تقارير

احتراف التسول.. ظاهرة متفاقمة وأسباب متعددة

15/05/2025, 14:15:32
المصدر : خاص - بشرى الحميدي

في مشهدٍ يتكرر يوميًا في شوارع مدينة تعز، تتعالى أصوات بعض النساء، وهن يصرخن ويستنجدن بالمارّة، بينما يجلس أطفال صغار على بطانيات مهترئة مفروشة على الأرصفة، بأجساد هزيلة وملابس ممزّقة، في محاولةٍ صارخة لاستدرار العطف.

وتصل بعض هذه المشاهد إلى حد تمزيق الملابس عن الجسد، أو افتعال مظاهر من الألم والمعاناة، فيما يترافق ذلك مع استخدام الأطفال كوسيلة عرض مباشرة لجذب الانتباه.

مشاهد يصفها كثير من المواطنين بأنها مبتذلة وصادمة، ومخالفة لأبسط معايير الكرامة الإنسانية.

هذا النوع من التسوّل، الذي يجمع بين المبالغة الصاخبة واستغلال الطفولة، لم يعد مجرد تعبير عن الفقر، بل تحوّل إلى سلوك مُنظم يتكرر بطريقة تثير الاشمئزاز بدلًا من الشفقة، وتفتح باب التساؤل عن دور السلطات في ضبط هذه التجاوزات التي تمسُّ كرامة الإنسان، وخصوصًا كرامة الطفل.

وفي هذا السياق، عبّر عمار هاشم، أحد النشطاء المجتمعيين، عن انزعاجه الشديد من هذه الممارسات التي وصفها بـ"المهينة وغير الإنسانية"، مشيرًا إلى أن بعض المتسوّلين بالغوا في تشويه معنى الفقر الحقيقي، من خلال وسائل تُحاكي الألم بطريقة مسرحية.

وقال: "يؤسفني أن أرى بعض المتسوّلين وقد بالغوا في إظهار الحاجة إلى حد يستفز المشاعر، من خلال عرض الأطفال في الشوارع بملابس ممزّقة، وفي ظروف مناخية قاسية لا يتحملها الكبار، ناهيك عن الصغار".

وأضاف: "مثل هذه التصرفات لا تثير الشفقة كما يُظن، بل تثير النفور، وتفقد الناس الثقة بأي مظاهر حقيقية للفقر".

وتابع: "ما يثير استغرابي أن من يمارس هذه الأساليب يمكنه، بكل بساطة، أن يطلب المساعدة بطرق تحفظ كرامته وكرامة أطفاله".

وزاد: "فلو خصص نصف ساعة فقط للطرق على أبواب الخير، لعاد بما يستر أبناءه، دون الحاجة إلى هذا النوع من الاستغلال المرفوض".

- القانون يجرّم التسوّل

تتعدد المظاهر، لكن الموقف القانوني منها واضح، حيث تنص المادة "203" من قانون الجرائم والعقوبات اليمني على معاقبة كل من اعتاد ممارسة التسوّل بالحبس مدة لا تتجاوز ستة أشهر، إذا ثبت أن لديه أو بإمكانه الحصول على وسائل مشروعة للعيش.

وتُشدد العقوبة لتصل إلى الحبس لمدة لا تزيد على سنة، في حال اقترن فعل التسوّل بالتهديد، أو بادعاء الإصابة بعاهة، أو باصطحاب طفل صغير ليس من فروعه.

كما تمنح المادة المحكمة صلاحية استبدال العقوبة بعمل إلزامي لمدة لا تزيد على سنة، إذا كان المتسوّل قادرًا على العمل، أو إيداعه ملجأ أو دارًا للعجزة أو مؤسسة خيرية معترف بها، في حال كان عاجزًا.

ورغم وضوح هذه النصوص، إلا أن الواقع يكشف عن قصور كبير في تطبيقها، لا سيما في ظل الظروف الأمنية والاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها البلاد، ما يفسح المجال لتفاقم الظاهرة، ويترك الأطفال بلا حماية حقيقية.

- تورّط محتمل لجهات نافذة

ظاهرة التسوّل من أبرز التحدِّيات الاجتماعية، خاصة في المُدن الكبرى، حيث تعكس تدهور الأوضاع الاقتصادية وتفاقم الفقر.

