تقارير
توحش الحوثيين.. وعواقب الضغط العنيف على المجتمع
مع حلول شهر رمضان المبارك في كل عام بعد انقلاب مليشيا الحوثيين على السلطة الشرعية، يكون المواطنون في مناطق سيطرة المليشيا على موعد مع موسم للقمع والانتهاكات، حيث تُصعّد المليشيا من حملاتها ضد المواطنين، وتقيد الحريات الدينية، وتعبث بالمساجد، وتفرض مزيدا من الجبايات باسم زكاة الفطر وزكاة الأنفس، وتمنع العمل الخيري، وتواجه المعترضين بالقمع والتهديد.
ما يحدث في رمضان ليس سوى نموذج مصغر لما يعانيه المواطنون في مناطق سيطرة مليشيا الحوثيين منذ انقلابها على السلطة الشرعية قبل أكثر من عشر سنوات، ومنذ ذلك الحين تتوالى التقارير الحقوقية التي توثق انتهاكات المليشيا وجرائمها بحق المواطنين سواء من هم في مناطق سيطرتها أو الذين يقطنون بالقرب من خطوط التماس، وتكشف التقارير أن انتهاكات مليشيا الحوثيين تشمل الجميع من ذكور وإناث وأطفال وشيوخ وشباب في جميع المناطق التي تسيطر عليها.
وفي المقابل، لم تقدم المليشيا الحوثية، كسلطة أمر واقع، أي خدمات اجتماعية أو مشاريع تعود بالنفع على المواطنين وتخفف عنهم أعباء الوضع القائم، بل فهي لا تكتفي فقط بقبضتها الأمنية الحديدية والحكم الجائر والتخلي عن المسؤولية، وإنما تُحمّل المواطنين فاتورة الحرب وفاتورة ثراء قياداتها، من خلال فرض الإتاوات والضرائب والجمارك الباهظة على التجار، والذين بدورهم يضيفونها فوق أسعار المواد الغذائية، وبالتالي يكون المواطن البسيط هو من يتحمل ظلم المليشيا وجشع التجار.
- استبداد ممنهج
ليست مبالغة القول إن مليشيا الحوثيين هي الوحيدة في العالم وعبر التاريخ التي يتسم حكمها بالاستبداد والظلم الممنهج والتخلي التام عن المسؤولية، وحولت مناطق سيطرتها إلى سجن مفتوح تمارس فيه كل أنواع الانتهاكات، دون أن تقدم للمواطنين أي خدمة اجتماعية أو تقوم بأي حسنة أو إنجاز إيجابي ولو من قبيل محاولة جزئية لتلميع صورتها الظلامية، وهذه الطريقة في الحكم تعد نادرة ولم يسبق أن مارستها حتى أبشع الأنظمة الديكتاتورية والقمعية عبر التاريخ.
ويصل الأمر إلى أن مليشيا الحوثيين لا تترك للمواطنين في مناطق سيطرتها أي فرصة للفرح أو ممارسة العبادات أو التكافل الاجتماعي، فقد حولت شهر رمضان والمناسبات والأعياد السنوية إلى كابوس مرعب للمواطنين، فمثلا في شهر رمضان يصل القمع والاضطهاد الديني إلى ذروته من خلال منع صلاة التراويح وتحويل المساجد إلى ملتقيات طائفية بذريعة الاستماع لمحاضرات زعيمها عبد الملك الحوثي، ويتم خلال ذلك مضغ القات وأحيانا الرقص والاستماع لـ"زوامل" الحرب، بينما الهدف الحقيقي هو العبث بالمساجد وقطع الطريق على المواطنين حتى لا تقام فيها صلاة التراويح، وطمس الصورة الذهنية المقدسة للمساجد والعبادات في أوساط المواطنين، وبالتالي التأثير على الأجيال الجديدة من خلال تجريدها من هويتها الدينية أو العقائدية، كأحد أساليب الحرب الطائفية.
