تقارير
بعد سقوط بشار الأسد.. ما موقع اليمن في خارطة التحولات الجديدة؟
يوصف سقوط الرئيس السوري بشار الأسد بأنه لحظة تحول كبرى في صراعات المشرق العربي، وبالتالي فالمنطقة مقبلة على تحولات جذرية، ذلك أن تداعيات سقوط نظام الأسد ستؤثر على مختلف الصراعات في الإقليم، بما فيها الصراع في اليمن، الذي يشبه الوضع فيه الوضع في سوريا، من حيث حكم الأقليات الطائفية الاستبدادية الموالية لإيران، وتداخل مصالح قوى إقليمية ودولية كبرى في كلا البلدين، فسوريا تحتل موقعا مهما في منطقة اشتباك متعدد الأطراف والأهداف، بينما يحتل اليمن موقعا إستراتيجيا مهما على الصعيد الدولي لإشرافه على مضيق باب المندب، وقربه من منطقة القرن الأفريقي التي تعد أيضا محور تنافس بين العديد من القوى الإقليمية والدولية.
لا شك أن سقوط نظام الأسد سيعطي زخما جديدا للأزمة اليمنية، لكن ذلك الزخم مرتبط بالكيفية التي ستعيد بها القوى الإقليمية والدولية ترتيب أولوياتها وإستراتيجياتها في المنطقة، وأيضا مدى قدرة الحكومة اليمنية الشرعية على استغلال الظروف الراهنة لمصلحتها، مع عدم إغفال الدور الشعبي الضاغط باتجاه القضاء على الانقلاب الحوثي وإنهاء نفوذ إيران في اليمن، ولذلك فالأزمة اليمنية تعد اختبارا حقيقيا لقدرة الدول الفاعلة في البلاد على استغلال التحولات الإقليمية إما لإجبار الحوثيين على السلام أو دعم الحكومة اليمنية الشرعية وحلفائها للقضاء على الانقلاب الحوثي.
- اليمن وتغير الظروف الجيوسياسية في الإقليم
قبل سقوط نظام بشار الأسد، كان الوضع في اليمن رهن المصالحة السعودية الإيرانية والتفاهمات بين السعودية والحوثيين التي تُوّجت بزيارات متبادلة، وطرق أبواب الوساطة العمانية كلما بدا أن هناك تحديات قد تعرقل تلك التفاهمات، وبالتالي كانت التهدئة في اليمن تمثل مطلبا ولو مؤقتا للسعودية وإيران والحوثيين، ولعل كل طرف من تلك الأطراف كان يراهن على متغيرات إقليمية قد تحقق له أهدافه بأقل الخسائر، وهذا يعني أن المصالحات والتفاهمات خضعت لوقائع وحقائق على الأرض قد تتغير بتغيرها، أي أنها لم تكن نهائية وراسخة لانعدام الثقة بين أطرافها، وكانت، بالنسبة لإيران وحلفائها، مجرد تقية سياسية مرحلية، ستنتهي بانتهاء الغرض منها.
وبعد سقوط نظام بشار الأسد، وقبله إضعاف حزب الله اللبناني، تكون الأحداث في المنطقة قد تجاوزت المصالحة السعودية الإيرانية بسبب فقدان جدواها، وتجاوزت أيضا تفاهمات السعودية مع الحوثيين، لأن ظروف تلك المصالحات والتفاهمات تختلف عن ظروف اليوم، فحينها كانت إيران ومليشياتها في موقع قوة والسعودية في موقع ضعف اختارته بنفسها، وبالتالي فإن الطرف القوي هو من سيملي على الطرف الضعيف الشروط للقبول بالمصالحة أو التهدئة، مع الاستمرار في نبرة التحدي والتهديد بالقصف أو استهداف المنشآت الحيوية (السعودية) كوسيلة للإذلال والضغط بهدف الحصول على المزيد من المكاسب أو التنازلات.
