مقالات
هل يُسهم العديني في تغذية الإلحاد؟
يضيق الشباب بالعقائد والأديان؛ حين يُضيّق رجال الدين منطقهم ويفشلون في تقديم مساحة شرعية كافية لنشاطات النشء؛ أيّ منطق ديني يُمكِّنهم من الحركة ومحاولة استكشاف وجودهم وتحقيق ذواتهم، دونما اصطدام بخطاب يُجردهم من مشروعية ما يقومون به.
غالبًا لا تهتز عقائد الشباب نتاج تأملات وجودية وحيرة عقلية وفلسفية، تجعلهم عاجزين عن العثور على أجوبة لما يؤرقهم. فهذه النافذة لا تُصيب بالشك؛ سوى قطاع صغير من النشء. ذوي الإهتمامات المعرفية العقلية. فيما الغالبية ممن يفقدون يقينهم بالشرائع والعقائد الدينية، تكون أسبابهم قادمة من الواقع. من العوازل والأفخاخ التي ينصبها لهم رجال الدين أمام تجارب الحياة. وحين يعجز الواقع عن تفهّم خطوات الشباب واحتواء نشاطاتهم؛ تبدأ لديهم شارات التفكير بإحتمالية تجاوز المنطق الديني. من هنا تبدأ أولى الهزات الوجدانية ويتسرب إليهم فهم أولي أنّ الدين يقف على الضد من طموحهم، يعيق تجربتهم وربما يذهبون أبعد من ذلك ويرونه يتخد موقفًا عدوانيًّا تجاههم.
تتعرض امرأة للظلم من زوجها، تضطرب حياتها وينتهي بها الأمر للطلاق. يحلق مراهقًا شعر رأسه على طريقة نجم سينمائي أو لاعب كرة قدم. يكتشف أب علاقة عاطفية لإبنته مع زميل لها في الكلية، أو يكتب شابًا قصيدة غنائية؛ كمحاولة لتجريب موهبته. كل هؤلاء وهم يفعلون ما سبق_ والأمثلة غيرها كثيرة_ وبدلًا من أن يجدوا داخل فضاء الدين خطابًا متفهمًا يتلقى سلوكياتهم بشيء من العطف والحكمة؛ إذا بهم يتفاجوا برجال الدين والوعّاظ، على جاهزية تامة؛ لحشد كل المطارق واستدعاء كامل المدونة الفقهية؛ لمواجهة مواقف الشباب البسيطة وكأننا أمام خطر وجودي يحيق بالدين.
حين تحاول معاينة الخطاب الديني تجاه نشاطات الشباب العادية؛ تكاد لا تستوعب ما الذي يبرر كل تلك المواقف الحادة والقاطعة تجاههم. مع أنهم فعلوا ما فعلوا، بكامل براءتهم وارتباكهم. بل وبكامل استعدادهم لتقبل أي تصويبات تأتيهم من الأخرين. لكن رجال الدين. يسارعون بفتح المعركة مع بشر لم يكونوا يتوقعون أن ما فعلوه، يتضمن ذلك القدر من الخطورة. لكأن السؤال الدائر في أذهان الشباب..؟ لماذا يكرهوننا..؟ لماذا لا نجد رجل دين واحد، يدافع عن حريتنا..؟ مع أنّ أحدًا منهم لم ينو قط هتك مبادئ الدين، لكنهم وجدوا أنفسهم فجأة، وقد صوّرهم "حماة العقيدة" كما لو أنهم عتاولة يخططون ليل نهار لإفساد المجتمع ونشر الرذيلة.
لربما أنّ معظم هؤلاء الشباب الخائفون والمدانون._ ليس ربما؛ بل مؤكد_ على درجة من الإلتزام الديني، وبالمفهوم التقليدي للتدين نفسه. لعلّهم كانوا يمضون في حياتهم طوال اليوم، وما إن يؤوبوا إلى أسرّتهم، يقضون لحظات من الإحباط والشعور بخطايا لم يرتكبوها، وكانوا بحاجة لمن يحررهم من عقدة الشعور بالخطيئة، لا من يحيلهم للجحيم ويعلن معركة حاسمة ضدهم.
ما أُثير مؤخرا حول الأغنية الشبابية: "مش غلط" نموذجًا للخطاب الديني المساهم بنفي الشباب خارج الدائرة الدينية. وإذا حاولنا موازنة المفسدة. فالخطاب الديني العدائي ضد الأغنية، أكثر ضررا منها. وأعني هنا الضرر القيمي وبمعيار رجال الدين أنفسهم. هكذا يتضح لنا أننا أمام خطاب ديني يفتقد لأي منهجية ولأي حصافة في الدفاع عن الأخلاق.
