تقارير

عاملون أمميون خلف القضبان ومنظمات إنسانية محاصرة بتهم الجاسوسية (تحليل)

11/11/2025, 16:21:38
المصدر : قناة بلقيس - خاص - أحمد الزرقة

من الصعب أن تُروى قصة الحرب في اليمن دون التوقف أمام جانبها الأكثر قسوة،كيف تحوّل العمل الإنساني، الذي وُجد لإنقاذ الأرواح، إلى ساحة صراع ومصدر نفوذ في يد جماعة مسلحة. منذ دخول مليشيا الحوثي إلى صنعاء في سبتمبر 2014، تغيّرت طبيعة الدولة، وتحولت المؤسسات إلى أدوات سيطرة، والمنظمات الدولية إلى طرفٍ لا يمكنه العمل إلا بشروط الجماعة.

منذ ذلك الحين، أخذت المليشيا تنظر إلى العمل الإغاثي بوصفه مجالًا للهيمنة لا للتعاون، وبدأت تستخدمه لبناء شبكتها الاقتصادية والأمنية. 
في الوقت نفسه، كان العالم يصف اليمن بأنه “أسوأ أزمة إنسانية على وجه الأرض”، فيما كانت المساعدات تخضع لمراقبة دقيقة، وتُوزّع وفق حسابات الولاء والانتماء السياسي.

في سبتمبر 2015، قُتل موظفان من اللجنة الدولية للصليب الأحمر أثناء مهمة بين صعدة وصنعاء. وثّقت “هيومن رايتس ووتش” و“العفو الدولية” مقتل ثلاثة آخرين من الصليب الأحمر واثنين من الهلال الأحمر اليمني، إضافة إلى احتجاز عمال في المجال الصحي ومنع إمدادات طبية من الوصول إلى المستشفيات.

في فبراير من العام نفسه، اختُطفت موظفة تابعة للأمم المتحدة ومترجم محلي في صنعاء واحتُجزا لعدة أشهر. هذه الحوادث، رغم تباعدها زمنيًا، رسمت ملامح سياسة جديدة: كل نشاط إنساني يجب أن يمر عبر رقابة الجماعة وأجهزتها.
وفي عام 2017، بدأت المرحلة الثانية من السيطرة، حين تحولت إجراءات المصادرة والاعتقال إلى نهجٍ منظم.

اعتقل الحوثيون ستة موظفين يعملون مع المجلس النرويجي للاجئين في محافظة الحديدة، بعد أن لاحظوا وجود صناديق إغاثة تحمل شعار السعودية. بعد أسابيع، اختُطف خمسة موظفين آخرين من منظمة الإغاثة الطبية الدولية في إب. ووجهت إليهم تهم التجسس، قبل الإفراج عنهم لاحقًا. لكن الرسالة كانت واضحة: لا يُسمح لأي منظمة بالعمل خارج إشراف الجماعة، ولا يُقبل تمويل لا يمر عبر قنواتها.

لم يقتصر الأمر على المنظمات الدولية، بل طال المتطوعين المحليين والعاملين في توزيع المساعدات. ففي أبريل 2015 اختُطف الناشط الإغاثي عبد سعيد العديني عند نقطة تفتيش، ولم يُعرف مصيره. وفي مايو من العام نفسه، اعتُقل شكيب علم أثناء نقل مساعدات إنسانية. وفي 2017 اختُطف المدرّس ياسر الجعيد، الذي تطوع مع منظمات إنسانية، وتوفي لاحقًا في أحد السجون الحوثية عام 2022.

تُظهر هذه الحالات أن العمل الإنساني في مناطق الحوثيين أصبح محفوفًا بالخطر، وأن الجماعة تستخدم الاعتقال والاختفاء كوسيلة لإرهاب العاملين وإخضاعهم.

في منتصف عام 2017، أُنشئت الهيئة الوطنية لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والإغاثة (NAMCHA)، لتكون الجهة التي تُشرف على المنظمات في مناطق سيطرة الحوثيين. لم تكن الهيئة مؤسسة خدمية كما قُدِّمَت، بل أداة رقابية وأمنية، تُصدر التصاريح وتفرض الرسوم وتتحكم في مسار التمويل. وفي نوفمبر 2019، أنشأت الجماعة المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي (SCMCHA)، ومنحته سلطات أوسع شملت فرض ضريبة بنسبة 2% على ميزانيات المشاريع الإنسانية، والموافقة على قوائم المستفيدين وتصاريح السفر للموظفين.


