مقالات
من الاجتهاد إلى الجمهورية (2)
شكّلت مدرسة التحرر الدِّيني في اليمن أهم انعطافة في تاريخ الفكر الإسلامي اليمني، وذلك من خلال ما قدّمته من رؤى واجتهادات في مسار الإصلاح الفكري، والسياسي، والاجتماعي.
فقد كانت الدعوة إلى الاجتهاد، ونبذ التعصب، ورفض التمذهب، والحث على الانصاف، هي محور وجوهر الإنتاج المعرفي لمدرسة الاجتهاد اليمني، التي ابتدأت مع الرائد الأول محمد بن إبراهيم الوزير (توفي 840هـ)، وبلغت ذروتها مع شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني (توفي 1250هـ)، الذي كرَّس حياته لمحاربة الجمود، وفتح باب الاجتهاد أمام المسلمين، لرفع الوصاية عن المجتمع الإسلامي، ودفع الناس لرفض التعصّب، الذي قاد الأمة الإسلامية إلى التفكك، والتفرّق.
كان ظهور مدرسة الاجتهاد اليمني رد فعل على الأوضاع التي كان يحيا فيها المجتمع الإسلامي، بصورة عامة، والمجتمع اليمني، بصورة خاصة، فقد كانت الفوضى متفشية في البلاد، والمجتمع داخل كل قطر يعيش في اضطراب، وتمزّق، جعلته أشبه بشظايا متناثرة، لا يجمع بين أشتاتها رابط، وكان لإغلاق باب الاجتهاد، وانتشار التقليد، دور فاعل ومؤثر في ركود الحياة الاجتماعية، والسياسية، بحيث دفعت للتقوقع داخل الماضي، والذهول عن مواجهة مستجدات الحياة، والبحث عن مخارج للأزمات في مقولات السابقين.
فتوقف حركة الإبداع داخل الحضارة الإسلامية، بإغلاق باب الاجتهاد، والحجر على العقل، جعل المجتمع عاجزا عن ابتكار الحلول لمعالجة أسباب التراجع، وإيقاف الانهيار.
إن دعوة المجددين والمصلحين إلى الاجتهاد، ومحاربة التقليد، كانت تهدف إلى تفكيك منظومة الهيمنة للسلطتين الدِّينية، والسياسية، ومواجهة القوى المسيطرة على أسباب القوة داخل المجتمع، وذلك بفك قيود تبعية العوام لها، فكان خوف فقهاء التقليد، والمتمذهبين، والمتعصبين، وانطلاقهم لمحاربة دعوات التجديد، يأتي من خوفهم على مصالحهم، خشية تقبل المجتمع مضامين الاجتهاد، لأن ذلك يجعل المعرفة الدينية أكثر انتشاراً، واتساعاً، وبذلك تسقط سلطتهم على الجماهير، لأنها تستند على احتكارهم المعرفة الدِّينية.
ولأن "التقليد مظهر من مظاهر التخلّف وأحد أسبابه في آن واحد، وسبب لطغيان السلطتين الدِّينية والسياسية وسيطرتهما على رقاب الناس." [د. حسن حنفي- "من العقيدة إلى الثورة"، ص253 ،ج1، "المقدمات النظرية"] فقد أثارت بوادر عملية الإصلاح الدِّيني، والدعوة إلى الاجتهاد التي دعا إليها محمد بن إسماعيل الأمير، ومحمد بن علي الشوكاني، مخاوف النُّخب التقليدية، ودعاة الجمود، والتعصّب، تلك التي كانت ترى في إبقاء الأوضاع الاجتماعية، والسياسية، راكدة دون تغيير، هو مشروعها الذي تقاتل من أجله، لصيانة مصالحها، فاتخذت من خلال محاربة دعوات التجديد، تحت ستار الحفاظ على مذهب آل البيت شعارا لتحريض العامة، بينما الهدف الرئيسي هو الحصول المكاسب والذَّهب.
أرجع علماء اليمن المجتهدون السبب في ما يعيشه المجتمع الإسلامي، من ضعف، وضياع، وتضعضع أحواله، وتفرّق كلمة أهله، وعجزهم إلى عامل رئيسي، وهو إغلاق باب الاجتهاد، الذي نتج عنه انتشار التعصّب، والتمذهب، وما صاحب ذلك من جمود، وركود، في شتّى نواحي الحياة.
ومن هنا فقد وجهوا معارفهم نحو فتح أبواب الاجتهاد، وتوسيع أبوابه، وحثّ المجتمع على اتباع سُبله.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل سعوا لتسهيل أسبابه أمام الجميع.
