أخبار سياسية
اليمن وخذلان الخارج.. ماذا بعد إهدار الفرص وفشل كل الرهانات؟
لم تحمل زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السعودية جديدا بالنسبة لليمنيين، رغم التصعيد الأخير في البحر الأحمر والهجمات الأمريكية ضد الحوثيين التي توقفت بموجب اتفاق تهدئة بين الجانبين قُبيل الزيارة، وكأن الحرب التي قتلت وجرحت وشردت آلاف اليمنيين وأغرقت البلاد في دوامة الانهيار والانقسامات، وامتد تأثيرها ليشمل أمن الإقليم والملاحة الدولية في البحر الأحمر، لا تستحق أن تُذكر ولو تلميحا في حضرة التحالفات والمصالح بين قوى خاضت صراعات على أنقاض اليمنيين.
هذا التجاهل للقضية اليمنية لم يكن مفاجئا بقدر ما كان كاشفا لمدى تراجع اليمن في أجندة القوى الكبرى، وانكشاف خرافة رهان اليمنيين على الخارج، بعد مضي عشر سنوات محملة بالرهانات الخاسرة، بدءا من التعويل على تدخل دولي حاسم لمساعدة اليمنيين على إنهاء الانقلاب الحوثي المدعوم من إيران واستعادة الدولة، وصولا إلى انتظار ما إذا كانت الهجمات الأمريكية الأخيرة ضد الحوثيين ستكسر الجمود وتحفز المكونات اليمنية المنضوية في السلطة الشرعية للتحرك عسكريا لإنهاء سلطة الحوثيين بدعم من التحالف السعودي الإماراتي والولايات المتحدة الأمريكية.
بيد أن الوقائع أثبتت أن الخارج، وإن بدا مهتما في الظاهر، لم يكن في جوهره سوى طرف لا يسعى إلى حل الأزمة اليمنية وإنما يديرها وفقا لما تقتضيه مصالحه، بينما المكونات اليمنية المنضوية في السلطة الشرعية أهدرت فرصا ثمينة لإنهاء الانقلاب الحوثي واستعادة الدولة، كونها لم تحسن إدارة المعركة من بدايتها، ولم تضع الحسم العسكري كهدف إستراتيجي أمام الحلفاء المفترضين، وبقيت مرتهنة لإرادات خارجية تبحث عن تسويات مؤقتة أو هدن هشة لتكون غطاء لتمرير سياساتها ومؤامراتها على اليمن.
وفي حين انهارت رهانات الداخل على دعم إقليمي أو دولي حاسم، ظلت القوى الدولية والمنظمات الأممية وغيرها تتعامل مع الملف اليمني كأزمة إنسانية بحتة، لا كقضية سياسية تحتاج إلى موقف واضح وحاسم. واليوم يقف اليمن أمام مفترق طرق حرج، فلا خارطة طريق واضحة للخروج من مربع الأزمة، ولا مؤشرات لحل سياسي دائم، ولا وجود لفاعل محلي قادر على جمع ما تبعثر، ويحشد الشعب حوله نحو الخلاص.
وبعد سقوط كل الرهانات، وإهدار جميع فرص الحسم، كيف يمكن لليمن أن ينهض من بين ركام الفرص الضائعة والرهانات الخاسرة؟ وما السبيل إلى الخروج من نفق الخذلان الطويل؟ وهل بإمكان الداخل أن يشق طريق الخلاص بعيدا عن حسابات الخارج، أم أن البلاد محكومة بالبقاء في هامش الأولويات الدولية، وأن تبقى مسرحا لصراعات إقليمية ودولية تجري على أنقاضها؟
- هل كان التدخل الخارجي فخا إستراتيجيا؟
منذ اندلاع الحرب في العام 2015، أدى التدخل العسكري الخارجي بقيادة السعودية دورا محوريا في تشكيل مسارات الصراع، ففي البدء حمل هذا التدخل وعودا كبيرة بالقضاء على الانقلاب الحوثي وقطع يد إيران في اليمن وعودة السلطة الشرعية إلى العاصمة صنعاء وإعادة بناء الدولة، لكن سرعان ما انكشفت نتائج مغايرة، تمثلت في التآكل المتزايد للسيادة اليمنية، وتفكك القرار الوطني، وتعدد المرجعيات والأطراف المتنافرة داخل معسكر يُفترض أنه واحد.