ترافقت هذه السيطرة المؤسسية مع اتهامات متكررة بسرقة وبيع المساعدات في السوق السوداء. ففي يناير 2019، أعلن برنامج الأغذية العالمي أن نحو 1,200 طن من الأغذية اختفت من مخازنه في صنعاء. وأشارت تقارير متعددة إلى أن الجماعة كانت توزّع المعونات على الموالين لها، أو تبيعها لتوفير تمويل إضافي لحربها. وأكّدت شهادات مدنيين أن الأسر المرتبطة بعناصر الجماعة كانت تتلقى نصيب الأسد من المساعدات، بينما يُحرم المستحقون الحقيقيون.

في هذه المرحلة، بدأت التجربة الحوثية تقترب من نماذج مشابهة في المنطقة. فقد استلهمت الجماعة أسلوب “المؤسسات الموازية” الذي استخدمته إيران في بناء نفوذها الإقليمي. وكما تحكم طهران عبر الحرس الثوري ومنظماته الاقتصادية، وتحكم بيروت عبر حزب الله وشبكاته الاجتماعية، حكم الحوثيون صنعاء من خلال مؤسسات تحمل أسماء إنسانية لكنها تؤدي وظائف أمنية ومالية في آن واحد.

- ارتفاع وتيرة القمع 

في عامي 2024 و2025، بلغت سياسة القمع ذروتها. في 31 مايو 2024، نفذت أجهزة الأمن الحوثية حملة اعتقالات واسعة شملت 17 موظفًا أمميًا وعشرات العاملين اليمنيين. داهمت المنازل والمكاتب، واحتجزت المعتقلين في أماكن سرية. بعد ذلك بثلاثة أشهر، في أغسطس 2025، داهمت مكاتب الأمم المتحدة في صنعاء والحديدة واعتقلت 18 موظفًا إضافيًا، ليرتفع عدد المحتجزين إلى نحو 40.

وفي أكتوبر 2025، صعّد عبد الملك الحوثي الخطاب العدائي ضد المنظمات، متهمًا العاملين فيها بالتجسس لصالح “العدو”. بعد الخطاب مباشرة، ازدادت حالات الاعتقال وتوفي عدد من الموظفين أثناء الاحتجاز.
بهذا الشكل، اكتمل مشهد السيطرة: من الميدان إلى المؤسسات، ومن القانون إلى الخوف. لم يعد العمل الإنساني في اليمن مسألة إنقاذٍ للمدنيين، بل جزءًا من منظومة الحكم التي تبني الجماعة من خلالها نفوذها الداخلي وصلتها الإقليمية.

- إدارة الجوع: كيف أعادت الجماعة بناء الاقتصاد الإنساني وفق نموذج إيران وحزب الله؟

لم تكن الانتهاكات التي طالت العاملين في المجال الإنساني في اليمن أحداثًا معزولة، بل جزءًا من رؤية سياسية متكاملة تنظر إلى السيطرة كشرطٍ للبقاء.
الحوثيون لم يكتفوا بإحكام قبضتهم على العاصمة ومؤسسات الدولة، بل سعوا إلى إعادة تشكيل علاقتهم بالعالم وفق قاعدة “العمل تحت إشرافنا أو لا عمل إطلاقًا”.


هذا النمط من التفكير ليس جديدًا؛ فهو مستمد من تجارب قريبة في المنطقة، حيث تتحول الجماعات العقائدية إلى سلطات موازية للدولة.
في إيران، أدت عقيدة “الولاية” إلى تركيز السلطة في يد المرشد ومؤسساته، ومنها نشأت أذرع اقتصادية ضخمة تعمل خارج رقابة الدولة.
وفي العراق، استخدمت فصائل “الحشد الشعبي” النفوذ العسكري لتأسيس اقتصادٍ مستقل داخل مؤسسات الدولة نفسها.


وفي لبنان، أصبح “حزب الله” نموذجًا للحكم غير المعلن، يسيطر على مفاصل السياسة والاقتصاد عبر شبكة من الجمعيات والهيئات.
في اليمن، اتخذ الحوثيون المسار ذاته تقريبًا، بوسائل محلية وخطاب ديني يبرر احتكارهم لكل موارد السلطة والمجتمع.
يقوم الوعي الحوثي على ثلاث أفكار رئيسية:

الإيمان بامتيازٍ ديني يمنح الجماعة حق الوصاية على المجتمع، والارتياب الدائم في الخارج، والنزعة إلى استخدام الأزمات وسيلة لترسيخ السيطرة.
لذلك، لم تكن إجراءاتهم تجاه المنظمات الإنسانية مجرد قرارات إدارية، بل جزءًا من منهجٍ يجعل كل نشاطٍ خارجي تحت المراقبة والاشتباه.
وجاءت عملية إنشاء هيئات مثل NAMCHA وSCMCHA كخطوة عملية لتقنين هذا المنهج.
فقد فُرضت ضرائب على المشاريع الإغاثية، ووُضعت قوائم المستفيدين تحت إشراف أمني، وأصبح منح تصاريح السفر للموظفين الدوليين وسيلة ضغطٍ إضافية.