سعى شيخ الإسلام الشوكاني، الذي تقلّد منصب قاضي القضاة لثلاثة أئمة من بيت القاسم، لمحاربة ظواهر الفساد، وإصلاح الاختلالات في القضاء، ومحاولة صياغة وحدة فقهية من خلال رسائله، وكتبه وفتاواه، وحلقات الدروس التي كان يلقيها، وتصدّى لمظاهر التعصب، والتمذهب، والجمود، التي كان يرى أنها سبب فرقة المسلمين، وضعفهم، وأن استعادة الدور الحضاري للأمة الإسلامية مرهون بمحاربة تلك الظواهر، وإعادة بناء المنظومة المعرفية في الفكر الإسلامي، على أساس التجديد، وفتح آفاق العقل الإسلامي، بحيث "كان الهدف الأساس الذي سخر الإمام الشوكاني له كل جهوده هـو إعادة تشكيل العقلية الفقهية بإقامتها على مبدأ الاجتهاد، وتحريرها من تبعية التقليد؛ سعيا منه إلى بناء وحدة فقهية بين المسلمين تواجه التمزّق الاجتماعي والفكري الذي أفرزه التقليد. هـذه الوحدة التي تمثل في نظر الشوكاني أحد الحلول الضرورية للأزمة الحضارية التي عاشتها الأمة الإسلامية في عصره" [حليمة بوكروشة- "معالم تجديد المنهج الفقهي... أنموذج الشوكاني"، ص 294، "سلسلة كتاب الأمة"].
تؤكد سيرة علّامة اليمن ومجتهدها المطلق محمد بن علي الشوكاني، ومسيرته العلمية، وإنتاجه المعرفي الواسع، والمتعدد، والمتنوع، وفكره التجديدي ودعوته إلى التحرر من قيود المذهبية، والتعصّب، على تقبل المجتمع لدعوته، والالتفاف حولها، "ولم يكن متعارفا أن يلجأ الناس باستفتاءاتهم إلا لعلماء المذاهب التي يتبعونها ويتعصّبون لها. أما أن يتجمع حول الشوكاني الناس من كافة المذاهب فهذا موضع الغرابة" [انظر "مقدمة تحقيق كتاب السيل الجرار"، نفس المصدر، ص20].
حققت اجتهادات الإمام الشوكاني، وتجديده في الجوانب الفكرية، والفقهية، حضوراً على مستوى اليمن، وقبولاً بين أتباع المذاهب المختلفة، وحظيت شخصيته برضا المجتمع، ومؤلفاته بالقبول لدى اليمنيين بصورة لم تعرفها شخصية يمنية من قبله، أو بعده.
وما يؤكد على الأهمية المحورية لشخصيته، باعتبارها الشخصية الوطنية، والرمزية الجامعة لليمنيين جميعاً، التي منحته إياها اجتهاداته العلمية، أن الإمام يحيى سعى لنشر كتبه لأهداف داخلية، وأخرى خارجية.
وكانت الأسباب الداخلية كسب سكان المناطق ذات المذهب الشافعي إلى جانبه، حتى لا تؤثّر عليهم الدّعاية الانكليزية التي تعمل لبذر الشقاق بين أتباع المذهبين، أما الخارجية فلتغيير صورة اليمن في البلاد العربية والإسلامية، وخلق وجهة نظر مغايرة عن المذهب الزيدي، وذلك من خلال إبراز العلماء المجددين في اليمن.
كما ظلت جريدة الإيمان، الناطقة باسم السلطة الإمامية، في مواضيعها تسعى لإدانة المذهبية، وتدعو إلى التقارب بين أتباع المذهبين، وفي هذا ما يؤكد شعور السلطة الإمامية بأن استنادها على أيديولوجية المذهب الزيدي تعمل على تقويض سلطة الإمام يحيى، ومن هنا سعى الأخير لطباعة كُتب شيخ الإسلام الشوكاني.
تمت طباعة الكُتب بعد حروب الإمام مع الزرانيق، أواخر العشرينات، التي كان لها الكثير من النتائج السلبية، التي أصابت النسيج الوطني بالجروح، والتمزّق، وكذلك بعد حروب البيضاء وغيرها، في المناطق التي تنتمي للمذهب الشافعي، وكان صاحب هذه الفكرة والمبادرة هو سيف الإسلام محمد البدر بن الإمام يحيى أمير لواء الحديدة، وتبنّيه لها فيه إشارة إلى إدراكه بعد حروب الإمام في مناطق الحديدة، ما سببته من تمزق في نفسية المجتمع، وما تقود إليه من مخاطر، لذلك سعت السلطة لتوجيه رسالة للمجتمع، تحاول من خلالها التأثير على سكان المناطق المختلفة، عبر الاستثمار في إنتاج الرمزيات الفكرية الجامعة لليمنيين، ورسالة تعبّر فيها عن تمثيلهم، وكانت شخصية الإمام الشوكاني وإنتاجه الفكري، وتراثه المعرفي الرافض للجمود، والداعي إلى عدم التعصب المذهبي، هو مفتاح ذلك، باعتباره الشخصية والرمزية الجامعة، فقامت بإعادة طباعة كتبه، وهي "كتب كانت محظورة لفترة من الزمن، بسبب الصراع المذهبي، وقد أثارت رؤية هذه الكتب مطبوعة حساسية مثقفي ذلك الحين وتساؤلهم، لأن تلك الكتب كانت شبه ممنوعة، وها هي تأتي مطبوعة، وبإرادة رسمية. إن هذا التحوّل في أيديولوجية السلطة الحاكمة يعكس اتجاها جديداً إلى تثبيت دعائم الحكم داخل العقول، وعدم الاكتفاء بتعزيز أركانها بالعسكر والعنف". [هشام علي- "المثقفون اليمنيون والنهضة"، ص189، 190].
