مقالات
يمنات يوك أفندم!
منذ أن عرف أبو يمن لعبة السياسة وهو يزاولها في غير ملعبه، بل في ملاعب مملوكة للآخرين!
انقسم أهل السياسة في عدن والجنوب، ذات يوم، بين أتباع بريطانيا وأتباع مصر (عبد الناصر).. ثم انقسم الثوار ضد السلطات الاستعمارية البريطانية بين جبهتين: قومية وتحرير، ويوم سعوا إلى التوحد، سرعان ما اختلفوا وانقسموا مجدداً.. وبعد استقلال الجنوب عن لندن، انقسم رجال الجبهة الواحدة إلى فسطاطين: قومي وأممي.. ثم انقسم أتباع الفسطاط الأخير إلى معسكرين: صيني وسوفيتي.. ثم تشابه البقر علينا بين تروتسكي وستاليني، إلى أن ألقت أُمُّ الجنّ بالجميع في بحر الظلمات، فتلاطمت الأمواج بين يمينية ويسارية، وتشابكت الأصداف بين انتهازية وطفولية، حتى وصلت الجثث الطافية إلى باب اليمن في 22 مايو 1990 من دون أن يتمكّن أحد من تبيان هوية أصحابها إلاَّ من خلال التمييز الصعب للملابس الممزقة التي ظلت عالقة بها!
وفي الشمال، كانت الغلبة لأتباع البوصلة الغربية (المصنوعة في واشنطن تحديداً)، بالرغم من وجود منافسة ما -ولو غير متكافئة- من البوصلة الشرقية أو السوفياتية على وجه الخصوص.. غير أن الخيمة السعودية ظلت هي سيدة الموقف وآمرة الثكنة، فقد عرفت الرياض جيداً من أين تؤكل كتف صنعاء، فألقمت أفواه المشايخ وكبار الضباط وبمعيّتهم حفنة من المثقفين وكبار الموظفين.. وقد انقسمت شعائر الحج والعُمرة -منذ ذاك- بين الحرمين و"اللجنة الخاصة"، واِنْ كانت الغلبة -في أحيان كثيرة- للثانية!
...
في اليمن فقط، تجد القرى مطبوعة بهوية حزبية..
فالقرية "ش" بعثية بالضرورة.. والقرية "ق" ناصرية بالتأكيد.. والقرية "ز" يسارية حتماً.. أما القرية "م" فهي مكتوبة باسم جماعة الإخوان المسلمين إلى يوم الدين!
أما في نطاق القبيلة -وهو النطاق الأعلى الذي لا يُعلى عليه اسم أو فعل أو حرف أو صفة- فالشيخ يُجرجر رعيّته إلى حيث يقوده هواه.. فإذا كان من أتباع ماركس مَرْكَسَ القبيلة كلها.. وإذا صار من عشاق عفاش عفشش القبيلة أباً عن جد.. أما إذا مال إلى الأحمر فالقبيلة كلها تحمّر من أم رأسها إلى أخمص قدمها.
إن الشيخ في القبيلة اليمنية هو مالك البشر والبقر والشجر والحجر، وأشياء أخرى كثيرة لم ترد قط في كتب الأديان ومناهج التعليم ومسودات القوانين وكرتون الأطفال!
فإذا جاءت ريح الحوثي تحوّثت قبائل وقرى ومدن وعائلات وجماعات وجيوش ومدارس وجوامع وجامعات وتيارات وأحزاب وعقائد.. فإذا بالصرخة تتردد في الآفاق، وتلتصق بالجدران، وتخترق الحارات والمنابر والمقايل والمولات.. وتصبح اسماً وفعلاً وحرفاً وصفة، غصباً عن أنف الأصمعي والفراهيدي والطهطاوي وقاسم أمين وعلي مبارك وزكي جمعة!
...
إذا كان ساسة الأمس قد انقادوا إلى معسكرات سياسية وتيارات آيديولوجية لها شنَّة ورنَّة في ميزان القوى العالمية، بل ولها تاريخ ومريخ وبطيخ، فإن ساسة اليوم قد تدهورت بهم الحال إلى مستنقع بالغ النتانة.
لم يكن يوماً لعاقل -أو حتى مجنون- أن يتصوَّر، ولو من باب السخرية أو النكتة السوداء، أن يأتي زمن في بلاد اليمن يدين فيه سياسي -أو حتى مُتسيّس- يمني.. يمني.. يمني، بالولاء والطاعة والتبعية العمياء لدويلة مثل "الإمارات" عليها الضلال والظلام!
فإذا كان المرء يُصاب بالقرف الشديد من مرتادي حظيرة "اللجينة الخصوصية" في الأراضي المتسعودة، فما الذي يمكن أن يُصاب به في حال رؤيته أولئك العويلة يقفون في طابور الاستجداء لدخول المول الذي صار دولة متبوعة ذات صولة مسموعة!