وفي الوقت نفسه، أُعيد توجيه مسار التمويل بما يخدم أولويات الجماعة.
كانت هذه المؤسسات تعمل كجهاز إداري علني، لكنه يؤدي دورًا أمنيًا فعليًا، تمامًا كما فعلت “مؤسسات البنياد” الإيرانية في اقتصاد طهران الموازي.
أما في الميدان، فقد تحولت المساعدات إلى سلعة.


في الأسواق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، بيعت المعونات التي يفترض أن تُمنح للفقراء، بينما جرى توزيع جزء منها على أسر المقاتلين.
وأكدت تقارير برنامج الأغذية العالمي و“هيومن رايتس ووتش” أن مئات الأطنان من المواد الغذائية اختفت من المخازن الرسمية، وهو ما كشف عن منظومة فسادٍ منظمة أكثر من كونه حوادث فردية.


بهذا الشكل، أصبحت المساعدات أحد أعمدة تمويل الحرب ومصدر دخلٍ مستمر للجماعة.
في مطلع عام 2022، فُرضت “سياسة المَحرَم” على النساء العاملات في المجال الإنساني، وهي خطوة قلّصت مشاركة النساء وأعاقت تنفيذ العديد من المشاريع.
كانت هذه السياسة انعكاسًا لتفكيرٍ ديني واجتماعي منغلق، يرى في المرأة عنصرًا يحتاج إلى الوصاية، وفي حرية الحركة خطرًا على “الهوية”.


نتيجة لذلك، تعطلت برامج الرعاية الصحية والمجتمعية التي تعتمد على الكوادر النسائية، وتراجعت قدرة المنظمات على الوصول إلى المحتاجين في المناطق النائية.
وحين تصاعدت الانتقادات، لجأت الجماعة إلى خطوة شكلية.


ففي أغسطس 2024 أعلنت حلّ المجلس الأعلى للشؤون الإنسانية ونقل صلاحياته إلى وزارتي الخارجية والعمل.
لكن التقارير الميدانية أكدت أن القرار لم يُنفَّذ فعليًا، وأن الأجهزة الأمنية ما زالت الجهة التي تدير العمل الإنساني وتتحكم بتصاريح المنظمات.
بهذا الإجراء، حاول الحوثيون امتصاص الضغوط الدولية من دون تغيير حقيقي في بنية السيطرة.


مع حلول عام 2024، بدأت مرحلة جديدة من القمع العلني.
ففي مايو من ذلك العام، نفذت الجماعة حملة اعتقالات طالت موظفين يمنيين ودوليين.
وُجهت لهم تهمٌ بالتجسس، وأُحيل بعضهم إلى النيابة الجزائية المتخصصة، التي أصدرت لاحقًا أحكامًا بالإعدام ضد 44 شخصًا، بينهم موظفون في برامج المراقبة الإنسانية.
وفي أكتوبر 2025، صعّد عبد الملك الحوثي خطابه ضد الأمم المتحدة، واتهم العاملين فيها بتقديم معلومات استخباراتية للتحالف.
بعد الخطاب مباشرة، جرت مداهمات لمكاتب الأمم المتحدة في صنعاء واحتُجز أكثر من خمسين موظفًا، وتوفي بعضهم أثناء الاحتجاز.


ورغم خطورة هذه التطورات، حافظت الأمم المتحدة على لغةٍ حذرة، اقتصرت على التعبير عن “القلق العميق”.
فالمنظمات الدولية، العاجزة عن العمل خارج مناطق الحوثيين، وجدت نفسها مضطرة للتعامل مع سلطتهم كأمرٍ واقع.
تلك الموازنة بين الإدانة والاستمرار في العمل أضعفت مصداقية العمل الإنساني، وجعلت من المساعدات أداة تفاوضٍ بين جماعةٍ مسلحةٍ والشرعية الدولية.
في هذا الإطار، لم يقتصر نفوذ الجماعة على المنظمات الإنسانية وحدها، بل امتد إلى القطاع الخاص المرتبط بالمساعدات الدولية.