وقد كان لطباعتها دور مهم في مسار التطوّرات اللاحقة، والأثر البالغ في توجيه مسار التاريخ السياسي والاجتماعي للبلد، خلال العقود الثلاثة التالية، لانتشارها.
كان الإمام يحيى، من خلال نشر كتب روّاد مدرسة الاجتهاد اليمني، يدفع بالنُّخب اليمنية آنذاك إلى رفض الجمود، والوقوف في وجه التعصّب السياسي، والمذهبية، والانغلاق، بينما كانت سلطاته من الناحية العملية، والواقعية، تضرب على اليمن ستارا من العُزلة، وتفرض عليها قيود الجمود، والرُّكود عبر السياسات التي كان ينتهجها، وكان من الطبيعي، والمنطقي أن يبدأ الرفض لهذا الواقع، ومحاولة زحزحته، وإنهائه.
لم تكن إلا سنوات قليلة حتى بدأت الطلائع اليمنية، من روّاد مدرسة التنوير، المتأثرة بأفكار مدرسة الاجتهاد والتجديد اليمنية، إضافة إلى تأثرها بكتابات روّاد النهضة العربية في بلاد الشام، ومصر، في التبلور والتبرعم.
يقول القاضي عبدالرحمن الإرياني في مذكراته: "وكان لكتب مجتهدي اليمن، كالوزير والمقبلي والجلال والأمير والشوكاني، التي درسنا بعض منها على يد الوالد -رحمه الله- أثرها في تحرير الفكر والحضّ على مناهضة الوضع الذي لا يتفق مع ما تدعو إليه القِيم الدينية التي ترسّخت في النفس، كالعدل ووجوب صرف أموال الله في مصارفها. على أن كل ما كان يُستنكر هو الظلم والإذلال اللذان كان يعاني منهما المواطنون الأمرّين.
وكان ما يعانيه الشعب من الظلم والإذلال هو الدافع إلى إرادة التغيير أو على الأصح تمنّي التغيير، كما كان ذلك منطلِقا من منطلقات دِينية، وكانت الحيثيات تدخل في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكنها، بعد أن جاءتنا كتب جمال الدِّين الأفغاني والشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا والكواكبي وغيرهم، توسعت مداركنا وبفعلها توسعت مطالبنا. فبعد أن كانت مطالبنا سلبية تتمثل بالمطالبة بعدم الظلم المتنوع المناحي، أصبحت إيجابية تتمثل بالمطالبة بالحرية والدستور والشورى، وبالمدارس والمستشفيات، ومحاربة الفقر والمرض. ["مذكرات القاضي عبدالرحمن الإرياني"، ص93- 94ج1].
لقد كان الاصطدام مع سياسة الجمود والتخلّف، التي يفرضها الإمام يحيى على اليمن، نتيجة طبيعية، بل وعملية محسومة.
فقد تشابكت الكثير من العوامل لتحقيق ذلك، فجريدة الإيمان، الناطقة باسم السلطة الإمامية، كانت تتبنّى خطابا يدعو إلى رفض التمذهب، والتعصب، ويدعو إلى الوحدة الوطنية، وهي دعوة دعا إليها وتبنّاها دعاة الحركة الإصلاحية اليمنية، واقتفى أثرها طلائع حركة التنوير في اليمن خلال الثلاثينات، وفي الوقت ذاته كانت سياسة الإمام، وممارساته للسلطة، تسير عكس ذلك، وكأنها بذلك كانت تدعو الناس إلى التمرّد، والثورة على الواقع القائم، الذي تسعى لتكريسه حكومة الإمام يحيى، ورجاله في المناطق اليمنية المختلفة..
ومن هنا جاء التناقض القاتل لحكم الإمام يحيى، من خلال محاولته جعل الغطاء الأيديولوجي لسلطته، هو إعادة إنتاج الرموز الفكرية، والثقافية، التنويرية، بينما كانت الأوضاع القائمة تسير في طريق مغاير، الأمر الذي حتّم على اليمنيين الخلاص من تلك السياسيات التي تحُول بين المجتمع وبين تطلعاته للتغيير.