مقالات
مدرسة الاجتهاد وجهودها في كسر احتكار المعرفة (1)
استطاع اليمنيون -خلال القرون الهجرية الأولى- أن يقدّموا نموذجا ملهما في بناء الحضارة الإسلامية، خارج بلادهم، كما استطاعوا في عصور الانحطاط، التي عاشها العالم الاسلامي بأكمله، أن يعيدوا الكرة في توجيه أنظار الأمة الإسلامية على مدى فاعليتهم من الناحية الفكرية والنظرية -رغم حالة الانحدار والتمزق السياسي الذي كانت تعيشه البلد- وذلك من خلال ما قدّمته مدرسة الاجتهاد اليمنية من إنتاج معرفي ملهم، يهدف إلى رفض التعصب المذهبي، وفتح باب الاجتهاد، ومحاربة التقليد، وتجديد الفكر العربي والإسلامي من داخله.
فقراءة عابرة لبداية انطلاق الحضارة الإسلامية تؤكد على عبقرية اليمنيين وقدراتهم على لعب الأدوار الهامة في تشييد صروحها، سواء من الناحية الإدارية، أو الفكرية، وهو أمر ينبغي أن يلفت انتباه الدارسين لتاريخ المجتمع اليمني، كما يقول الدكتور نزار الحديثي. إذ كيف لعب أهل اليمن، وكيف تمكّن شعب ممزّق أن يلعب ذلك الدور الحضاري المشرق في بناء الحضارة الإسلامية، خارج أرضه؟!
منذ بداية القرن الثالث الهجري، كانت اليمن منقسمة على ذاتها، فقد تعددت الصراعات، والتمردات، ونتيجة لذلك تعددت مراكز السلطة، وتعزز نفوذ بعض الأسر، والقوى الاجتماعية في البلاد.
لم تتمكّن دولة من الدول من البقاء والحفاظ على السلطة بصورة متواصلة في اليمن، خلال العهد الإسلامي، بما يمنحها إمكانية ترسيخ بقائها واستمرارها واستقرارها.
لكن، أمام ذلك هناك تيارات ومذاهب يمنية تمكّنت من البقاء والاستمرار كلاعب مهم في الساحة السياسية، ولعلّ أهم هذه التيارات "المذهب الزيدي"، الذي تميّز عن غيره من المذاهب في الساحة اليمنية بامتلاكه رؤية سياسية للحكم، ومثله المذهب الإسماعيلي، غير أن الأول استطاع ان يكتسح الأخير، بينما كانت المذاهب السنية في اليمن بعيدة عن التنافس، والتصارع على السلطة، وإن ظهرت قوى سياسية تنتمي إليها، فإن المذهب لم يكن هو المحرك الرئيسي وراء صعود القوى، والأسر الحاكمة، بينما كان له دور جبّار في الحياة الفكرية، والعلمية في اليمن.
لقد حقق المذهب الزيدي كرؤية ونظرية ومذهب فقهي تواجدا في اليمن منذ دخول الإمام الهادي منطقة صعدة 284ه، لكن مع ذلك لم يصبح المذهب غالبا من الناحية الفقهية في تلك المنطقة (صعدة) إلا حوالي القرن السادس الهجري، أيام أحمد بن سليمان الذي توفي 566ه، ولم يحقق الهادويون أي حضور من الناحية الفقهية على مستوى اليمن بأكملها، كما لم يتمكّن أي مذهب آخر أن يحقق ذلك.
ويبدو أن نشاط المذهب الزيدي، من الناحية الفكرية، توسّع إلى صنعاء وذمار في ظل غياب واختفاء العامل السياسي، وهي الفترة التي توهجّت فيه المطرفية، خلال زمن الدولة الصليحية، حيث "يدل عدد انتشار الهجر واتساع نطاقها الجغرافي -خلال العصر الصليحي- على أن المطرفية لعبت دوراً في نشر المذهب الزيدي في اليمن، وخاصة في مناطق جنوب صعدة وحتى ذمار" [ولفرد مادلونج، "أصل مصطلح الهجرة باليمن"، ص71، ترجمة د. علي القباني "مجلة المسار"، عدد 15].
كانت الزيدية السياسية بفعل شبكة هجر العلم، التي تم إنشاؤها في نجد اليمن، تكتسب العديد من الأنصار، والمؤيدين، وتتغلغل بأيديولوجيتها السياسية في الكثير من الأماكن، والمناطق، "وعندما تمكّن أئمة الهادوية الجارودية من السيطرة الفكرية في بعض مناطق اليمن، أدخلوا نظريّتهم في الإمامة ضمن مقررات أصول الدّين، وتداولها الأتباع كواحدة من المسلَّمات التي يبدو الخلاف فيها غريباً ومستنكراً، ولكنها مع ذلك لم تتحول إلى قناعة راسخة عند جميع الزيدية، بل وُوجهت بمقاومة شديدة في مختلف المراحل" [محمد يحيى سالم عزان، "الجارودية انتماء زيدي بأفكار إمامية"، صــ63، مجلة "المسار"، العدد الأول، السنة الحادية عشرة، 2010م، مركز البحوث والتراث اليمني، لندن]. وقد كان يتم تكريسها من قِبل العلماء في عقول الناشئة، وفي وعي المجتمع على أنها أصل من أصول الدين، ومع مرور الأيام رسخت لدى بعض من سكان المناطق اليمنية، أن أي صيغة أخرى للحكم هي خروج من الدّين.
لقد تشابكت العديد من الأسباب والعوامل في بقاء واستمرار المذهب الزيدي كقوة حاضرة ومستمرة على الساحة السياسية، ومنافسة، ومقاتلة على السلطة، وأهم ما أعطاه تلك القدرة هو السعي نحو الحكم مستندا على الفكر، ودوافع الهيمنة الثقافية، التي ربطت السياسة بالتوحيد، وجعلت الإمامة جزءا من أصول الدين، لا يكتمل إيمان الفرد إلا باعتناق ذلك.