مقالات
مدرسة الإحياء واليقظة الوطنية (2-3)
رغم تعدد المذاهب والمدارس الفكرية داخل المجتمع اليمني، فإن انخراط بعضها لتحقيق أهداف سياسية جعلها تشكّل عبئاً اجتماعيا وسياسياً في حياة اليمن، ورغم ما قدّمته من إنتاج معرفي غزير، فإنها لم تتمكّن من تقديم حلول ناجعة، أو ناجحة في جانب إصلاح، مسألة السلطة السياسية.
يعتبر المذهب الزيدي في اليمن صاحب رؤية ونظرية سياسية واضحة لا لبس فيها أو غموض، لكن نظريته القائمة على حصر الإمامة في البطنين، فضلا عن عدم تمذهب اليمن بأكملها به، فإنه داخل المنتمين إليه لم يتمكن من تنظيم وإصلاح عملية تولي الإمامة، وانتقالها بين من يحق لهم الوصول إليها، أو تحقيق أي استقرار، واكتفى علماء المذهب الزيدي في سعيهم الحثيث والمتواصل على تأكيد أحقية آل البيت في الولاية، والإمامة، دون أن تستقر الأوضاع لصالحهم جميعاً، أو لصالح فرع من فروعهم، فقد اشتعلت الخلافات بين أحفاد الإمام الهادي، الأمر الذي دفع بالقبائل في صعدة لخلعهم جميعا، كما ظهرت الخلافات والمنافسات والمشاحنات بين فروع الأسر المختلفة، مثل الخلاف بين آل الهادي، وبين القاسم العياني وأولاده، ثم بين الأشراف الحمزيين وآل الهادي، ومثل ذلك بين آل القاسم بن محمد وآل شرف الدين...الخ
يقول الدكتور أحمد قائد الصايدي في رسالته للدكتوراة: "لم تشهد اليمن استقرارا خلال التاريخ الطويل للإمامة، التي انحصرت مهامها -كما يستقى من كتب الزيدية أنفسهم- في إقامة الحدود الشرعية، وقبض الواجبات. وباستثناء بناء المساجد، فإن مهام الإنشاء والتعمير لم تكن واردة ضمن مهام الدولة الزيدية، بل قد يقدم إمام على قطع الأعناب والزرع في منطقة، بحُجة أن أهلها لم يقيموا صلاة الجماعة". [أحمد قائد الصايدي، "حركة المعارضة في عهد الإمام يحيى"، ص27]، ويرجع السبب في عدم الاستقرار في اليمن -كما يؤكد ذلك تاريخ الإمامة- إلى الأسس التي تقوم عليها "فالنظرية الزيدية كانت في حد ذاتها سببا مولدا لصراعات دائمة، حين أعطت المشروعية لكل فاطمي تتوفّر فيه شروط الإمامة أن يخرج داعيا لنفسه، وحين أجازت خروج أكثر من إمام في منطقتين مختلفتين"، ["المصدر السابق"، ص 28]
وقد خلصت الدكتورة سلوى المؤيد، في رسالتها للدكتوراة حول التناقضات في السلطة الزيدية، إلى أن "ظاهرة تعارض الأئمة أدت إلى قول علماء الزيدية المتأخرين بعدم قطعية الإمامة بمعنى أنها ليست مسألة أصولية ويجوز فيها الاجتهاد، ولا يترتب على الموقف منها أي تفسيق أو تكفير"، ولعلّ الإمام عز الدين بن الحسن كان من أنصار هذا الرأي، كما ورد في كتبه، مثل "المنهاج في شرح المعراج".
وقد قادت مثل هذه الرؤى إلى الانفتاح أكثر على مذاهب أهل السنة، وظهر المجددون الكبار، الذين يرفضون صراحة القول بحصر الإمامة في قريش أو في البطنين، أمثال الإمام والمجتهد المطلق صالح بن مهدي المقبلي، والمجتهد الحسن الجلال، وهؤلاء كانوا أكثر قَرباً من أهل السُّنة.
