تقارير
"طلال".. قصة أربعيني يكافح ظروف العيش من ورشة اللِحام
تبدلت حياة الموظف الأربعيني "طلال" حين أجبرته ظروف الحياة المُعقّدة على العمل في ـإحدى "ورش اللِحام" في صنعاء.
مُسبقاً، رافق الرجل شيء من الهدوء على العكس حالياً، إذ اعتادت أُذناه سماع أصوات الضجيج الصارخ الذي تصدره مكائن ومعدات ورشة اللِحام باستمرار، خلافاً لعينيه اللتين انزعجتا من شدة لمعة ضوء "اللِحام" المؤذية، ليحميها بارتداء نظارات واقية.
لم يتواجد طلال في الورشة للتسلية، بل اضطراراً للعمل فيها بعد انقطاع مرتّبه وفقده مصدر دخله الأساسي والوحيد منذ أزيد من 5 سنوات.
وشملت عملية انقطاع صرف المرتبات كافة موظفي القطاع العام في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي الانقلابية تحديداً. يقول طلال لموقع "بلقيس": "عشت في جحيم أنا وعائلتي بعد ما انقطع راتبي، لكن -الحمد لله- تلافيت نفسي، ودورت لي عمل بهذه الورشة، وتجاوزت الأزمة النفسية والمعيشية التي قد كنت أمر بها قبل سنوات".
ونتيجة للأحداث المؤسفة والأليمة، التي عصفت بالبلد، خسر الرجل وظيفته التي أفنى سنيناً طويلة من عمره في الحصول عليها، سواءً في المراحل التعليمية المختلفة أو متابعاته الحثيثة حتى التحق بها للعمل.
وكان يعمل في إحدى الدوائر الحكومية في العاصمة صنعاء، الخاضعة لسيطرة مليشيا الحوثي الانقلابية، مُضيفاً لموقع "بلقيس": "درست وتعبت سنوات طويلة، وبعد جهد توظّفت مع الدّولة، وقد كنت مستقراً مالياً وعائلياً، جاءت الحرب، وأخذت كل جهودي، وسنوات تعبي في الدراسة والوظيفة".
ــ حياة في الحرب
التزم طلال بساعات دوامه اليومي، والعمل في الورشة، كما هو محدد من مالكها، الذي يبتدأ عند تمام الثامنة صباحاً وينتهي عند الخامسة مساء كل يوم، عدا يوم الجمعة باعتباره إجازة أسبوعية.
يقول طلال لبلقيس: "الدوام بالورشة غير الدوام في الوظيفة، هنا انضباط بالحضور المبكر، والانصراف المتأخّر، لكن قد هي معيشة الواحد ضروري أحافظ عليها".
ورغم الجهد الذي يبذله طلال في الورشة إلا أنه اكتسب خبرة جيّدة كـ"فني لِحام"، تعود عليه بالنفع والفائدة المالية الكبيرة، مقارنةً بما كان يحصل عليه من عائد مادي خلال عمله في الوظيفة، مؤكداً لموقع "بلقيس": "في هذه البلاد المفروض الواحد ما يكون يتوظّف، يدور له أي مهنة ويشتغل، ويكسب أموالا أحسن من الوظيفة، وأمور الحياة تترتّب للواحد مهما كانت صعبة ومتعبة، ربك كريم".
تحضر هنا المنافسة الزمنية بين ماضي طلال في الوظيفة وحاضره في الورشة بما سيحققه من مكتسبات شخصية، على طريقة مقارنة الإنجازات بينه وبعض معاريفه الذين احترفوا مهنة "اللِحام" منذ وقت مبكّر.
"ناصر"، صاحب ورشة اللحام، يؤكد لموقع "بلقيس": "أترك لأي عامل عندي بالورشة فرصة يكتسب الخبرة والمهنة لما يكون معلم لحام، والذي هو حريص ورجَّال ينطلق ويكوّن نفسه، يفتح له ورشة، ويشتغل تمام".
إذ تبدو للحياة مذاقها الجيّد، من بين أسياخ اللِحام الصدئة، ولمعتها المؤذية للعينين، إضافة إلى ضجيج أصوات المكائن، وطقطقة صفائح وأعمدة الحديد شديدة الإزعاج.
يقول طلال لموقع "بلقيس": "من حين صرت معلم لِحام، حصلت على دخل كويس، وتحسنت ظروفي المادية كثير". ويتقاضى شهرياً 200 ألف ريال يمني، أي ما يعادل 335 دولار سعر الصرف في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي الانقلابية.
ــ العمل الحُر بديلاً
مع استمرار انقطاع عملية صرف مرتبات موظفي الدولة على مدى سنوات، حاول غالبيتهم البحث عن مصادر للدخل المعيشي لهم ولأسرهم، كما في حالة طلال الذي لجأ إلى العمل في ورشة لِحام تختص في صناعة الأبواب والنوافذ الحديدية للمنازل، وكل المتعلّقات بعملية اللحام. وشكّلت هذه المهنة البديلة للموظف السابق، وفني اللحام حالياً، طوق نجاة من الجوع له ولأسرته المكوّنة من 3 أطفال وزوجة.
يقول طلال لموقع "بلقيس": "لو لم أبحث لي عن مصدر بديل لدخل معيشي مع أسرتي، وجلست منتظرا عودة المرتب كنت سأتعرض للتشرد والجوع، لكن أنقذت نفسي بعمل من بدري". يخشى الرجل أن يكون أطفاله عُرضة لحياة معجونة بالفقر والجوع والشتات، لذا فهو يبذل جهداً مضاعفاً في سبيل الحفاظ على حياة أطفاله من عوامل تقويضها، والعمل على تعويضهم برغم مواجهته مجموعة من أخطار مهنة اللحام، خصوصاً تأثيراتها الضارة على العينيين، إلا أن طلال يرى أفق مستقبله في الحياة من هذا المصدر البديل بعد خسارته وظيفته، إضافة إلى جزء من حياته التي يسعى إلى تعويض ما فاته.
كما أن هذا المصدر أنقذه من جشع مؤجري البيوت، وأساليب اضطهادهم لكثير ممن عجزوا عن دفع مبالغ الإيجار، وكانوا عُرضة للطرد.
يقول طلال لموقع "بلقيس": "أسكن مع أسرتي بمنزل إيجاره مرتفع، لكن -لله الحمد- أنّي لم أتعرّض لما يتعرّض له كثير من المستأجرين بصنعاء، لأني استطعت تسديد الإيجارات من العمل في الورشة".