وأما اليوم فإن إيران وحلفاؤها في موقع ضعف، وهذا الضعف يُعد فرصة كبيرة للسعودية وللدول العربية السنية المتضررة من المشروع الإيراني لإعادة التموضع الجيوساسي، وإعادة صياغة تحالفات إقليمية جديدة تؤثر على موازين القوى بشكل دائم، وإعادة ترتيب الأولويات فيما يتعلق بالصراع مع المحور الإيراني، والعمل على استكمال تفكيكه، وخلق ظروف تمنعه من إعادة بناء قوته لضمان استقرار الإقليم، لأنه في حال استعاد المحور الإيراني عافيته، فإنه سيخوض حربا انتقامية عنيفة، ستؤثر على استقرار الإقليم لمدة زمنية طويلة.
وإذا كان ضعف المحور الإيراني سيعزز استمرار المصالحة السعودية الإيرانية بفضل انخفاض مسببات التوتر بينهما، لكن الأمر لن ينطبق على تفاهمات السعودية مع مليشيا الحوثيين، بسبب تهديدات الحوثيين المتواصلة باستهداف الأراضي السعودية كلما شعروا بضغط سياسي أو التلويح بعمل عسكري ضدهم، وبما أن القضاء على الانقلاب الحوثي يمثل مسألة حتمية بالنسبة للشعب اليمني، فإن ذلك، عندما تحين لحظته، سيدفع الحوثيين لشن هجمات على المنشآت النفطية السعودية وغيرها، واتهامها بأنها هي من تمول أي حرب ضدهم، بهدف ابتزازها لدفعها إلى الضغط على الأطراف المناوئة لهم للتوقف عن العمليات العسكرية أو أي إجراءات من شأنها تقويض نفوذ المليشيا الحوثية.
وهو ما حدث قبل أشهر عندما قرر البنك المركزي اليمني أن تنقل البنوك التي تقع مقراتها في صنعاء إلى العاصمة المؤقتة عدن، وهددها بأنه سيعزلها عن النظام المالي العالمي ما لم تنقل مقراتها إلى عدن، فهددت حينها مليشيا الحوثيين باستهداف المنشآت الحيوية في السعودية، واتهامها بأنها هي من تقف وراء إجراءات البنك المركزي اليمني في عدن، وعلى إثر تلك التهديدات أجبرت السعودية البنك المركزي اليمني في عدن على التراجع عن إجراءاته بشأن البنوك التي تقع مقراتها في صنعاء، حتى لا تتعرض منشآتها النفطية والحيوية لهجمات من جانب الحوثيين.
من الواضح أن السعودية تخشى تهديدات مليشيا الحوثيين وتأخذها على محمل الجد، لكن ليس ذلك وحده ما يرسم سياستها في اليمن، فهي تتعامل مع اليمن من منظور أوسع يتجاوز الخطر الذي تشكله مليشيا الحوثيين على أمن المملكة، فالحوثيون، من وجهة نظر الرياض، يمكن ترويضهم وردعهم في نفس الوقت، كما أن بقاءهم كأحد الأطراف الفاعلة في المشهد اليمني يخدم أهداف السعودية في اليمن على المدى الطويل، ويعيق بناء دولة يمنية حديثة قوية تنافس المملكة بفضل الموقع الإستراتيجي لليمن، فضلا عن الإعلاء من سيادة البلاد واستغلال ثرواتها الطبيعية وحمايتها من النهب، خصوصا مناجم الذهب في حضرموت ونفط المناطق الحدودية، وغير ذلك.
- مكاسب قد تتحول إلى خسائر
لا شك أن انهيار حزب الله اللبناني وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا يمثلان مكاسب مجانية للسعودية وللدول العربية المتضررة من المشروع الإيراني، لكن هذه المكاسب ستظل ناقصة ما لم يمتد تأثيرها إلى اليمن، بل قد تتحول إلى خسائر غير متوقعة إذا لم يتم استغلال المتغيرات الإقليمية للقضاء على الحوثيين، فمليشيا الحوثيين منهارة معنويا في اللحظة الراهنة، ولن تبادر إلى المغامرة بخوض مواجهة كبيرة، وإيران ليست مستعدة حاليا لدعم الحوثيين، لكنها، أي طهران، ستنظر في وقت لاحق لليمن والعراق كساحات نفوذ بديلة إذا لم يتم استغلال الظروف الراهنة لإنهاء الانقلاب الحوثي في اليمن، والنظر في الكيفية المناسبة لتحجيم نفوذ إيران في العراق.
