تقارير
"المُغنيات الشعبيات" في صنعاء.. طقوس بديعة منكفئة على نفسها
تبدو صنعاء القديمة متنوعة ومختلفة ومتكاثفة في جوانب عدّة، وهي تؤكد حجم الرّقي للمجتمع اليمني في أناقته الرّوحية والإنسانية.
ورغم أن اليمن بشكل عام يصنّف كمجتمع محافظ وشديد التقاليد، خاصة فيما يتعلق بالمرأة، إلا أن صنعاء كانت حاضرة، وتكسر هذه القاعدة، وتقدم نماذج غاية في الإدهاش، وظلت لعقود، بل لقرون طويلة، تحتفي بالإنسان، وكل ما يرتبط به وجدانيا وحضاريا.
وذلك ليس محصورا على صنعاء فقط، بل هناك مُدن يمنية أخرى بالوهج ذاته، مع بقاء رمزية فعلية لصنعاء، في هذا الجانب بالذّات.
وقد أسهمت اليمن بشكل عام في تمازج الثقافات وصهرها، فالتراث "اليهودي اليمني" مليء بالتراث الشعبي الغنائي البديع، وقد ترك بصمته، وما يزال حتى اللحظة، بل إن هذا الإبداع سافر مع اليهود اليمنيين، وظل يُسهم في التعريف بالتراث والثقافة اليمنية، وهو من صميم الأغنية اليمنية الشعبية.
"المُغنية الشعبية"
يحضر هذا الصّنف في المناسبات الخاصة بالنساء فقط، وربّما تُركت تلك المُغنيات في عزلة بعيداً عن أضواء الشهرة والإنتاج الفني. فعبر مجموعة من الأُسر تعمل هؤلاء المغنيات في مجال "الغناء الشعبي" اليمني، خاصةً في المجتمع الصنعاني، إذْ توارثت تلك الأسر العمل في مهنة الغناء الشعبي، جيلاً بعد آخر.
فالفنان الشعبي، سواء كان رجلاً أو امرأة، هو شخص لم يتلقَّ أي تدريب، فهو مبدعٌ يقدم عملا فنيا من واقع الحياة اليومية، ويعدّ الفن الشعبي تراثاً ينتقل عبر الأجيال.
ترتبط الأغاني الشعبية بكافة الأنشطة الإنسانية اليومية، وترتبط أيضا بمختلف المناسبات الاجتماعية، أهمها: إحياء مراسيم الزواج وحفلات المواليد، وما يتبعهما من مُسميات خاصة في كل مجتمع على حِدة، حيث تعد تلك الأغاني الشعبية أحد أبرز مجالات التراث الشعبي، والفنون الشعبية، بوصفها من الموروثات الشعبية التي من سماتها تعليم وتحقيق الشعور بالانتماء إلى الجماعة والإحساس بالتجانس معها، مما يعطي أفراد المجتمع الواحد شعوراً بالأُلفة والأمان.
تتخذ الأغنية الشعبية اليمنية صوراً مختلفة، إذْ ترافق الإنسان اليمني في: الوادي، والجبل، والسّهل، والبحر.
"فكرة الفلكلور"
يعتبر الفلكلور الفني اليمني أرضية انطلاق لكثير من التيارات الغنائية الأخرى، حيث يتمتع اليمن تاريخياً بأهمية استراتيجية نوعية، الأمر الذي منحه فرصة الاتصال ب: الإغريق، والهنود، والشرق الأقصى، والمصريين، والآشوريين، والبابليين، وشمال الجزيرة العربية وشرقها، وسواحل أفريقيا الشرقية، وكان لذاك الاتصال أثر عظيم في جعل الثقافة اليمنية محل تفاعل خلّاق مع ثقافات الآخرين، حيث انعكس الملمح على الفلكلور، من خلال تنوعه الهائل، وأصبح حالة تفاعلية إنسانية عظيمة.
"المغنيات الشعبيات" في صنعاء حضور مناسباتي فقط
تحظى المناسبات الخاصة بالنساء في المجتمع الصنعاني باهتمام كبير، من جانب إحياء مراسيم الزفاف النسائية على الطريقة الشعبية، أو ما شابه ذلك من مناسبات فرائحية.
ونظراً للانغلاق، الذي يعيشه المجتمع من خلال تقاليد تأصّلت فيه، تحت يافطة ما يسمّى ثقافة "العيب"، إلا أن صنعاء -خلافاً لبقية مدن البلاد- تتمتع بوجود عشرات "المغنيات الشعبيات"، يتخصصن في إحياء معظم مناسبات الفرح المتعلقة بالنساء.
في المراحل السابقة، ورغم قلة عدد تلك المغنيات داخل المدينة، إلا أنّهن نلْن شُهرة شعبية لا بأس بها، ك: "تقية الطويلية"، و"نبات أحمد"، التي كانت تجيد العزف على آلة "العود"، وأخريات.
فقد كانت لهن بصمات حضور كبيرة، خصوصاً أثناء مشاركتهن في الاحتفالات الرسمية وبالمناسبات الوطنية، وحظين بنصيب من الشهرة، بسبب بث التلفزيون الرسمي تلك الاحتفالات آنذاك.
وخلافاً للسابق في قلة عددهن، حالياً صعد جيل من "المغنيات الشعبيات"، مهمتهن فقط الأداء في الصالات أو المنازل، وهن يخشين الشّهرة خارج الإطار الشعبي، إذ يعتبرن الحفلات النسائية عالمهن الوحيد.
و"المغنيات الحديثات"، ربما غالبيتهن يجدن العزف على "العود"، خلافاً "للمغنيات القديمات"، اللواتي كُن يقمن بتأدية الأغاني التراثية برفقة صوت "الدف"، في جميع المناسبات، التي يتم استقدامهن إليها، لأنهن لم يُجدن العزف على العود إطلاقاً.