في هذا السياق، يوضح وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لقطاع الرعاية، صالح محمود، خطورة هذه الظاهرة وأثرها على المجتمع، قائلا: "إن ظاهرتي التسوّل واستغلال الأطفال تمثلان تهديدًا حقيقيًا للمجتمع اليمني، خاصة في المدن الكبيرة مثل تعز وصنعاء وعدن"، مؤكدًا أن "استمرارها بهذا الشكل يعرقل كافة جهود التنمية، ويقوّض منظومة الحقوق الأساسية".

وأضاف: "تشير دراسات ميدانية إلى أن حوالي 70% من أسر الأطفال العاملين يعيشون تحت خط الفقر المدقع، فيما تصل نسبة البطالة بين أولياء أمورهم إلى 40%. وهذه الأرقام سُجلت قبل اندلاع الحرب عام 2015"، مشيرا إلى أن "الوضع اليوم أصبح أكثر كارثية".

وأوضح أن "هناك تقارير موثقة تؤكد تورّط بعض الجهات النافذة في إدارة واستغلال ظاهرة التسوّل لأغراض سياسية أو اقتصادية"، مشددًا على ضرورة التحقيق في ذلك بجدية؛ لأن "هذا التورّط، إن ثبت، يعني أننا أمام شبكة تستغل الفقر لأهداف غير إنسانية".

ودعا إلى تفعيل مراكز الرعاية الاجتماعية في المدن، وتزويدها بالميزانيات الكافية، إلى جانب وضع وإنجاز خطة إستراتيجية وطنية لحماية الأطفال للأعوام 2025 / 2027م، تقوم على مسؤولية مشتركة تشمل الدولة، والمجتمع، ومؤسسات المجتمع المدني، والأسرة.

- ضرر مضاعف

لا يتوقف خطر هذه الظاهرة عند حد تشويه صورة الفقر أو التلاعب بالمشاعر، بل يمتد إلى الجانب النفسي العميق، سواء على المتسولين أنفسهم، أو على الأطفال الذين يتم استغلالهم كوسيلة لجذب المال، أو حتى على المجتمع الذي يتعرّض يوميًا لهذا المشهد المؤلم، ويُترك في حالة من التبلُّد أو الانقسام تجاه الفعل الإنساني.

وفي هذا السياق، تشير الأخصائية النفسية رقية الذبحاني إلى أن التسوّل المبتذل، كما في حال الصراخ، وافتعال الألم، وعرض الأطفال بطريقة علنية على الأرصفة، ينتج أزمة هوية نفسية واجتماعية خطيرة، ويترك أثرًا طويل الأمد على الأطفال، والمتسوّلين، والمتلقين لهذا المشهد على حدٍ سواء.

وقالت: "يشكّل التسوّل المبتذل عامل ضغط نفسي عميق على الأفراد الذين يمارسونه، حيث يعاني المتسوّلون من مشاعر الإحباط واليأس، مما يدفعهم إلى الاعتماد المستمر على الآخرين، وفقدان الثقة بالنفس، والشعور بعدم الاكتفاء الذاتي."

وأضافت الذبحاني: "غالبًا ما يواجه المتسوّلون عُزلة اجتماعية نتيجة النظرة السلبية والتمييز المجتمعي، مما يؤدي إلى تراجع علاقاتهم الاجتماعية، وتفاقم مشاعر الوحدة".

وأوضحت: "تكرار التجارب السلبية، مثل التعرّض للرفض أو الإهانة، يترك آثارًا نفسية طويلة الأمد، منها الشعور بعدم الاستحقاق، وفقدان القيمة الذاتية".

ولفتت إلى أن "الأطفال، الذين يُستخدمون في التسوّل، يتعرضون لصدمات نفسية مستترة، تنمو معهم وتؤثر على قدرتهم لاحقًا على بناء علاقات صحية، أو الاندماج في المجتمع".

وأكدت الذبحاني أن "بعض المتسوّلين قد يطوّرون آليات دفاعية؛ مثل التبلُّد أو الانفصال العاطفي، وهي ردود فعل تجعلهم يتعايشون مع الألم ببرود، لكنها تؤثر بشكل سلبي على نموهم الشخصي والاجتماعي".

تقارير

بعد 10 سنوات من الحرب.. من يملك مفاتيح القرار الفعلي في الملف اليمني؟

خلقت زيارة ترامب للمنطقة موجة من الحلول السريعة لمشاكل عالقة، من الانفتاح على دمشق، وصولًا إلى تفاهمات مع أنقرة والرياض وأبو ظبي، في سياق يعيد رسم خرائط النفوذ بمعايير الربح والخسارة. لكن اللافت أن اليمن لم يكن جزءًا من هذه التفاهمات، ولا حتى بندًا فرعيًا في قائمة الأولويات.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.