ومع أن عملية "عاصفة الحزم" بدت في الأشهر الأولى نموذجا لتدخل خارجي بدا في لحظته الأولى حاسما، لكنه مع مرور الوقت تحول إلى مشروع تآمري طويل الأمد أمسك بمختلف خيوط الأزمة اليمنية، وأصبح ذلك التدخل أحد عوائق استعادة الدولة، وربما أنه لولا ذلك التدخل العسكري لكانت الحرب قد حُسمت في أشهرها الأولى، وسيكون اليمنيون قد تمكنوا من حسم المعركة ضد الانقلابيين، وإن كانت الكلفة كبيرة، لكنها ستُدفع مرة واحدة، وربما تكون أقل من كلفة إطالة أمد الحرب، وتحوُّل التدخل الخارجي إلى أحد عوائق استعادة الدولة، بالإضافة إلى العوائق التي يشكلها الحوثيون.
ورغم أن الشعب اليمني عول في البداية على التدخل العسكري الخارجي باعتبار أنه سيقلل من كلفة استعادة الدولة من خلال تدمير مخازن أسلحة تحالف الانقلاب (علي صالح ومليشيا الحوثيين)، التي كانت ستُوجه نحو صدور اليمنيين، لكنه صُدم بعد ذلك بالأجندات المتضاربة للحلفاء المفترضين، فدخلت دولة الإمارات بخيارات مغايرة لما أعلنت عنه السعودية (دعم السلطة الشرعية ضد الانقلاب الحوثي)، ثم إن السعودية ذاتها بدأت بتصرفات مغايرة، وأنشأت الدولتان كيانات عسكرية خارج إطار وزارة الدفاع، وصار الداخل اليمني ساحة لتجريب التوازنات الإقليمية، وصراع على النفوذ بين السعودية والإمارات وإيران.
وهكذا خذلت التحالفات الكثير من اليمنيين الذين اعتقدوا أن الخارج قادر على تقديم حل أو دعم مشروع استعادة الدولة، غير أن الحقيقة التي ظلت تتكشف تباعا تؤكد أن المراهنة على الدعم الخارجي، من دون رافعة داخلية حقيقية، ليس سوى فخ إستراتيجي، هُمشت فيه القضية الوطنية، وأُفرغت سيادة البلاد من مضمونها. وفي حين يتراجع الحضور الإقليمي والدولي، أو يعيد تشكيل نفسه وفق مصالح جديدة، يجد اليمنيون أنفسهم أمام مسؤولية وطنية شاقة، تبدأ بإعادة بناء الذات الوطنية، وتحرير الإرادة من ثقل التبعية والارتهان للخارج.
- التطبيع مع الحوثيين
شهدت الحرب تحولات كثيرة كان أبرزها أن القوى الأجنبية التي كانت داعمة للسلطة الشرعية ضد الانقلاب الحوثي انتقلت من خطاب المواجهة إلى خطاب التهدئة والتطبيع مع مليشيا الحوثيين، كان آخرها الولايات المتحدة التي توصلت إلى اتفاق غامض مع الحوثيين، وقبل ذلك بسنوات كانت السعودية قد بدأت في فتح قنوات تفاوض مع مليشيا الحوثيين، دون اشتراطات واضحة، أو ضمانات لصالح القوى اليمنية الأخرى المنضوية في إطار السلطة الشرعية المعترف بها دوليا.
ومع أن هذا التحول قد يبدو ضرورة للمملكة، أملتها الكلفة العسكرية والفشل في التصدي للهجمات الحوثية على منشآتها الحيوية، بالإضافة إلى مؤامراتها ضد اليمن، لكنه يعكس في جوهره تخليا تدريجيا عن هدف استعادة الدولة اليمنية، والتطبيع مع مليشيا الحوثيين الانقلابية، وإعادة تعريف الصراع وفق أولويات تتصل بالأمن الحدودي وأمن الطاقة أكثر من إعادة بناء الدولة اليمنية.