سيكون النفوذ الإيراني في العراق واليمن موجها نحو السعودية بشكل رئيسي، فالبَلدان، أي اليمن والعراق، بعيدان عن الأراضي الفلسطينية، ويطوقان السعودية من الشمال والجنوب، ومن الصعب دعم المليشيات الطائفية فيهما بزعم مواجهة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، بمعنى أن دعم تلك المليشيات سيكون موجها ضد السعودية. ونتيجة للتحولات الراهنة، فإن إيران ومن بقي من حلفائها لن تغامر بخوض أي مواجهة ولو محدودة مع الاحتلال الإسرائيلي، بعدما ظهرت ضعيفة ومترددة سواء في الرد على الهجمات الإسرائيلية التي طالت أهدافا داخل أراضيها، أو عجزها، أي طهران، عن الدفاع عن حليفها حزب الله اللبناني الذي تعرض لضربات إسرائيلية قاصمة أجبرته على الاتفاق على وقف إطلاق النار وفق شروط إسرائيل، وأخيرا عجز طهران عن حماية نظام بشار الأسد من السقوط.
كما أنه لن يكون هناك أي مجال لإيران وحلفائها للحديث عن محور الممانعة أو المقاومة وعودة المتاجرة السياسية بالقضية الفلسطينية، بعدما انكشف ضعف المحور الإيراني منذ اندلاع عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، وبالتالي فالمحور الإيراني، إذا استعاد عافيته، ستتركز صراعاته على الجبهات الداخلية وضد الدول العربية السنية، وكانت المتاجرة بالقضية الفلسطينية مجرد قناع للتغطية على الأهداف الحقيقية لإيران ومليشياتها في المنطقة.
- اليمن وتحولات الموقف الإقليمي والدولي
ترتبط تحولات الموقف الإقليمي بعد سقوط بشار الأسد بتحولات الموقف الدولي، فتراجع أمريكا عن الاهتمام بصراعات المنطقة وعدم الجدية في حماية حلفائها، ترك فراغا إستراتيجيا استغلته إيران ومليشياتها، كما استغلته روسيا لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، لا سيما في سوريا، التي توجد فيها قواعد عسكرية روسية، كما اتجهت السعودية لتنويع علاقاتها مع قوى دولية أخرى رأت فيها مصادر بديلة لشراء الأسلحة والتعاون الاقتصادي، مثل روسيا والصين، كما اتجهت للمصالحة مع إيران والحوثيين، لكن بعد سقوط بشار الأسد قد تضطر جميع القوى الدولية لإعادة تقييم حساباتها وترتيب أولوياتها جراء الفراغ الجديد في الإقليم الذي أحدثه سقوط نظام الأسد في سوريا.
وفي حال استقرار سوريا الجديدة، وترتيب علاقاتها مع الأطراف الإقليمية والدولية التي تورطت في الصراع هناك أو كان لها نفوذ أو تحالف مع بعض الفصائل السورية، فإن عدم حسم المعركة في اليمن سيحوله لاحقا إلى ساحة بديلة لصراعات جديدة متشابكة، وقد تدخل على خط الصراع قوى جديدة فاعلة في بعض أزمات الإقليم، مثل روسيا وتركيا، في حال وجدت أطرافا محلية مستعدة للتحالف معها وتسيطر على جزء من الأرض، لا سيما أن اليمن قريب من منطقة القرن الأفريقي التي توجد فيها قواعد عسكرية متعددة الجنسيات، وتشهد نوعا من التوتر بين بعض دولها، وتزداد أهمية القرن الأفريقي جراء التنافس الدولي في قارة أفريقيا، الغنية بالثروات الطبيعية التي لم تستغل بعد.
لكن لا يبدو أن أطرافا يمنية مستعدة للتحالف مع قوى أجنبية بعد انقسام قياداتها بين الولاء للسعودية والإمارات، إلا في حال ظهر مكون جديد على الساحة اليمنية مناهض للحوثيين، وحاول التحالف مع تركيا للاستفادة من تجربتها في دعم المعارضة السورية المسلحة ونجاحها في الإطاحة بالأسد، بعد الخذلان الطويل من السعودية لليمنيين في حربهم ضد الحوثيين، لا سيما أن تركيا بدأت بمد نفوذها إلى القرن الأفريقي، وهو ما يجعل من اليمن مجالا حيويا بالنسبة لها.