نقل المهنة للأبناء
غالبية المُغنيات ورثن المهنة عن أمهاتهن، فعندما تقدّم العُمر بالأمهات، أحلن أنفسهن إلى التقاعد الإجباري، وسلمنا الدور لبناتهن، فاستلمت البنات الدور مع فارق إجادة العزف على آلة "العود".
ويحدث أن يكون للأم أكثر من بنت ترث العمل عن أمها في مجال "الغناء الشعبي"، ويصير لهن اسم فني متداول في بعض الأوساط الشعبية، بحيث يُعرفن ب"بنات العموش"، أو "بنات العروسي".
وغالبية تلك الأمهات بعد أن تقاعدن، تتولى أمور التنسيق والحجز للمواعيد -في حالة إقامة مناسبة ما- وعبرها يتم التفاوض على أجور المُغنيات، وكذلك تأكيد المواعيد. ويأتي دور الأم هذا نظرا لخبرتها الطويلة، وكثرة تعاملاتها في هذا الجانب، بحسب ما قالته واحدة من الأمهات وفضلت عدم الإشارة إلى اسمها، وهي أمرأة خمسينية.
وعن إجادة جيل "المغنيات الشعبيات" الجديد العزف على آلة "العود" أثناء أداء الأغاني في مناسبة ما، تضيف "المرأة الخمسينية" أنهن تدرّبن على العزف عن طريق بعض الأقارب لديهن، وهم رجال يجيدون العزف، ويُحيون بعض المناسبات الشعبية، لكنهم مغمورون. وهؤلاء الرجال هم قريبون عائلياً من تلك الأسر، التي ركّزت جُل اهتمامها على مجال "الغناء الشعبي"، وتوارثت أُسر قليلة في صنعاء العمل فيه، فأصبح مصدر دخلهم المعيشي الوحيد، من خلال تقاضيهم أجورا مقابل إحياء مراسيم مناسبة ما.
وفي الموضوع ذاته (تدريب بعضهن العزف على آلة "العود")، فالمغنيات يتعلمن العزف على "العود" عن طريق بعض العازفين المعروفين لدى أسرهن، وهم في الغالب فنانون شعبيون.
وظهرت بعض من "المغنيات الشعبيات" نتيجة ميولهن إلى المهنة، أو تعلمهن الأداء لكثرة مرافقتهن المُغنيات من خلال أدائهن دورا ما أثناء المناسبات، كعملهن على الإيقاع وغيره، وفي الغالب تربطهن علاقات أسرية.
والشهرة والطموح
ورغم حضور بعض أسماء "المغنيات" وشُهرتهن المحدودة في الوسط النسائي الصنعاني، إلا أن تلك الشهرة لم تأتِ وفقاً لمعايير فنية محددة، بل جاءت عن طريق الأجور المرتفعة التي تتقاضاها "المغنية"، مقابل عملها في مناسبة ما.
وتتجاوز أجور إحياء المناسبة ليوم واحد 400 ألف ريال، أي ما يعادل 650 دولارا. وأجورهن تتفاوت بحسب أفضليتهن في الأداء، إذْ تنحدر أجور البعض إلى ما يقارب 150 ألف ريال، ما يعادل 250 دولارا للحفلة الواحدة.
"سينا" (29 عاماً)، وهي مغنية شعبية، تحاشت ذكر اسمها خشية أي سبب يُذكر، تقول ل"بلقيس" إنها وجدت نفسها واختيها يعملن في هذا المجال، بُحكم عمل والدتهن، التي كانت تُحيي مناسبات النساء.
وتضيف أن هذا العمل هو مصدر دخلهن المعيشي الوحيد، وأنهن غير مُهتمات بالشّهرة والظهور: "نسير نغنّي وخلاص"، أي فيما معناه "أنهن لا يطمحنا إلى الشّهرة".
وتحدثت قائلة: "من خلال المناسبات النسائية، التي نغنّي فيها، والحضور الكبير للنساء، وبعضهن يُعجبن بما نقدّمه، ويكون معهن مناسبات قادمة، فيتم التواصل بنا وحجزنا. بالإضافة إلى معرفة بعض الأسر بنا أننا نغنّي في الأعراس النسائية، ويستمر التواصل بتلك الطرق معنا".
وتقول "نحن أُسر محافظة، وجميع الحفلات التي نُحييها ممنوع تصويرنا فيها، سواءٌ صور فوتوغرافية أو بالكاميرا، نسمح بالتسجيل الصوتي فقط، لجميع الأغاني الشعبية في مختلف المناسبات النسائية".
"غياب رسمي"
تغريد (اسم مستعار) ، هي واحدة من عشرات "المُغنيات الشعبيات" في صنعاء (30 عاماً)، تقول ل"لبلقيس": "لا يوجد أي دور رسمي للاهتمام بنا ودعمنا أو تشجيعنا. وكلها جهود شخصية أو أُسرية، لما تمثله المهنة من مصدر دخل معيشي لنا".
وعن مستواهن التعليمي، تقول إنهن لم يحصلن على حقهن في التعليم، بسبب ارتباطهن بالعمل في وقت مبكّر، وهن في الغالب يجدن القراءة والكتابة.
"نعتمد على الموروث الشعبي"
وعن كلمات الأغاني الشعبية والألحان، تقول "أنجيلا" وهي مُغنية شعبية (33 عاماً)، ل"بلقيس": "نعتمد في الغالب على التراث الشعبي، سواءٌ الكلمات أو الألحان، وكذلك بعض الأغاني الشعبية الجديدة، التي يلحنها الفنانون الجُدد، ويكتب كلماتها قلة من شعراء الأغاني الجديدة، ونحن مؤديات فقط".