كما أن المليشيا الحوثية منعت العمل الخيري في رمضان، وفرضت على كل من يريد فعل الخير أن يدفع تكاليفه لها بذريعة أنها من ستقوم بعمل الخير نيابة عنه، لكن الهدف هو نهب تلك الأموال وهدم أواصر التكافل الاجتماعي والإمعان في تجويع المواطنين لمقايضتهم في آخر المطاف بالطعام مقابل القتال في صفوفها.
وفي رمضان أيضا تفرض المليشيا على التجار والمواطنين دفع إتاوات تحت مسمى زكاة الفطر وزكاة الأنفس ورسوم أخرى، وتهدد بالانتقام من الممتنعين، ووظفت جميع المناسبات الدينية لتعزيز سلطتها وجمع الأموال بشكل قسري من التجار والمزارعين وصغار المستثمرين وأسر المغتربين وغيرهم، كما استحدثت العديد من المناسبات السنوية لذات الغرض، وحولتها إلى أداة سياسية للتمويل والتحشيد، وفي الوقت نفسه تعمق من معاناة المواطنين.
ومن أبرز المناسبات التي تتخذ منها المليشيا ذريعة للنهب والإتاوات، ما يسمى المولد النبوي، الذي يتم الاحتفال به بشكل مبالغ فيه، وتفرض رسوما على المواطنين والتجار لتمويل الاحتفال وإجبارهم على المشاركة في الفعاليات، مع التهديد بالإغلاق والمصادرة أو السجن والعقاب، كما توظف تلك المناسبات لتعزيز الخطاب الطائفي التحريضي.
وبالمثل تفعل المليشيا الحوثية في ما يسمى "يوم الصرخة"، وذكرى انقلاب 21 سبتمبر 2015 الذي تصفه بالثورة، وما يسمى "يوم الشهيد"، و"عيد الغدير"، ويوم عاشوراء، ورأس السنة الهجرية، و"الشعبانية"، وغيرها من المناسبات التي تستغلها المليشيا لتعزيز نفوذها وجمع الأموال والسطوة على المجتمع، متجاهلة الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يواجهها المواطنون.
وتكثف المليشيا أنشطتها في المساجد والمدارس، وتلزم الجهات التعليمية بتزيين المدارس، وفرض محاضرات تمجد قيادات المليشيا السلالية، كما تفرض على المحال التجارية شراء زينة خضراء، وتلزم جميع المدارس والمؤسسات الحكومية بالاحتفال، والترويج لعبد الملك الحوثي بأنه وارث للنبي، وغير ذلك من الممارسات التي تكرس الصراع المذهبي وتفخخ المجتمع بحروب وأحقاد وتشوه رسالة الإسلام القائمة على المساواة.
- أبرز انتهاكات الحوثيين
منذ انقلابها على السلطة الشرعية، في سبتمبر 2014، ارتكبت مليشيا الحوثيين سلسلة من الانتهاكات والجرائم التي طالت جميع فئات المجتمع، يأتي في مقدمتها القتل والاستهداف المباشر للمدنيين، حيث شنت المليشيا هجمات عشوائية ومتعمدة ضد المدنيين، بما في ذلك القصف العشوائي على الأحياء السكنية والأسواق والمستشفيات والمدارس، كما نفذت عمليات اغتيال بحق شخصيات سياسية وحقوقية وقيادات اجتماعية معارضة لها.
أيضا، اعتقلت المليشيا الحوثية آلاف المواطنين، بينهم صحفيون وأكاديميون ونشطاء سياسيون وقادة رأي، وزجت بهم في سجون سرية وظروف قاسية، ويتعرضون لصنوف التعذيب النفسي والجسدي، بما في ذلك الصعق الكهربائي، والإيهام بالغرق، والضرب المبرح، والعزل الانفرادي، وقلع الأظافر، وصولا إلى التصفية الجسدية في بعض الحالات.
وتوظف المليشيا الحوثية القضاء الخاضع لسيطرتها لإصدار أحكام إعدام بحق معارضيها، بما في ذلك شخصيات سياسية وعسكرية وأكاديمية وصحفيون، في محاكمات صورية تفتقر إلى أدنى معايير العدالة.