خلال العهد الأول من حكم الدولة القاسمية التي ورثت السلطة بعد خروج العثمانيين من اليمن 1635م، استقرت الأوضاع لعقود قليلة، لكن سرعان ما خرجت المناطق اليمنية تباعاً عن حكم أئمة الدولة القاسمية، وتفككت مناطق الجنوب والمشرق إلى أكثر من 25 سلطنة ومشيخة، بسبب المظالم الاجتماعية التي ارتكبتها دولة الإمامة، فقد اعتبر الإمام المتوكل إسماعيل الذي توحّدت اليمن في عهده، مناطق الوسط، والجنوب، والمشرق، بلاد فتح، وعامل أهلها معاملة أهل الذمة في أخذ الزكاة، بينما تعد اليمن منذ عهد النبي (ص) أرضاً عشرية، بل إنه اعتبر كل ما بأيدي السكان ملكا له، وقد تصدّى له في ذلك علامة اليمن المجتهد الحسن الجلال، وابن أخيه المؤرخ الكبير يحيى بن الحسين بن القاسم، والعديد من علماء الزيدية، والشافعية. وفي الفترة اللاحقة، ارتفع صوت العالم المجدد محمد بن إسماعيل الأمير بعدد من القصائد الناقدة والرافضة لتلك الفتاوى الإمامية:
خراجية صيّرتم البلاد كلها
وضمنتم العمّال شر المعاشر
وكذلك العالم الكبير الحسين بن عبد القادر كوكبان، وله في ذلك أبيات شعرية منها:
قالوا إمامهم إسمـــــاعيل عالمهــم
أفتـــــــــــــــــــــــــاهم بمقــــال فيـــه برهـــــــــــان
يقول إن جنـــــــــــود التـرك كافــــرة دانت لهـــــــم من جميع القطر بلدان
وبعدهم قــد ملكناها بقوتنـــــــــــا صارت إلينا حلالاً بعدمــا بانــــــــــوا
وكل شخص من الزراع عاملنا على الذي بيديه أينمــــــــا كانـــــــــــــــــوا
ولعلَّ أبرز مثال على زيادة الضرائب، وبمسميات مختلفة، التي دفعت السكان إلى التمرد والخروج، ما ذكره يحيى بن الحسين في أحداث سنة 1085ه/1674م، في كتابه "بهجة الزمن" بأن الضرائب المفروضة على اليمن الأسفل من غير الزكاة، وزكاة الفطر قد تضاعفت منها: "مطلبة الصلاة لمن صلى أو لم يصل، ومنها مطلبة الرياح، ومنها مطلبة البارود والرصاص، ومنها مطلبة سفرة الوالي، ومنها مطلبة دار الضرب، ومنها ضيفة العيدين والمعونة ... ولم يكن في اليمن الأعلى من هذه المطالب، إلاَّ مطلبة ضيفة العيدين والمعونة".
ويرى يحيى بن الحسين أنه حتى وإن كان اليمن الأسفل كثير الخيرات والمحصولات، بالنظر إلى اليمن الأعلى، فإن الواجب الرفق والعدل. ولا نزيد على الطين بلة. فكان -على سبيل المثال- علي بن الإمام المتوكل قد أرخى العنان لأصحابه، "يفعل كل منهم ما أراد في جهاته، ويحبسون من شاؤوا، ويعملون ما أرادوا".
لقد اعتبر أئمة القرن السابع عشر بلاد اليمن الأسفل كفار تأويل، وكان ذلك ناتجا عن فتوى للإمام إسماعيل بن القاسم، وهذا ما جعل من المظالم الاجتماعية، والسياسية بفتاوى مذهبية، تضاعف من الاحتقان والتمزّق في البلد اجتماعيا، لكن بمجيء مدرسة الإحياء والمجددين في اليمن بدأت هذه المقولات تختفي، و"بحلول القرن الثامن عشر لم يصبح هذا التصنيف محل نظر فحسب، بل رفضه علماء الحديث في صنعاء صراحة. وهذا ما أكسب علماء الحديث في اليمن الأعلى حب الشافعية في اليمن الأسفل وتهامة، ويعد ما أسبغه علماء بيت الأهدل من مدح على الشوكاني دلالة مهمة على ذلك" [برنارد هيكل، "الإصلاح الديني في الإسلام"، ص 402 - ترجمة الدكتور علي محمد زيد].
لقد تم وضع أصول الدين، وتحديدا، من قِبل التيارات التي سعت إلى السلطة، من خلال صياغة بنية مغلقة من المفاهيم والتشريعات، وتم ربط التوحيد بالسياسة، بحيث يعتبر الخروج أو رفض المفاهيم السياسية خروجاً، ومروقاً عن الدين، ولذلك كان الحديث عن الاجتهاد والدعوة إليه تهدف بالأساس إلى مواجهة هذه الآفة، وكانت الخطوة الأولى لضرب هذه المفاهيم، هو في تقويض فكرة التقليد، والتوسّع بفكرة الاجتهاد، وخلق سلطات معرفية أخرى تشكل منافساً للسلطات التقليدية، وتكسر احتكارها للحقيقة.
