تقارير
في صنعاء.. أجساد على أرصفة الشوارع الباردة
في ليالي صنعاء شديد البرودة، ينام العشرات على الأرصفة، يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء بلا مأوى يقيهم وخزات الصقيع التي تخترق أجسادهم الهزيلة، وتحوّل لياليهم إلى جحيم.
لم يلتفتْ لمعاناتهم أحد، ولم يلاحظ -أيضا- أي خطوة في هذا الاتجاه لا من قِبل "سلطة الأمر الواقع" المتمثلة بجماعة الحوثي المسلّحة، أو من قِبل منظمات محلية أو دولية تتواجد في صنعاء أو لها تواجد مؤقّت، وإنما من قِبل مبادرات طوعية محدودة، وضعت يدها على جزء يسير من المشكلة.
على قطع الكرتون الممزّقة والخرق البالية صنع بعضهم خياما صغيرة ينامون فيها، ومن الكرتون ذاته صنعوا فرشا تفصلهم عن تراب الأرصفة وبرودتها، فيقضون أوقاتهم في فصل الشتاء القارص، ومَن هذا الذي لم يعشْ أو يذق برد صنعاء؟!!
-عاطلون عن العمل
ليس المجانين والمشردوّن وحدهم من جعلوا من الأرصفة مساكن ومواضع مفتوحة للنّوم، فبعض العمّال تقطّعت بهم السُبل، وعجزوا عن إيجاد عمل يكفل لهم النوم في اللوكندات المتواضعة، فقد جرفتهم الظروف لتقاسم الأرصفة مع أولئك المشردّين، فلا ليليهم ليل ولا نهارهم نهار.
الخمسيني "عبدالله" يرفض الحديث عن معاناته اليومية مع البرد، وعن الظروف التي دفعته إلى النوم في العراء، لكن رفيقه على الرصيف نفسه، يؤكد أنه جاء من إحدى القرى النائية بحثا عن عمل في مجال البناء، ويقف في حراج باب اليمن كل يوم إلا أنه نادراً ما يجد عملاً.
يقول في حديثه لـ"بلقيس": "كلنا نعيش نفس المعاناة، وعدم وجود عمل دفعنا إلى النوم في أرصفة الشوارع".
-الأعداد تتزايد
يتزايد عدد النائمين على الأرصفة وسط برودة الليالي الشتوية، وفي الزوايا المظلمة بجوار أسوار المؤسسات الحكومية والحدائق ينزوي العشرات بأجسادهم النحيلة الملتحفة بالبرد في مشهد تدمع له العيون.
وعلى رصيف سور هيئة مستشفى الثورة العام في صنعاء، ومدرسة الشعب المجاورة لها، ينكمش جسد الأربعيني إبراهيم، وآخرون يتقاسمون معه الرصيف من شدة البرد، خاصة خلال موجات الصقيع، في ليالٍ طويلة لا تنتهي.
"إبراهيم" -قادم من محافظة حجة- يقول لـ"بلقيس": "جئت إلى صنعاء للبحث عن عمل، وتنتظرنا عائلات لتوفّر لها احتياجاتها، ولا يعرفون كيف نعيش بعيداً عنهم".
ويضيف: "في الليالي شديدة البردة أعجز عن النوم، وأحس بجسدي يتجمّد، وألفُّ نفسي داخل بطانيتي التي تصير باردة هي الأخرى".
-مبادرات محدودة
بعض الأشخاص والجمعيات الخيريّة قامت بمبادرات، تمثّلت بتوزيع بطانيات على النائمين على أرصفة الشوارع، لكنها لم تصل إلى كثير من المشردّين، كما أنها غير كافية لتدفئتهم، في ظل عدم وجود مراكز خاصة للإيواء.
ليس البرد وحده من يعتصر أجساد النائمين على الأرصفة، فالجوع والنوم على معدة فارغة يجعلان وقع البرد أشد قسوة وأكثر وجعا.
على هذه أرصفة توجد الكثير من القصص المأساوية لآباء قضوا حياتهم في تربية أولادهم، ولما كبروا لم يجدوا منهم سوى العصيان والعقوق، وأشخاص تخلّى عنهم أقاربهم، فلم يجدوا ملاذاً عدا أرصفة الشوارع، وها هي الآن تجمع أشخاصا آخرين يبحثون عمّا يسد رمقهم ورمق أولادهم في واقع لم يعد الحصول فيه على فرصة عمل بالأمر السهل.
يتنفّس الصباح، فيسارع "إبراهيم" إلى استقبال أول أشعة الشمس، ليدفِئ جسده الذي أرهقه البرد طوال ساعات الليل، ويعود إلى الحياة مجدداً، وحتى ذهابهم إلى العمل -إن وجد- يكون بأحمال الإرهاق، والجوع، وقلة النوع، وضغط الحياة الصعبة.
"يشكو الناس من البرد وهم داخل بيوتهم، ويمتلكون فرشا وفيرة، وبطانيات ثقيلة، فما بالك بأشخاص ينامون في العراء على الأرصفة"، هكذا يعبّر إبراهيم عن معاناته الليلية مع الصقيع.