مقالات
من وحي الشتاء
يشاء الشتاء أن يأتي خلسةً كضيفٍ غير مدعوٍّ إلى المأدبة، أو كقَدَرٍ ثقيل الخطوة وكئيب المنظر، أو كخبرٍ يُنبئ بكارثةٍ فادحة.
يجيىء الشتاء بإصرار، ومن دون سابق إشعار، وبكل الفجاجة التي تحويها قرارات "القات"، أو كالمقدمات التي تخلو من نهايات.
لا أحد يريد الذهاب إلى المدرسة أو الوظيفة. لا أحد يريد الذهاب إلى الجامعة أو الجامع. لا أحد يريد تطبيق مبادئ التباعُد الاجتماعي، فيكثر التقارب الاجتماعي، وتنشط الهرمونات قليلة الحياء، ويرتفع منسوب المواليد في بلد يعاني بشدة من الفقر والجوع والحرب والأوبئة والفساد.
الآن، في سيبيريا تتساقط الثلوج.. وفي الأسكيمو ينام الدببة.. وفي أسكندنافيا تتناسل الصقور.. وفي كينيا تشتعل الرغبات.. وفي اليمن يتثاءب الشعراء وقادة الكتائب.
وفي لحظةٍ شتائيةٍ فارقة، تصدر فتوى قاطعة جامعة مانعة بأن "لا وضوءَ على بيت مَعْدَن، ولو كُعَلُهم من حديد"!
---------- ( 2 ) ----------
النساء تحب الصيف والربيع، والرجال الشتاء، والأطفال كل الفصول..
فالنساء أكثر حرارة وسطوعاً وخصوبة، والرجال أكثر برودة وقسوة ورعونة.
وفي الخريف تتساقط الأوراق: أوراق الشجر وأوراق السياسة وأوراق العمر الراحل إلى يباب. وتبقى ثمة ورقة واحدة يكتب ناطور الثلج عليها قصيدته الباردة التي تصطكُّ أبياتها، وترتعش مفاصلها وفواصلها، وتتأوَّه مشاعرها حدَّ اليباس.
وفي عدن يتزوجون شتاءً.. أما في صنعاء فالزواج في الصيف والربيع أفضل.. لكن الحرب صالحة في جميع الأوقات والفترات والفصول.. فالقتل واجب يماني مقدّس على الدوام.
والشتاء في زمن الحرب يفتقد إلى الحب، ويفقد كثيراً من مرحه.
وإذا جاء الشتاء أضرَّ كثيراً بالفقراء. لا يستطيع أحدهم أن ينام في العراء، أو يقاوم الجوع لأكثر من ليلة، فالزمهرير عدوُّ الفقير، والرحمة لم تعد عُملة رائجة التداول في أوساط الميسورين.
ولهذا يفطن الساسة الأوغاد إلى استغلال الموسم في الترويج السياسي، تحت وطأة البرد الشديد والجوع الأشد، واختلال موازين الإدراك الجماعي الواعي!
---------- ( 3 ) ----------
تتمخطر الثورات على غيوم الشتاء.. وعلى صهواته تتقاطر الانقلابات.. وحين يجيء فارداً أجنحته للريح وللمطر، تفرد الأحزاب والأيديولوجيات أجنحتها للخطابات والمؤتمرات والمؤامرات.. فثمة الجناح اليساري يميل إلى الصيف القائظ، واليميني يبدو أكثر شتوية، والليبرالي ربيعيّ النزعة والهوى.
ومن بين الفصول الأربعة، الشتاء يحمل رتبة الجنرال.
ويحكي التاريخ العسكري أن هذا الجنرال قد تجلَّت قدرته في أن يهزم أقوى الجيوش على الإطلاق خلال مواقع ووقائع عدة.
في العام 1812 للميلاد، غزا نابوليون بونابرت روسيا على رأس جيش قوامه ستُّمائة وثمانون ألفاً، غير أن جنرال الشتاء أطاح بخمسمائة وخمسين ألفاً منهم تحت "سنابك" درجة حرارة بلغت الأربعين تحت الصفر!
وفي العام 1941 للميلاد، أقدم أدولف هيتلر على غزو الاتحاد السوفييتي، مقترفاً الخطأ الفادح نفسه، الذي سبق أن وقع فيه بونابرت، فإذا بالجنرال القارس يقف بالمرصاد للجيش النازي الأقوى والأضخم في العالم يومها.
أظنّ أن الحرب العالمية المقبلة لن تندلع خلال الشتاء، الاَّ إذا ظل قادة السياسة والحرب على القدر ذاته من الحماقة التي كان عليها بونابرت وهيتلر.
---------- ( 4 ) ----------
حين يأتي الشتاء في كل عام، يظل الناس يرددون الشكوى المُرَّة ذاتها من أن شتاء هذا العام أكثر صقيعاً من شتاء العام المنصرم، بل والأعوام السابقة كلها!
قد يكون الأمر على غير هذا المنوال من الكلام، غير أن "أبو يمن" مغرم بلَيِّ الحقائق وقلب البدهيات، رافضاً الاعتراف بيقينية أن ما يدقُّ في نخاع عظامه ليس البرد، بل الجوع.. وأن ما يفتك بروحه وجسده معاً ليس الصقيع، بل الجور..
فاليمنيون يزدادون تعرُّضاً للجوع والجور في كل عام عن الأعوام التي قبله.. وهذا منوالنا وديدننا منذ ثلاثة عقود على الأقل.
أن تضعضُع العظام وتخلخُل المسام ليس جزءاً من الأفاعيل الواردة في ناموس الطبيعة وقاموس المناخ، إنما هو نتاج طبيعي لمفاعيل السياسة والعسكرة في جسد البلاد والعباد.
إن الشتاء بريْء... المجرمون أمامكم.
اللهمّ إنّي بلَّغت.. اللهمّ فاشهد.