فقد فرضت سلطات الحوثيين هيمنتها على شركة “يمن بروجكت”، وهي إحدى أكبر الشركات المحلية المتعاقدة مع الأمم المتحدة ووكالاتها في مجالات الإغاثة والتنفيذ اللوجستي.
منذ عام 2023 بدأت الجماعة تضييقها على الشركة، بحجة “الفساد المالي” و“الارتباط بجهات أجنبية”، ثم صادرت مقارها في صنعاء واحتجزت عدداً من موظفيها.
وفي يونيو 2024، اعتقل مديرها التنفيذي عدنان الحرازي، بعد أن رفض تسليم كشوفات عمل الشركة وحساباتها البنكية للهيئة الحوثية المسؤولة عن تنسيق العمل الإنساني.


لاحقًا، قدّم “جهاز الأمن والمخابرات” الحوثي ملفاً ضده للنيابة الجزائية بتهمة “التجسس لصالح دول أجنبية” و“تهريب أموال المنظمات الدولية”.
وفي ديسمبر 2024، أصدرت المحكمة التابعة للجماعة حكمًا بإعدامه في محاكمة مغلقة، اعتبرتها منظمات حقوقية “انتهاكًا صارخًا للعدالة” وامتدادًا لحملات الترهيب التي تطال العاملين في المجال الإنساني وشركاء الأمم المتحدة.


قضية عدنان الحرازي كشفت أن استراتيجية الحوثيين لا تقتصر على تقييد المنظمات الدولية، بل تشمل أيضًا ضرب الشبكات الوطنية التي تشكّل جسراً بين الداخل والخارج.
فبإسقاط “يمن بروجكت”، وهي شركة يمنية كانت تعمل وفق عقود أممية رسمية، وجّهت الجماعة رسالة واضحة: كل قناة تمويلٍ أو تنفيذٍ إنساني لا تمر عبرها، سيتم إخضاعها أو تصفيتها.
وهكذا، لم يعد الفقر وحده أداة السيطرة، بل أصبحت البنية الاقتصادية للمساعدات نفسها رهينةً في يد الجماعة.
في النهاية، أصبح اليمن ساحة تُختبر فيها حدود الصمت الدولي.


إذ تعمل الجماعة كسلطة أمر واقع تُدير المساعدات والموارد وتتحكم في حركة الدبلوماسية، بينما يكتفي العالم بتسجيل الملاحظات.
ومع غياب الدولة وانقسام السلطة، توسّعت سلطة الجماعة لتشمل الاقتصاد والمجتمع والإعلام، فأصبحت الدولة مجرد هيكلٍ شكليّ، والجماعة هي القوة الفعلية.
هذا النموذج لا يختلف كثيرًا عما حدث في بلدان أخرى تأثرت بالمشروع الإيراني، حيث تُدار السياسة عبر أدوات دينية وأمنية، ويُختزل العمل المدني في الطاعة.


الاختلاف الوحيد أن اليمن، بفقره الشديد وانهياره المؤسسي، منح الحوثيين بيئة مثالية لتطبيق هذا النموذج بلا مقاومة حقيقية.
وهكذا، تحولت المساعدات التي كان يُفترض أن تكون طريقًا للخلاص، إلى وسيلة جديدة للسيطرة.

- احتكار المساعدات واستغلال الجوع: الوجه الآخر للسلطة الحوثية

عند تتبع مسار الأحداث منذ عام 2015، يتضح أن السيطرة على المساعدات في اليمن لم تكن مسألة طارئة، بل مشروعًا متكاملًا أعاد تشكيل الاقتصاد والمجتمع.
فالمعونات التي دخلت البلاد لتخفيف معاناة المدنيين أصبحت جزءًا من منظومة تمويلٍ تخضع بالكامل لسلطة الجماعة.

ما يمكن تسميته اليوم بـ“الاقتصاد الإنساني الخاضع للسلاح” هو نتاج مباشر لغياب الدولة، وارتباط القرار الإغاثي بالشبكات الأمنية والولاءات السياسية.


تقوم هذه المنظومة على ثلاث دوائر مترابطة:- الأولى هي المنظمات الدولية، التي تعمل داخل نطاقٍ تفرضه الجماعة مقابل السماح بالوصول إلى المحتاجين؛ الثانية هي المنظمات المحلية والشركات المتعاقدة، التي تُستخدم كواجهة لتصريف التمويل أو مراقبته؛- والثالثة هي الأجهزة الأمنية والمالية التي تتحكم في التدفقات النقدية وتعيد توزيعها بما يخدم استمرار

سلطة الجماعة. بهذا الشكل، لم تعد المساعدات مجرد دعمٍ إنساني، بل أصبحت جزءًا من بنية الحكم ذاتها.قضية شركة “يمن بروجكت” ومديرها عدنان الحرازي كشفت بوضوح هذا التحول.