يدافع رجال الدين عن القيم ؛ بانتهاك الشرط الأساسي للإيمان نفسه. يصادرون الحرية وهم يعتقدون أنّهم بذلك يحمون العفة. لا يمكن حماية أخلاق الحياء وصيانة الطابع المحافظ للمجتمع بواسطة اللغة المنفلتة ضد أي نشاط يعبر فيه الأجيال عن نظرتهم للحياة.
حسنًا : هل هذا النوع من الخطاب، يمكن أن يتسبب بتشكيل مواقف رافضة كليا للدين..؟ نعم، إنهم حين يشهرون أسواطهم وبتلك الحدّة ضد أغنية عادية. يطلقون الشرارات الأولى للسخط ضد الدين كله. حديثي هنا لا علاقة له بمضمون الأغنية. ولا عن مستواها الفني. بل عن حدّية الموقف الديني المغالي تجاهها.
أما من ناحية فلسفة الفن، فلا يصح محاكمة أي إنتاج فني من زاوية قيمية. فالفن ليس خطابًا وعظيًا ولا يهدف لحماية الأخلاق كما لا يتعمد هدمها. هو ينطلق من موقع مغاير تمامًا للمعيار الديني. إنّه يتبنى رؤوية كونية ينظر منها للوجود بهدف استكشافه، دونما أي اهتمام بالحكم القيمي تجاه، سلبًا أو إيجابًا. حيث شاب يسهر وبداخله أشواق لقاء، ويحاول إقناع حبيبته بالتسامح تجاه الأمر. إنه لم يصدر بيانًا عقديًا أو منطق تشريعي ؛ حتى حين تحمل كلمات الأغنية ايحاء أو طلب بسلوك تصفه بالمباح. فدلالة التعبير الفني، لا يصح تحميلها دلالات تشريعية ثم التأويل المفرط تجاهها.
يبدو لي أن الناس العاديين، أكثر عقلانية وخفة في تلقيّ أي عمل فني. فهم منذ أول أغنية صدحت في الإذاعات أو قصيدة غرامية كتبها شاعر قبل آلاف السنين، يتعاملون معها، كمنتج فني، تعبير عن أحلام وأشواق وعذابات تدور في خيالات العشاق عبر العصور. ومن غير المنطق التهيج ضدها كما لو كانت بيان انقلاب أخلاقي جذري يتوجب ردعه. هكذا تتوصل لقناعة منطقية أن الناس العاديين، هم من يحرسون القيمة والأخلاق وليس أولئك المشائخ المعممين، ممن صاروا يعانون من تهيج انفعالي وجاهزية للرفض، حتى حين لا يكون هناك ما يستدعي كل ذلك التأهب. فهؤلاء الأخيرون، يسهمون في تقليص مساحة التدين، أكثر مما يرسخون ديمومة الأخلاق.
مرة أخرى "لا يلحد الشباب؛ لأن لديه مشكلة مع فكرة الله، أو لأن لديه تصورا بديلا للحياة، هو لا يكفر بالله بالمعنى الحرفي للكفر؛ بل يتمرّد على مجتمع لا يعترف به، مجتمع يرغب بتطويع الشباب قسرا ولا يفقه نفسية الجيل الحديث وطبيعة الحياة التي يرغب أن يعيشها.
إن كان هناك من غاية وهدف يلخّص دوافع الإلحاد لدى الشباب فهو الرغبة بالتخلّص من القيود المجتمعية، التوّق العارم للحرية، والإعلان الصريح أن طابع الحياة القديم لم يعد يتلاءم مع طموحاتهم ونفسياتهم وطبيعة تفكيرهم المتجددة.إنهم يسعون لتحطيم سلطة الرقابة الخارجية عليهم، ويثأرون ممن لا يحترمون عالمهم 'الجواني' الخاص. "
الخلاصة:
نادرًا ما تجد رجل دين لديه حماسة عالية؛ للدفاع عن مبدأ " الحرية" مع أن هذا المبدأ هو جوهر الدين كله. حتى وإن صادفت خطابًا دينيًا حول الحرية؛ تجد مضمونه يركز على حدودها أكثر مما يهدف للدفاع عن قدسية المبدأ وضرور الدفاع عن مساحة أكبر وتوسعة حدود الحرية باستمرار. إنهم بارعون في نصب الحواجز، جاهزون للفتك بكل من يتخطاها؛ لكأنهم يحمون المساحة الضامنة لسلطتهم. يخافون من إزاحة الحدود؛ خشية أن يستيقظوا يومًا ولم يعد هناك من حد يبرر مهنتهم وحواجز يسهرون جوارها؛ لتقريع من يرفض المنام خلف الأسوار.