أمام التنافس والتكالب على السلطة، وعدم الاهتمام بأحوال المجتمع، ورعاية مصالح الرَّعية، والعجز عن تقديم رؤية تشريعية تأخذ بها كافة البلاد، ويتفق عليها العباد، من قِبل السلطة الحاكمة، كان من الضروري أن تخرج من رحم معاناة المجتمع شخصيات بحجم الوطن، تعمل على توحيد الوجدان الجمعي لليمنيين، وقد بدأت براعم ذلك ببروز العلماء المجتهدين من أمثال العلامة والمجتهد اليمني المطلق محمد بن إبراهيم الوزير (775- 840 هـ)، والمجتهد المطلق صالح بن مهدي المقبلي (1038 - 1108 هـ)، والمجتهد المطلق محمد بن إسماعيل الأمير (1099 - 1182 هـ)، ووصل الأمر إلى ذروته مع ظهور شخصية شيخ الإسلام المجتهد المجدد محمد بن علي الشوكاني (1173 - 1250 هـ)، الذي قاد عملية إصلاح ديني، وصلت إلى خارج حدود اليمن، وأثمرت توحيدا للتشريعات الفقهية في البلاد، أسهمت في نهاية المطاف في تحقيق ائتلاف وجداني بين اتباع المذاهب المختلفة، كانت خاتمة هذا المشروع الإصلاحي، الذي ابتدأ بضرب القواعد الفكرية للإمامة، وانتهى بإزاحة القواعد السياسية للسلطة الحاكمة التي تستند على المذهب، في منتصف القرن العشرين، وذلك مع بروز تيار حركة "الأحرار اليمنيين" في ثلاثينات القرن العشرين.
لقد كان أحد الأهداف الكبرى لمدرسة الإحياء والتجديد في اليمن "هو تخليص البلاد من الصراعات السياسية الحادة التي تجر أبناءها إلى التناحر والخلافات المغطاة بقشر خفيفة من المذهبية التي تقود إلى الطائفية، وتجعل العلاقة بين أبناء الشعب الواحد قائمة على التنافس والخصام، وأحياناً تكون أداة تقسيم للوطن الواحد، وثغرة ينفذ منها أعداء الشعب، كما حدث لبلادنا في أكثر من فترة تاريخية في ظل التجزئة المذهبية. وكان المبدأ العام لفكر أعلام الإصلاح الديني، كالشوكاني وزملائه، أن يحل التقارب الفكري والعقائدي محل التناحر والخلافات المغطاة بقشرة المذهبية السطحية"، [د. عبدالعزيز المقالح، "قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة"، ص72، 73].
فكان من محاسن هذه المدرسة "أن العلاقات انسجمت بين علماء الزيدية وعلماء الشافعية في المخاليف الدنيا، ك مدينة زبيد ومدينة تعز ومدينة إب وغير ذلك، وتبودلت الزيارات بينهم، وأخذ بعضهم عن الآخر في القراءة والتدريس وبالسماع والإجازات، وأصبحوا إخواناً متحابين ينهلون من منهل عذب هي مدرسة محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم" [محمد علي الأكوع، "حياة عالم وأمير"، ص63]
لقد جاءت الخطوة الأولى لمدرسة الإحياء ومشروعها لنقد الدعاوى الحصرية للمعرفة - التي كانت تنتجها، وتنتهجها المدرسة الزيدية، من أجل الاحتفاظ بالسلطة السياسية - مع التركيز على كون القرآن والسنة هما المصدران الأساسيان للمعرفة الدينية، وهما متاحان للجميع، وإمكانية الاجتهاد متوفرة لمن يحقق شروطه".
كما كان يهدف علماء الاجتهاد، وفي مقدمتهم مجدد اليمن والعصر، الإمام الشوكاني، من التجديد إلى ضرب البنية المغلقة من المفاهيم التي تم التأسيس عليها للسلطة السياسية للإمامة، باعتبارها أصولا غير قابلة للتبديل والتجديد، وبذلك سعى لكسر احتكار الحقيقة سواء من قِبل السلطة السياسية، أو من علماء الدين.
وقد كان لدور علماء الاجتهاد أثره الفاعل في بروز الحركة الوطنية خلال الثلث الأول من القرن العشرين، التي انطلقت نحو إزاحة وإزالة السلطة المستندة على المذهب.