مقالات
وفي نفسي شيءٌ من عدن!
مات شيخ مشايخ النُّحاة وبحر اللغة "سيبويه" وفي نفسه شيءٌ من "حتى". وأظنني سأموت وفي نفسي شيءٌ من عدن.
ومنذ بضع سنين، رحتُ أتجوَّل في الشارع الذي أقطنه في مدينة عدن، الذي يُطلق عليه العامة "الشارع الرئيسي" في حي المعلا، فيما كان يُطلق عليه البعض شارع الشهيد مَدْرَم.
وقد فوجئت أثناء تجوالي بأن لا محل بقيَ على حاله في موقعه الأصلي القديم ذاته، منذ سبعينات - بل وحتى ثمانينات - القرن الماضي، باستثناء محل واحد فقط، هو: 14 أكتوبر للخياطة. والتسمية - بالطبع - للثورة التي حررت الإنسان من ربقة الاحتلال في اليمن، فيما لم يعد أحد يتذكّرها إلاَّ الإعلام الرسمي مرةً واحدة في كل عام.
ودارت بي الذاكرة والذكرى إلى مقال كتبته ونشرته قبل عدة سنوات، أشرت فيه يومها إلى حالة عدن التي وصفتها بأنها لم تعد ثمة عدن في عدن!، وهو المقال الذي أشعر بمرور الأيام أنني في حاجة ماسَّة إلى أن أكتبه وأنشره - بل وأعيد قراءته - كل يوم.
ومن يعرف عدن زمااان، ثم عرفها اليوم، سيدرك جيداّ قصدي ومدى وجعي على هذه المدينة التي كانت جبلاً تدلَّى إلى البحر، فصار البحر يزحف إلى الجبل!، ولا أقصد جبل الجغرافيا البتة، بل جبل الناس والتاريخ، جبل الوعي والوجدان، الجبل الذي اكتظّ ليس فقط بأحجار سوداء وقرود عجفاء، بل بمنظومة مفاهيم وأخلاق وقيم لم تكن يوماً تمُت بأدنى صلة إلى هذه المدينة، ولا إلى المدنيَّة.
لذا - كما أسلفت - سأموت وفي نفسي شيءٌ من عدن التي رحلت إلى أعمق قاع في بحر حُقّات.. وأعلى صخرة في جبل التعكر!
-------------------- " نص المقال القديم " : --------------------------------
كانت ثمة مدينة اسمها: عدن.
نعم، كانت. فالمدينة، التي أرى اليوم، ليست هي المدينة التي عرفت يوماً.
وعدن التي كانت.. كانت مدينة بكل معنى الكلمة.
مدينة ينام أهلها ليلاً وأبواب بيوتهم مُشرعة للريح والبخور.. أو ينام بعضهم على الأرصفة وفي الميادين وملاعب الكرة؛ هرباً من الحرّ الشديد والقيظ البليد.. ثم يصحون على صباحٍ ينضح بالسكينة والسلامة.
عدن، التي عرفتُ في ما مضى، كانت مدينة يتوضَّأ أهلها بالتعايش والتسامح والكرم والنبل والرضا والقناعة.. لا يعرفون الحقد والحسد والضغينة، ولا يفقهون حرفاً في كتاب التمييز أو قاموس العنصرية.. وإذا كان ثمة أبسط من البساطة فهُم.
كانت الحافة في عدن فسيفساء عجيبة وبديعة وراقية من الأديان والمذاهب والأعراق والمناطق واللهجات والطبائع والصفات والمناقب.. يسكنها أفقر الفقراء والمستور بحفظ الله، وذاك الذي فتح عليه الرزاق الوهاب.. حتى الرئيس أو الوزير، الذي خرج منها، لم يخرج قط من جلدها.
وكانت السكين في يد شخص يسير في الشارع سلاحاً خطيراً، ومشروع جريمة قتل مع سبق الإصرار ، أما المسدس فلا يحمله غير رجل أمن، أو ضابط في الجيش، ولا يستخدمه إلاَّ بأمر القانون، وفي ظرفٍ قهري لا يقبل التأويل.
وكانت أُمّ الفُل، وأبو العَتَر، وأُمّ الخمير، وأبو الثريب، وأُمّ الزعقة، وأبو التمبل هم أبطال الشاشة في مدينة حُبلى بأبطال الحياة اليومية البسيطة، من كل المستويات الفئوية والثقافية، التي تندرح كلها تحت طبقتين لا ثالثَ لهما: البروليتاريا والوسطى. أما "الهاي لايف" فرئيس الدولة شخصياً لا ينتمي إليها، ولا أكبر تاجر أو مقاول.
- ماذا؟.. أ تراني أكذب أم أُبالغ؟
إذن، سَلْ كل من عاش فيها خلال الزمن الممتد منذ الثلاثينات حتى الثمانينات..
سَلْهُ عن عدن اليوم: هل هي عدن التي تعرفها؟... ولا تنتظر إجابته، بل اقرأ كلام الدموع في عينيه، فهي أصدق إجابة.
ستقول لك تلك العيون الغرقى بالدموع إن عدناً لم تطرد يوماً لاجئاً إليها من أيّ جنس أو عرق أو دين أو لون، ناهيك عن أبناء الجنس والعرق والدين واللون نفسه الذي تحمله عدن.
ستقول لك ما سبب تسميتها التاريخية بأُمّ المساكين.. وستقول لك إن الجار في الحافة لم يكن يهتم من أية قرية تدحرج جاره إلى عدن.. وما إذا كان ينطق القاف جيماً أو الجيم ياءً أو الغين قافاُ أو العكس.. أو يضُم في صلاته أو يُسربِل، أو لا يُصلّي أصلاً صلاة المسلمين.
ستقول لك إن أحداً لم يجُع يوماً في عدن، وأن المائدة كانت واحدة في الحافة.. وإن الفرحة واحدة، والمأتم واحداً.. وأن لا أبواب بين البيوت، ولا قضبان بين القلوب، ولا ترجمة بين المشاعر، فتلك اللغة لم تكن حينها في أدنى حاجة إلى مترجم.
- أما زلتَ تتهمني بالكذب أو المبالغة؟
أوكّيه. ستردّ عليك عجائز عدن وشيوبة الحوافي.. ستردّ عليك ذرّات التراب في كل زغطوط من زغاطيطها..
ستقول لك إن عدن اليوم ليست عدن!
عدن اليوم لم تخرج من بركان وتتدلّى صوب البحر، إنما خرجت من بالوعة طفحت على البحر.
عدن اليوم يا هذا هي مدينة أخرى لا علاقة لها بالمدينة التي عرفها وسكنها وعاشها كل هؤلاء وأولئك.
اليوم، ليس ثمة عدن في عدن!