تقارير

ضحايا الصمت القاتل: اختناقات متصاعدة وسط غياب معايير السلامة

21/07/2025, 16:29:04
المصدر : قناة بلقيس - خاص

في أحد أيام أبريل الماضي بقرية "المعزبة" التابعة لمديرية السبرة في محافظة إب اليمنية، تحولت مهمة روتينية داخل بئر إلى فاجعة إنسانية: سبعة أفراد من عائلة واحدة نزلوا للعمل في عمق البئر، ولم يصعد منهم سوى واحد، أما الستة الآخرون، فقد لفظوا أنفاسهم الأخيرة اختناقًا بعد أن ملأ غاز سام ناتج عن مولد كهربائي الفضاء الضيق، دون أن يمنحهم فرصة للهروب أو حتى طلب النجدة.

قصة "المعزبة" ليست حالة معزولة، في عدن توفي عاملان اختناقًا داخل متجر بسبب تشغيل مولد كهربائي في بيئة مغلقة في مارس الماضي، وفي منطقة الممدارة قضى زوجان ليلتهما الأخيرة داخل سيارة مغلقة بعد تشغيل المكيّف، لينقلب السكون إلى مأساة.

وغير بعيد من ذلك، في قرية "شقي" التابعة لمديرية السبرة، تكررت المأساة ذاتها: أربعة أفراد من أسرة واحدة لقوا حتفهم داخل بئر، بالسيناريو ذاته وبالقاتل الخفي نفسه؛ غاز أول أكسيد الكربون.

كما فُجع أهالي حي مذبح في أمانة العاصمة بوفاة الشاب الثلاثيني بندر طاهر سعيد الشرعبي، صاحب مخبز اللواء الأخضر في صنعاء، وزوجته وأولاده، الذين تحوّلوا إلى جثث هامدة داخل منزلهم أثناء نومهم بعد استنشاق الدخان المنبعث من المدفأة خلال فصل الشتاء الماضي.

الخطير في هذه الحوادث المتنوّعة أن القاتل لا يُرى ولا يُشمّ، غازٌ عديم اللون والرائحة، يتسلل بصمت، ويخنق ضحاياه دون صراخ، ثم ينسحب من المكان دون أثر، ليترك خلفه موتى، وحزنًا، وأسئلة بلا إجابة.

- صمت تشريعي وإهمال وقائي

الخبير في الصحة والسلامة المهنية شهاب الصهباني يرى أن هذه الحوادث ليست سوى جزء من ظاهرة أوسع وأكثر خطورة، مشيرًا إلى أن اليمن تعاني من غياب شبه تام لثقافة الصحة والسلامة المهنية، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات، وسط تجاهل واضح من الجهات الرسمية المعنية.

وأكد الصهباني، في حديث خاص لقناة "بلقيس"، أن "الاختناق في الأماكن المغلقة، سواء في آبار، أو خزانات، أو مناهل المجاري، يتكرر سنويًا، حيث نرى عمالًا يدخلون أماكن موبوءة بالغازات السامة دون أدوات وقاية أو أجهزة استشعار، وفي كثير من الحالات، يُقتل المنقذون قبل أن يعرفوا حتى ما يواجهونه".

وأوضح أن غاز أول أكسيد الكربون هو الأخطر؛ لأنه يخدع الجسد، "بينما يستثير ثاني أكسيد الكربون التنفس ويوقظ النائم عند ارتفاعه، فإن أول أكسيد الكربون يهاجم بصمت، ويتحد مع كريات الدم الحمراء، ويمنعها من نقل الأوكسجين، ليؤدي إلى تسمم دموي قاتل لا تنفع معه الإسعافات الأولية"، يقول الصهباني.

- مخاطر متعددة وإجراءات غائبة

الأخطر، بحسب الصهباني، أنه حتى المؤسسات التي من المفترض أن تُراقب وتفرض تطبيق معايير السلامة، لا تمتلك أدوات القياس أو أجهزة كشف الغازات، لافتًا إلى أن "أجهزة استشعار الأوكسجين أو الغازات الخانقة لا تُستخدم رغم رخص ثمنها، والمكاتب الحكومية المعنية بالصحة والسلامة المهنية لا تمتلكها أصلًا"، حسب قوله.

ولفت إلى أن بعض الكوارث تقع داخل المنازل، خاصة عند استخدام الفحم أو الشيشة في غرف مغلقة، أو خلط مواد تنظيف بطرق خاطئة تؤدي إلى تفاعلات كيميائية تطلق غازات قاتلة، "وهذا يهدد حياة النساء بشكل خاص، ممن يقمن بتنظيف الحمامات والمطابخ دون دراية بخطورة ما يستخدمنه".

