وتخفي وراءها علامة على تهتك روابط الحياة داخله.
ما يمنحنا فكرة مهمة أن الانتحار ليس سلوكا حتميا، بل خيار قاسٍ، يلجأ له شخص يشعر بأن كل الدروب مغلقة أمامه ولا يتصوّر النجاة إلا عبر تلك النافذة الموحشة، إنه هروب من حياة ميتة نحو موت يفترض فيه حياة أو خلاص، أي أن المنتحر هو شخص باحث عن فرصة للحياة في هاوية يظنها أهون من الحياة المعاشة، التي يتهاوى فيها كل يوم.
إن المنتحر هنا شخص لا يهدف إلى التخلص من الحياة بذاتها، بل يسعى لتخليص نفسه من ألم داخلي عميق لا أحد يدركه سواه، عذاب نفسي طويل، لا يرى له من مخرج سوى نفي نفسه.
لدينا فكرة شعبية مسطحة وغير دقيقة بخصوص المنتحر، إذ غالبا ما يُقال عن المنتحر أنه شخص ضعيف وجبان، والحقيقة ليست كذلك، فالمنتحر ليس شخصا ضعيفا ولا هو قوي أيضاً، ليس جباناً ولا شجاعاً، هو إنسان طبيعي ينطوي على كل المشاعر المختلطة والمتناقضة؛ لكنه مرهق جدا، لدرجة عجزه عن احتمال وجوده، هو بحاجة لمن يسنده فحسب؛ كي يستعيد طاقته على الحياة بمفرده.
المنتحر هو شخص فقدَ معنى الحياة، وحين يقرر التخلص من ذاته فهو يتخلص من جثة فحسب، أي أنه لا ينهي حياته وهو حي، هو لا ينتحر إلا لكونه قد غدا ميتاً منذ زمن، ميتاً من داخله، وما عاد يطيق حمل جسده خارجه.
أخيراً: ثمة طرق كثيرة إاسناد الأشخاص ذوي الميولات الانتحارية، وبشكل مُجمل يتوجّب اتخاذ كل التدابير المعززة لروابطه بالحياة، إخراجه من عُزلته، تكثيف التواصل معه، إحاطته بالحب وإشعاره بأهمية وجوده، وإذا كانت الحالة متقدّمة، يتوجب تشخيصه طبياً وإخضاعه لجلسات دوائية متكررة، ذلك أن السبب المركزي للانتحار له علاقة بأمراض نفسية، يمكن الشفاء منها، حالما داومت على علاج منتظم.
الخلاصة: بوسعنا محاصرة ظاهرة الانتحار وحماية الكثير منها، نحتاج إلى مراكز متخصصة لرصد الظاهرة، وتقديم الدعم النفسي للأشخاص الذين يعانون من أعراض متعلقة بالظاهرة، كما يتوجّب تجاوز الثقافة المجتمعية السلبية إزاء المشكلة، فنحن في مجتمع لا يرى من مهمّة له سوى كيل السخط، ولوم الضحيّة بدلا من مساعدته قبل وقوعه في الهاوية.