مقالات
مسافرون في طريق الحرب!!
كان السفر بين كل المدن اليمنية نعمة ومتعة، ومازال السفر ممتعاً بفضل عزيمة اليمنيين الرائعين الأوفياء لمدنهم وقراهم، ولقد أثبتوا أنهم أقوى من الحصار.
أمسى الناس بدلاً من الاستعداد للنوم يستعدون للسفر، ولباصات "الهيس" شخصية قوية بدلاً عن "البيجوتات" والطائرات وأرقى السيارات.
السفر الجماعي ممتع بحق، لاحظت تشابهاً رهيباً بين سائقي الباصات، في كل تفاصيل حياتهم وأشكالهم وملابسهم وتفاصيل شخصياتهم المتعبة، لكن بعضهم عقلاء سفر وقيادة.
- الطاهش رمزاً
صاحب قرية الساحرة يصل إلى صنعاء الساعة التاسعة مساءً تقريباً كل سبت واثنين وخميس؛ بعد تفتيش دقيق لكل أغراض المسافرين، وهدايا الأمهات لابنائهن؛ من حبوب وسمن وغيره، خلال عشرات النقاط الأمنية، التي تستهلك ما يزيد عن ثلاث ساعات من السفر، ويعود من حيث أتى بالليلة نفسها على الحادية عشرة أو منتصف الليل بالأيام ذاتها.
يقف الطاهش في شارع الدفاع، و ما إن يصل إلا وقد حجز المسافرون إلى القرى أماكنهم، وهم يعرفون السعر مقدماً، إمَّا بعملة صنعاء أو بعملة عدن، وعلى المسافر اليوم أن يكون بحوزته عملة صعبة ليضمن عدم تعرضه للعجز المالي.
ينزل القادمون ويركب المغادرون، يتم إنزال عفش، ورفع عفش جديد، وهكذا روتين يومي بدون ملل أو كلل. يتظاهرالسائقون بأنهم مع رفع الحصار، وفي أعماقهم مع بقاء الحصار، لأنه يدر عليهم مبالغ كبيرة.
يتناول الطاهش عشاء مختصراً، ويخزِّن للمرة الثالثة أو الرابعة - من يدري، ويفتح ال"إم. بي. ثري"، وينطلق عبر شارع تعز الممتد كأفعى، والبرد القارس يدخل عبر الزجاجات بلا رحمة، والركاب في نشوة وفرح عارم، يدعون الله أن يعينهم على مشقة السفر، يتزحزح الركاب بسبب حركة الباص، وتخف حدَّة الازدحام، وتلفون الطاهش لا يتوقف عن الرنين من ركاب يسألونه عن مواعيد الرحلات، ويحجزون مقاعدهم.
يتعارف الركاب فيما بينهم، وتلفوناتهم لا تتوقف أيضاً؛ للاطمئنان والتطمين، وتدخل الألفة بعد قليل من العصبية حول المقاعد، ويلقي المساء بظلاله على الجميع، والطاهش فوق المقود مثل رجل آلي بالضبط، والباص ينطلق ولا يلوي على شيء: بلاد الروس، يسلح، معبر، ذمار، مطبات بلا حدود، ونقاط تفتيش بلا عدد، والليل يمضي بسرعة، والبرد يشتد، والركاب يستعطفون الطاهش ليتوقف؛ لكي يفرغوا مثاناتهم في هذا البرد، وهو يمهلهم قليلاً ( عد شوي، باقي قليل)، يريم، كتاب، سمارة، إب، النجد الأحمر. يتوقف الطاهش أخيراً، والركاب ينزلون لإفراغ مثاناتهم المتضخمة، ولم يعودوا قادرين، ومحلات عديدة تبيع حلويات متنوعة للمسافرين، ومازال الطاهش متوحداً مع الباص.