على الجانب الآخر، قد يدفع سقوط الأسد الولايات المتحدة لإعادة النظر في سياستها بالمنطقة، وبالرغم من أن واشنطن تدعم الحلول السلمية في اليمن، لكن احتمالات التصعيد تظل هي الأبرز، ذلك أنه حتى لو خسر الحوثيون الدعم الإيراني، فهم سيقاتلون بما لديهم من أسلحة، كما أن ضعفهم العسكري لن يزيد من فرص التسوية السياسية، ولا يمكن أن يخضعوا للسلام إلا في حال شُنت ضدهم عملية عسكرية واسعة، وخسروا معظم المحافظات التي يسيطرون عليها، وشعروا أن هزيمتهم حتمية.
- مخاطر تأجيل المعركة ضد الحوثيين
يمثل انهيار حزب الله اللبناني وسقوط نظام بشار الأسد وضعف إيران فرصة كبيرة للسعودية والإمارات لتحقيق مكاسب إستراتيجية في اليمن، كما تمثل فرصة لليمنيين لاستعادة الدولة والقضاء على الانقلاب الحوثي المنبعث من رماد الإمامة التي طوى اليمنيون صفحتها بعد ثورة 26 سبتمبر 1962، غير أن تأجيل المعركة ضد الحوثيين سيجعل من الصعب تفادي التصعيد الإيراني في الساحة اليمنية كساحة نفوذ بديلة في وقت لاحق.
وإذا خسرت روسيا نفوذها في سوريا، وأُجبِرت على سحب قواعدها العسكرية من هناك، فإن تحالفها مع إيران وعداءها للغرب سيدفعها لتعويض خسائرها في سوريا من خلال تعزيز دورها في اليمن، لا سيما أن الحوثيين يطالبون روسيا من حين لآخر منذ بداية الحرب بالتدخل العسكري إلى جانبهم، وإذا حدث ذلك فإن المصالحة السعودية الإيرانية لن يكون لها أي قيمة فيما يتعلق بالشأن اليمني، وستظل إيران تتماهى مع كل المتغيرات، بينما ستكتفي السعودية بالتمترس والجمود حول قناعات قديمة وعدم القدرة على مواكبة التحديات والمتغيرات.
في المحصلة، قد توفر التحولات الإقليمية والدولية زخما جديدا لحل الأزمة اليمنية، لكنها بنفس الوقت توفر فرص التصعيد العسكري، فاليمن قد يكون الأكثر تأثرا بتداعيات سقوط بشار الأسد في سوريا، لكن ذلك يرتبط أيضا بطريقة إدارة السعودية للأزمة اليمنية، ومع أن العامل الخارجي ما زال هو المؤثر الأكبر في البلاد، لكن مستقبل الأزمة اليمنية سيظل مرهونا بإرادة اليمنيين أنفسهم، مثلما كان مستقبل الأزمة السورية مرهونا بإرادة السوريين، الذين تمكنوا من الإطاحة بنظام بشار الأسد، مع أن الوضع في سوريا كان أكثر تعقيدا من الوضع في اليمن، وتشير المعطيات الحالية إلى أن الملف اليمني سيظل مؤجلا في انتظار حدث كبير يخلط كل الأوراق ويدفع باتجاه الحسم العسكري.
أما الآن فهناك وضع جديد قيد التشكل، ولم تتضح أبعاده كاملة بعد، ولعل الجميع في انتظار الصيغة التي ستستقر عليها المعادلة الإقليمية الجديدة في مرحلة ما بعد الأسد، الذي يمثل سقوطه اختبارا أمنيا لدول الخليج، كونها المستهدف الأول من المحور الإيراني الشيعي، وهو اختبار تمثل الساحة اليمنية محوره الرئيسي، وستبقى المنطقة مفتوحة على سيناريوهات كثيرة، ولا يبدو أن التسوية ستكون من بينها، خصوصا الأزمة اليمنية، التي تحمل عوامل الانفجار في أي لحظة، وتنعدم فرص السلام تماما.