فبعد سنوات من التعاون مع وكالات الأمم المتحدة، تحولت الشركة إلى هدفٍ مباشر، فقط لأنها حاولت الحفاظ على استقلالها المالي والإداري.مصادرة الشركة والحكم بإعدام مديرها لم تكن مجرد انتقام من رجل أعمال، بل إعلانًا رسميًا بأن الاقتصاد الإنساني نفسه أصبح تحت وصاية الجماعة.وهو ما جعل القطاع الخاص المحلي، الذي كان يشكل شريان التنفيذ للمشاريع الدولية، يفقد استقلاله ويعمل اليوم في ظل بيئة من الخوف والتهديد.على المستوى الفكري والسياسي، يتّسق هذا السلوك مع نمطٍ إقليمي أوسع.

ففي كل تجربة شهدت تغوّل الجماعات العقائدية – من طهران إلى بغداد إلى بيروت – ظهرت الصيغة ذاتها: اقتصادٌ مغلق، تديره شبكات مرتبطة بالولاء، وتُموّل عبر قنوات المساعدات أو الأنشطة غير الرسمية.

في مناطق سيطرة المليشيا، وصلت هذه الصيغة إلى أقصى صورها هشاشةً ووضوحًا، لأن الحرب ألغت أي توازنٍ محتمل بين الدولة والمجتمع، وتركت المجال مفتوحًا أمام سلطةٍ لا تواجه رقابة ولا محاسبة.

ومع تراجع الاهتمام الدولي، وانشغال العالم بأزماتٍ أخرى، أصبحت الجماعة الطرف الوحيد القادر على تحديد من يتلقى الدعم ومن يُحرم منه.
فقد تحوّل الفقر إلى وسيلة ضبطٍ اجتماعي، وصار الولاء شرطًا للبقاء.

هذا الاستخدام السياسي للجوع، الذي كان يُمارس ببطء في السنوات الأولى، أصبح اليوم جزءًا معلنًا من بنية الحكم الحوثية.
المفارقة أن الأمم المتحدة، رغم تقاريرها الدورية، ما تزال مضطرة للعمل عبر الآليات نفسها التي تُبقي هذه المنظومة قائمة.
فهي تعتمد على شركاء محليين يختارهم الحوثيون، وتُحوّل الأموال عبر البنوك والمؤسسات التي تخضع لرقابة الأجهزة الأمنية.

وهكذا، يصبح العمل الإنساني محاصرًا بين منطق الحاجة ومنطق السلطة، بينما يدفع المدنيون ثمن هذا التوازن الهش.

في النهاية، تكشف الازمة اليمنية أن أخطر ما يمكن أن تواجهه المجتمعات في زمن الحرب ليس غياب المساعدات، بل احتكارها.

فالتحكم في المعونات يوازي في أثره السيطرة على الموارد الطبيعية، بل يفوقها تأثيرًا، لأنه يضع بقاء الناس أنفسهم في ميزان الولاء.

بهذا المعنى، يتحول العمل الإنساني من وسيلة إنقاذٍ إلى أداة حكم، ومن مشروع تضامنٍ إلى اقتصادٍ موازٍ تُديره جماعة مسلحة.

وإذا استمر هذا النمط دون مساءلة، فإن اليمن لن يخرج من أزمته الإنسانية حتى لو توقفت الحرب، لأن أدوات السيطرة الاقتصادية والاجتماعية ستبقى قائمة تحت مسمى “الإغاثة”.
هذه هي خلاصة عقدٍ كامل من التجربة: حين تُختزل المساعدات في يد السلاح، يضيع الإنسان، وتتحول الإنسانية نفسها إلى موردٍ من موارد الحرب.

تقارير

الهندسة الحوثية للقضاء: تطييف العدالة وتكريس الولاء العقائدي

استحدثت مليشيا الحوثي في سبتمبر من العام الماضي تعديلاً خطيراً على قانون السلطة القضائية، أعادت من خلاله توزيع الصلاحيات داخل الجهاز القضائي، ومنحت السلطة التنفيذية سلطة مباشرة على مجلس القضاء وهيئات التفتيش.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.