وتابع الصهباني حديثه بالقول: من المفارقات المؤلمة، أن أكبر الجامعات اليمنية، مثل جامعة صنعاء، لا تدرّس سوى نصف مقرر يتيم في مجال الصحة والسلامة المهنية، بينما يُفترض أن تضم ما لا يقل عن 67 مقررًا. 

وقال: "نحن في القرن الحادي والعشرين، ولا تزال مفاهيم السلامة غائبة عن مناهجنا، ونتعامل مع الكوارث كأنها أقدار لا يمكن تفاديها".

ويضيف: "الكوارث هذه لا تقتصر على الوفيات، بل تمتد لتشمل حالات عجز دائم، وتلف في الأعضاء، وحتى إعاقات عقلية، وكلها يمكن الوقاية منها بتكلفة أقل بكثير من تكلفة الاستجابة لها بعد وقوعها".

- إهمال إرشادات السلامة من قبل المواطنين

وسبق أن حذّر الدفاع المدني في صنعاء المواطنين من استخدام المولدات في الأماكن الضيقة، وكذلك الدفايات على اختلافها حفاظًا على صحتهم، خاصة بعد تكرار حوادث الاختناق؛ بسبب إهمال اشتراطات الوقاية، حيث سُجّلت سنواتٌ سابقة حالات اختناق ناجمة عن عوادم المولدات، وإشعال الفحم والحطب داخل المنازل دون مراعاة تدابير السلامة.

ودعا الدفاع المدني المواطنين إلى الالتزام بأربعة تدابير رئيسية لتجنب حوادث الاختناق وحرائق المنازل، ومنها: إشعال التدفئة خارج الغرف، أو توفير شفاطات لتصريف الدخان، وضمان وجود تهوية مناسبة داخل المنزل، وعدم النوم بجانب الدفايات، وعدم تركها مشتعلة بعد الانتهاء منها.

وبالرغم من عدم وجود توثيق رسمي لمثل هذه الحوادث في اليمن، إلا أن الحالات المتواترة تشير إلى نمط مقلق ومستمر من الوفيات المرتبطة بعوادم مولدات الكهرباء وأيضًا باستخدام الدفايات، وتشغيلها في أماكن مغلقة، التي تُعد -بحسب تقارير عالمية- من أهم أسباب تسمم أول أكسيد الكربون.

وشدد الخبير في مجال الصحة والسلامة المهنية، شهاب الصهباني، على ضرورة التحرك الحكومي العاجل، لسنّ تشريع قوانين إلزامية للسلامة المهنية، وتوفير أجهزة الإنذار المبكر، وتدريب العاملين، وتكثيف برامج التوعية المجتمعية، سواء في الريف أو المدينة.

لكن حتى ذلك الحين، سيبقى الموت يتسلل في صمت، حاملًا معه أرواحًا جديدة، في بلد أنهكته الحرب، وفَقَد فيه حتى حقه في الأوكسجين الآمن.

تقارير

"استعادة الموارد السيادية".. ما إمكانية تحويل واردات ميناء الحديدة إلى ميناء عدن؟

تصاعدت الدعوات الأمريكية والحكومية لنقل الواردات إلى مينائي عدن والمكلا، بعد أن منح اتفاق "ستوكهولم" الميليشيا فرض قبضتها على موانئ الحديدة واستغلالها اقتصاديًا، إلى جانب تهريب السلاح والنفط الإيراني.

تقارير

تهريب السلاح للوكلاء.. هل تعيد إيران تدوير الصراع الإقليمي؟

استأنفت إيران تهريب السلاح لمليشيا الحوثيين في اليمن ولحزب الله اللبناني، في وقت اعتقد فيه كثيرون أنها ستتوقف عن تزويد وكلائها في المنطقة بالسلاح بعد الضربات التي تعرضت لها، وأنها ستركز على تعويض خسائرها وبناء قدراتها العسكرية من جديد، بالإضافة إلى تغيير عقيدتها الدفاعية بعد أن أثبتت التطورات الأخيرة عدم جدوى تلك المليشيات التي كان موقفها باردا أثناء الضربات التي طالت منشآتها النووية ومصانع الأسلحة، وقضت على عدد كبير من علمائها النوويين وقيادات عسكرية بارزة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.