علاوة على ذلك، تتعرض النساء في مناطق سيطرة الحوثيين لحملات قمع ممنهجة، تشمل الاختطاف والتعذيب والعنف الجنسي والتشهير العلني وتقييد حرية الحركة، مع فرض قيود مشددة على عمل المرأة وتعليمها، وحرمانها من حقوقها الأساسية.
كذلك لم يسلم الأطفال من توحش مليشيا الحوثيين، حيث جندت المليشيا آلاف الأطفال، مستغلة الفقر والتضليل الأيديولوجي، وترسلهم إلى الجبهات دون تدريب كاف، وتحويلهم إلى وقود للحرب، في انتهاك صارخ للقوانين الدولية.
وإمعانا منها في القتل وإقلاق المواطنين، زرعت المليشيا الحوثية أعدادا هائلة من الألغام الأرضية في المدن والطرقات والمناطق الزراعية، مما أدى إلى سقوط آلاف الضحايا من المدنيين، بينهم نساء وأطفال، وتصف تقارير حقوقية اليمن بأنه أكبر حقل للألغام في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، بسبب إسراف الحوثيين في زراعة الألغام بكثافة وبشكل عشوائي ومن دون خرائط، ما يعني أن هناك جرائم قتل حوثية مؤجلة ستظل تلاحق اليمنيين لعقود مقبلة بعد انتهاء الحرب.
كما لم يسلم المهاجرون الأفارقة من انتهاكات مليشيا الحوثيين، حيث استهدفتهم المليشيا بالقتل والاعتقال والاحتجاز القسري والإجبار على القتال في صفوفها، فضلا عن تنفيذ عمليات تهجير قسري ضدهم.
ومن الجرائم والانتهاكات التي تمارسها مليشيا الحوثيين، نهب المساعدات الإنسانية، واحتكار الغذاء والوقود، وقمع الصحافة وحرية التعبير، وفرض العقيدة الطائفية والتعبئة القتالية في وسائل الإعلام والمدارس والجامعات والمساجد، وإقامة مراكز دينية لنشر أفكارها المتطرفة، ونشر خطاب الكراهية والتحريض الطائفي.
يضاف إلى ذلك تهجير آلاف الأسر قسريا، والاستيلاء على منازل وعقارات تابعة لمعارضيها وأخرى تابعة لمواطنين بسطاء أو نازحين خارج البلاد أو مغتربين، ونهبت أموالهم وممتلكاتهم، وفرض جبايات وإتاوات غير قانونية وإفقار المجتمع، وإغلاق مئات المدارس وتحويل بعضها إلى ثكنات عسكرية.
كما استخدمت المليشيا المدنيين دروعا بشرية عبر إقامة معسكرات في الأحياء السكنية، وتخزين الأسلحة في المدارس والمستشفيات، واستهداف القطاع الصحي ونهب الأدوية والمعدات الطبية، وإجراء تغييرات على المناهج التعليمية لتتوافق مع مشروعها الطائفي السلالي، والتحالف مع الجماعات الإرهابية، وتبادل أسلحة ومعلومات معها، وفق تقارير دولية.
وتمثل مختلف انتهاكات الحوثيين وجرائمهم انتهاكا صارخا للقوانين الدولية وحقوق الإنسان، حيث شملت جميع أشكال القمع والتنكيل بحق المدنيين، ولا تزال هذه الجرائم مستمرة حتى اليوم، في ظل غياب أي مساءلة دولية جادة.
- ما دوافع العنف؟
تتعدد العوامل التي تشجع الحوثيين على الاستمرار في ارتكاب مختلف الانتهاكات والجرائم بحق المواطنين في مناطق سيطرتهم، وفي مقدمتها الاعتقاد بأن العنف الوسيلة الوحيدة لإخضاع المواطنين وحماية سلطة المليشيا وردع أي محاولات للتمرد أو المعارضة، مما يؤدي إلى مزيد من الانتهاكات ضد المدنيين.