ونتيجة لعجز السلطة الشرعية وفشلها في تقديم سرديتها للعالم عن الأزمة اليمنية، ومؤامرات السعودية والإمارات على اليمن وتطبيع علاقتهما مع إيران ثم الحوثيين، لم يعد ينظر المجتمع الدولي للأزمة اليمنية كقضية سياسية بامتياز، بل باتت تُخنزل في بعدها الإنساني أمام أنظار القوى الكبرى، مما دفع إلى إزاحة اليمن عن طاولة الأولويات الإقليمية والدولية، وإدراجها في هامش السياسات الخارجية للدول الكبرى.
وهو ما تجلى في الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السعودية وقطر والإمارات، رغم أنه للتو تم الاتفاق بين إدارته ومليشيا الحوثيين على التهدئة بوساطة عمانية إثر تهديدات الحوثيين للملاحة في البحر الأحمر والهجمات الأمريكية ضدهم، كما أن المبادرات الأممية والدولية تأتي غير متوازنة، وتميل إلى تبني وجهة نظر السعودية والإمارات وبعض الأطراف الأقوى على الأرض بشأن الأزمة اليمنية، دون اكتراث حقيقي بمعايير العدالة واستعادة القرار الوطني، والنظر للأزمة من منظور الدستور اليمني والقوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة.
كما أن السردية الأممية اختزلت الصراع في اليمن في "أكبر أزمة إنسانية في العالم"، وتدفع باتجاه تسويات غير منطقية تتجاهل عمق الأزمة وبعدها التاريخي، وتتعامل مع مليشيا الحوثيين كأمر واقع، بينما القوى الدولية تتعامل مع الأزمة اليمنية ضمن سياق التنافس الإقليمي بين السعودية وإيران، وتختزل سياقها المحلي في الأزمة الإنسانية فقط، مما أفقد الملف اليمني بعده الوطني لصالح معادلات لا تمس جوهر الأزمة.
وفي خلفية المشهد اليمني، تتحرك الولايات المتحدة الأمريكية كقوة فوق الجميع، لا تبحث عن حل أو حسم بل عن إدارة الصراع، ولذا فقد وجدت في مليشيا الحوثيين "بعبعا" مناسبا لإبقاء السعودية تحت الضغط، من خلال تذكيرها بخطر تلك المليشيا، التي ستفرز استمرار حاجة المملكة للحماية الأمريكية، ولذلك فواشنطن لا تريد القضاء على مليشيا الحوثيين، ولا انتصارها بالكامل، بل بقاءها كأداة ضغط إقليمي، فضرب الحوثيين بقوة رسالة لإيران، وبقاء الحوثيين فاعلين في اليمن بهدف جعل السعودية في مربع الحاجة الدائمة للمظلة الأمنية الأمريكية.
وفي خلاصة هذا المشهد، تتبدى معادلة مريرة بالنسبة لليمنيين، فالحوثيون باقون لأنهم مبرر لبقاء الوجود العسكري السعودي والإماراتي في اليمن، وباقون لأن واشنطن تريد أن تتخذهم وسيلة لتهديد إيران وابتزاز السعودية، والتحالف السعودي الإماراتي باقٍ في اليمن لأنه لم يتم القضاء على الحوثيين بعد، والسلطة الشرعية باقية لأنها تُستخدم لتبرير التدخل لمساندتها، بينما اليمن يضيع بين الأدوار الوظيفية والأطماع المكشوفة، ويبقى المواطن اليمني الضحية الوحيدة في حرب تتغذى من أطماع الخارج وانقسامات الداخل.
أما السلطة الشرعية، فلا شك أنها تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن المصير الذي آلت إليه القضية اليمنية، كونها لم تتعامل، منذ بداية الحرب، مع الحلفاء الأجانب من باب الندية ولكن كمجرد طرف تابع، وغضت الطرف عن كل العبث الذي مارسه التحالف السعودي الإماراتي في البلاد، بدءا من تشكيل مليشيات ومجموعات مسلحة خارج إطار وزارة الدفاع، مرورا بالسيطرة العسكرية على مدن وموانئ وجزر بعيدة جدا عن مسرح المواجهات مع مليشيا الحوثيين، انتهاء بالتغيير المستمر في هيكل السلطة الشرعية ذاتها، لدرجة الإطاحة بالرئيس الذي اكتسب شرعيته من الاستفتاء الشعبي، وتعيين مجلس رئاسي بديل بشكل مخالف للدستور اليمني، وينتهك سيادة البلاد، ويصادر حق الشعب اليمني في اختيار من يحكمه.