يصعد الركاب، وقد بدأت تباشير الصباح، وتتبدى الأرياف في إب، وهي ترتدي أجمل حلة خضراء، ويبدأ النعاس يداعب الركاب، وعيون الطاهش مُحْمَرَّة كالجمر، وهو يمرق بسرعة بين المدن المتلاصقة، مستمتعاً بالقيادة. يمرون بمدينة القاعدة، ثم الحوبان، ونقاط التفتيش بلا عدد، فيبدأ كل باص بدفع مائة ريال ومائتين، يمرون بجوار جولة الحوبان، حيث لا تفصلهم عن تعز سوى عشر دقائق، فيتنهد الجميع بحسرة على الحال.
يصلون دمنة خدير، والركاب مدوِّخين من السفر والإرهاق، والمسافرات يدخلن أول حمام لإفراغ مثاناتهن بعد رحلة بين البرد والليل الطويل.
يتناول الجميع الصبوح في مطعم أسعاره سياحية، ثم ينقل الطاهش ومساعده عفش المسافرين من الباص إلى سيارة "جيب"؛ مخصصة للطرق الجبلية، ينحشر جميع من كان في الباص داخل السيارة "الجيب"، وفوق الشبك العلوي، وفي الخلف، بعد توقف لأكثر من ساعة ونصف، فيكون أمامهم خيارات إما طريق الأقروض المزدحم جداً، المليء بالدينات العريضة، الذي لم يتم إصلاحه أو توسعته، وهو أصلاً كان مجرد سائلة، وأصعب منحدراته هو نقيل "الرُّبَحْ" في سوق الأقروض الضيِّق، أو عبر طريق "حوراء سامع"، الذي يفضله الطاهش، الذي قام الأهالي برصفه بالحجارة وتوسعته، وبتعاون السائقين، ومبادرات ذاتية رائعة، أو طريق "الخضراء الصلو"، رغم طوله، وهناك طرق ومتفرِّعات كثيرة، ولقد ساهم الحصار والحرب في جعل المواطنين العاديين يرصفون الطرق بالحجارة، ويربطونها ببعضها، ويبدون كأبطال.
ثلاث ساعات بين الجبال الشاهقة والوديان السحيقة والمنحدرات والتكبيرات والدعاء بسلامة الوصول، يصل الركاب إلى النشمة وما بعدها حتى التربة، بعد رحلة سفر مضنية امتدت 12 ساعة تقريباً وأكثر، بعد أن كانت ل اتتجاوز 4 ساعات مريحة، يكون الركاب في غاية الإرهاق والفرح بسلامة الوصول معاً.
لكن حينما تنظر إلى الطاهش كأنه على وشك السقوط، فيتسلم الأجرة، ويضعها بسلاسة في جيب بنطلونه الفضفاض، الذي كأنه "خُرجْ"، وليس جيبا، فبمجرد أن يصل منزله، ويضع رأسه يستسلم لسلطان النوم.
الطاهش سائق عقلاني، ولهذا يُحبُ الكثيرون السفر معه، عيبه الوحيد هو أنه يبقي مثانته مُلغَّمَة، ويمكن أن تنفجر به وبالركاب في أي وقت.
سنوات طويلة على هذه الحال من الحرب الصامتة والحصار الظالم العبثي، والتعنت بلا حدود.
فلنتخيَّل الآن، هذه الحال تنطبق على آلاف الباصات، ووسائل النقل، ومئات الآلاف من المسافرين. ولعلنا شاهدنا صُوَرَاً ليلية -أيام الأعياد- لطوابير طويلة من السيارات، مضاءة المصابيح على طول خط الأقروض، تمتد لعشرات الكيلو مترات، وتم تسجيل أكبر عدد من حوادث السفر، التي راح ضحيتها آلاف المواطنين والمواطنات والأطفال على مدار سنوات الحرب العبثية الطويلة، فلا يتحرَّك ضمير المجرم قيد أنملة، ولا ينتفض المظلوم خلف الطربال - بكل أسف.