يضاف إلى ذلك المحفز الطائفي الذي يغذي عنف الحوثيين، والمتمثل في فتاوى لأجدادهم الأئمة الزيديين التي تبيح قتل الشوافع ونهب أموالهم وممتلكاتهم واعتبارهم كفار تأويل، كما صدرت عن بعض رجال الدين الحوثيين فتاوى تحرض على العنف ضد فئات معينة في المجتمع، مما يساهم في تأجيج الكراهية وتبرير الانتهاكات ضد تلك الفئات.
ويشكل الإفلات من العقاب نتيجة لغياب نظام قضائي مستقل وفعال أحد العوامل التي تشجع الحوثيين على الاستمرار في العنف وارتكاب الجرائم ضد المواطنين، دون خشية من المحاسبة والمساءلة القانونية، بل فقد حولوا القضاء إلى وسيلة من وسائل الانتهاكات والعنف من خلال أحكام الإعدام ومصادرة الممتلكات وغير ذلك، مما يعزز مناخ الرهبة والخوف بين السكان.
ومع غياب المرجعية الأخلاقية للمليشيا الحوثية، وغياب القيم والمبادئ الإنسانية في صفوفها، فإنها أصبحت مظلة للمجرمين والقتلة واللصوص والساعين وراء "الفيد"، كما أن أصحاب الثارات والأحقاد ضد أفراد معينين اتخذوا من الانضمام للمليشيا مظلة للانتقام من خصومهم، مستغلين غياب الضوابط الأخلاقية لدى المليشيا، مما أدى إلى تفشي أعمال العنف والانتقام ضد المدنيين.
كما أن الحوثيين ينشرون ثقافة العنف والقتل والكراهية بين الأطفال والشباب بشكل ممنهج، مما يؤدي إلى تنشئة جيل متشبع بأفكار طائفية متطرفة ومستعد لارتكاب أعمال عنف ضد من يعتبرونهم أعداء، في حين تفيد بعض التقارير بأن بعض المقاتلين الحوثيين يتعاطون المخدرات، مما يؤثر على سلوكهم، ويزيد من احتمالية ارتكابهم لأعمال عنف ضد المدنيين وحتى ذويهم.
- ما عواقب العنف ضد المجتمع؟
تسببت السياسات القمعية والاستبدادية للحوثيين في مناطق سيطرتهم بتعميق الفجوة بينهم وبين المواطنين، وتتزايد مشاعر الكراهية والسخط والنفور منهم يوما بعد يوم، وهذا ما يتجلى في النقاشات العامة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وبدأ المواطنون يعبرون عن غضبهم من الحوثيين ببعض الوسائل، مثل الاحتفال بذكرى ثورة 26 سبتمبر الذي أرعب الحوثيين وجعلهم في حالة استنفار قصوى في الذكرى الأخيرة للثورة لمنع الاحتفال.
وقبل ذلك ظهرت انتفاضات شعبية مسلحة في مناطق سيطرة الحوثيين وُئدت بقوة السلاح بشكل وحشي ودموي، مثلما حصل في منطقة حجور بمحافظة حجة وبعض مناطق محافظة البيضاء ومناطق في محافظات أخرى، وهذه الانتفاضات الموءودة كانت تعبيرا عن غضب شعبي متراكم، والقضاء عليها لا يعني القضاء على مشاعر الغضب والسخط الشعبي، بل سيتسبب بتراكم المزيد من الغضب المكبوت، وإذا لم تتحرك السلطة الشرعية والأطراف الأخرى للقضاء على الانقلاب الحوثي، فإن انفجار الغضب الشعبي في وجه المليشيا الحوثية أمر حتمي، والمسألة فقط مسألة وقت.
فبعد أكثر من عقد من المعاناة تحت حكم المليشيا الحوثية، يتزايد شعور المواطنين بالظلم وفقدان الأمل في إيجاد حلول سلمية لإنهاء حكم المليشيا واستعادة الدولة، وفي حين يشعر الحوثيون أن خنق المجتمع واستعباده كفيل بتحصين سلطتهم، فإن الحقيقة التي لا يدركونها هي أنه في نهاية المطاف ستندلع ضدهم ثورة شعبية عارمة، وأن مصيرهم السقوط تحت وطأة السخط الشعبي الذي يزداد اشتعالا يوما بعد يوم.