- ماذا بقي؟
انقضت عشر سنوات من الحرب، ولم يعد في جعبة اليمن ما يراهن عليه، فقد انقضى زمن الشعارات الكبرى عن استعادة الدولة وقطع يد إيران في اليمن، وذابت سرديات التحالف السعودي الإماراتي في دهاليز المؤامرات على الطموحات والأهداف المشروعة للشعب اليمني، وتكشفت أوهام الدعم الدولي للسلطة الشرعية وأصبحت تتسم بالبرود وغموض المواقف، حتى أصبحت القضية اليمنية ساحة مهملة تدار كملف أمني وإنساني هامشي، لا كقضية سياسية تهم ملايين اليمنيين وتستحق إنهاء مأساتها.
كما أن السلطة الشرعية والمكونات المنضوية فيها أهدرت الفرص تباعا، بدءا من إضاعة فرصة الحسم العسكري عندما كان الجيش الوطني على مشارف العاصمة صنعاء والاستسلام لضغوط التحالف بتوقف المعارك ثم التراجع الميداني، وانتهاء بانهيار أبرز مكونات المحور الإيراني، حزب الله اللبناني ونظام بشار الأسد في سوريا، فضلا عن إذلال إيران ذاتها، عندما كان هناك زخم شعبي ضاغط للقضاء على مليشيا الحوثيين واستعادة الدولة، وسط آمال بأن تضغط "الشرعية" على السعودية والإمارات لدعمها عسكريا لإنهاء سلطة الحوثيين، لكن من الواضح أن "الشرعية" صارت جزءا من التعطيل لا رافعة لاستعادة الدولة.
ومما زاد الطين بلة أن المليشيات الانفصالية وبقية التشكيلات العسكرية التي أسسها التحالف السعودي الإماراتي خارج إطار وزارة الدفاع، أصبحت أقوى من السلطة الشرعية بفضل ما تتلقاه من دعم سخي بالمال والسلاح والإسناد العسكري المباشر في حال خاضت مواجهات مع الجيش الوطني، كما حدث بنقطة العلم في عدن وفي محافظة شبوة، في حين أصبحت مليشيا الحوثيين سلطة أمر واقع تستقوي على اليمنيين بالتغاضي الإقليمي والدولي، وترتكز على دعم إيراني معلن، وسط تخلي الرياض وأبوظبي عن السلطة الشرعية بعد تعمدهما إضعافها، وارتباك في الموقف الأمريكي لم ينجح في صياغة سياسة واضحة، بل استخدم مليشيا الحوثيين كورقة ضغط أو مساومة.
ولذلك فإن ما يجري اليوم يمثل حصيلة مباشرة لانهيار الرهانات على الخارج وإهدار فرص الحسم العسكري، فخذلان الخارج، كما تجلى بوضوح في القمة الخليجية الأمريكية الأخيرة في الرياض، لم يكن مفاجئا بقدر ما هو امتداد لمنطق إدارة الأزمات لا حلها، وهنا نصل إلى اللحظة الفارقة التي يبدو معها كل شيء وكأنه قد تم ترتيب تفاصيله ببطء وحذر، فهناك خارطة نفوذ أمر واقع، وتراجع واضح لدور السلطة الشرعية، وتقاطع مصالح إقليمية على الأرض اليمنية، وبيئة دولية لم تعد تولي الملف اليمني أي اهتمام إلا كملف إنساني بحت.
والسؤال هنا: هل سيقبل الشعب اليمني بهذا الوضع كشكل نهائي للصراع؟ المشهد الآن مفتوح على سيناريوهين، فإما تثبيت الوضع الراهن بوصفه تسوية ملغومة تؤبد الانقسامات، أو نهوض بطيء ومؤلم لاستعادة الدولة، والاستعداد لكلفته الكبيرة، وإعادة توصيف الصراع بعيدا عن الحسابات الخارجية، واعتباره صراعا حول استعادة الدولة والمواطنة والسيادة، وإنهاء سيطرة مختلف المليشيات على مساحات واسعة في البلاد.