تقارير
"كينتاوروس" والردع اليوناني لاستهداف سفنها في البحر الأحمر؟
لم تكن مشاركة اليونان في عملية "أسبيديس" الأوروبية مجرد التزام بروتوكولي بحماية الملاحة الدولية في البحر الأحمر، بل انطلقت بدافع وطني صريح لحماية مصالحها البحرية والتجارية الإستراتيجية، بعد تعرض سفن مملوكة ومُدارة من شركات يونانية لهجمات متكررة من قِبل جماعة الحوثي.
ففي يوليو 2025، تعرّضت سفينتان تجاريتان، هما "ماجيك سيز" و"إيترنيتي سي"، لهجمات حوثية أدت إلى غرقهما، ورغم أنهما كانتا ترفعان علم ليبيريا، فإنهما تعودان لملكية وتشغيل شركات يونانية كبرى، ما جعل الحادثة تمسّ مباشرة مكانة اليونان البحرية ومصالحها في خطوط الشحن الدولية (رويترز، 28 يوليو 2025). وقد أسفر الهجوم على "إيترنيتي سي" عن سقوط ضحايا ومفقودين، بينهم أفراد يونانيون، الأمر الذي دفع الحكومة اليونانية إلى تحرك سريع وحازم.
وردًا على تلك الهجمات، أرسلت أثينا سفينة الدعم والإنقاذ "جاينت" إلى البحر الأحمر، وهي سفينة متقدِّمة تهدف إلى تأمين السفن اليونانية ضد التهديدات الحوثية المستمرة. وقد حملت هذه الخطوة رسائل واضحة أن الحكومة تتعامل مع التهديدات البحرية كقضية أمن قومي (AP News، 24 يوليو 2025).
إحدى أبرز المحطات في هذا التحول الدفاعي كانت دخول منظومة "كينتاوروس" الإلكترونية المتطورة ساحة المعركة خلال الأيام الماضية. وهذه المنظومة اليونانية الفعّالة طُورت من قِبل الصناعات الجوية الوطنية اليونانية بالتعاون مع القوات المسلحة اليونانية، التي خاضت أول اختبار قتالي فعلي في 4 أغسطس 2025، حيث تمكّنت من إسقاط طائرتين مسيّرتين حوثيتين وإجبار طائرتين أخريين على التراجع عبر التشويش عالي الدقة. هذا النجاح عزز موقع اليونان في الصناعات الدفاعية الأوروبية، وأثبت فاعلية الردع الإلكتروني في مواجهة التهديدات الجديدة، وأظهر القدرة على مواجهة المليشيات بحزم ودقة (بروتوثيما اليونانية، 6 أغسطس 2025). ويُعد هذا الاستخدام الأول الميداني لمنظومة يونانية بالكامل في مهمة دولية، ما يعزز مكانة أثينا داخل المعسكر الغربي كفاعل عسكري وتقني في مسرح البحر الأحمر.
وتجدر الإشارة إلى أن الهجمات الحوثية استهدفت في الغالب سفنًا مسجلة تحت علم ليبيريا، وهو علَم تسجيل تستخدمه الشركات الدولية، خصوصًا اليونانية، للالتفاف على القيود التنظيمية في بلدانها الأصلية. وقد تبيَّن أن معظم السفن الليبيرية المتضررة في البحر الأحمر، ومنها "ماجيك سيز" و"إيترنيتي سي"، تخضع للملكية والإدارة اليونانية، ما يفسِّر التزام أثينا المباشر في الرد على التصعيد الحوثي- الإيراني. وقد سجلت هجمات مماثلة طالت سفنًا تحمل أعلام دول أوروبية مثل بريطانيا والدنمارك وأخرى مثل اليابان، لكن الضرر الأكبر تركز على السفن الليبيرية المرتبطة بالقطاع البحري اليوناني (ويكيبيديا: Magic Seas وEternity C).
إن الخطر الحوثي لم يعد مقتصرًا على سفن بعينها، بل أصبح تهديدًا منهجيًا يعطل واحدة من أهم ممرات التجارة العالمية، حيث نفذت المليشيات الحوثية عشرات الهجمات في البحر الأحمر وخليج عدن باستخدام المسيّرات والصواريخ الباليستية والزوارق المفخخة، ما أدى إلى مقتل بحارة، وتعليق مؤقت لحركة الشحن، وتضاعف تكاليف التأمين على السفن (Business Insider، يوليو 2025).
إن هذا التصعيد الخطير من قِبل المليشيات الحوثية أجبر الولايات المتحدة على تشكيل تحالف دولي تحت مظلة "عملية حارس الازدهار" (Operation Prosperity Guardian) منذ ديسمبر 2023. ثم الضربات الجوية التي شنتها القوات الأمريكية والبريطانية على مليشيات الحوثي - التي تجاوزت 400 غارة على مواقع تخزين ومنصات إطلاق ومراكز قيادة حوثية - لم تنجح في كسر قدرة الحوثيين على شن المزيد من الهجمات أو تغافلت متعمدة لاستمرار المليشيات الحوثية باستهداف السفن وتهديد الملاحة الدولية ضمن حسابات الضغط الدولي والصراع مع الصين وروسيا. بل دفعتهم إلى تطوير وسائل أكثر تعقيدًا في التمويه والتحرك، بإشراف مباشر من الحرس الثوري الإيراني وبواسطة واجهة حوثية.
وفي مفارقة لافتة، أوقفت واشنطن فجأة ضرباتها في يوليو 2025، رغم استمرار الهجمات الحوثية. وقد كشفت صحيفة "فايننشال تايمز" أن سلطنة عُمان تدخلت بوساطة مباشرة أفضت إلى تفاهم غير معلن مع الحوثيين، يقضي بتقليص الهجمات مقابل وقف الضربات الجوية الأمريكية مؤقتًا (فايننشال تايمز، 25 يوليو 2025). ويُفسَّر هذا التوقف من قِبل مراقبين بأنه مرتبط بعدة عوامل متزامنة، أبرزها اقتراب الانتخابات النيابية النصفية لمجلسي النواب والشيوخ في الولايات المتحدة، ومحاولة إدارة بايدن تجنُّب تصعيد عسكري إقليمي قد يُستغل داخليًا ضدها، فضلًا عن تزايد التباينات بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين في شأن تقاسم أعباء الردع البحري، حيث تستخدم الإدارة الأمريكية استمرار التهديد الحوثي للضغط على دول الناتو -خاصة ألمانيا وفرنسا وإيطاليا- لزيادة الإنفاق الدفاعي على حماية طرق الملاحة، وذلك ضمن إطار مواجهة النفوذ الروسي والصيني في المحيطين الهندي والهادئ. وقد أشار "مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية" (CSIS، تقرير يوليو 2025) إلى أن تصاعد الهجمات في البحر الأحمر يُوظف أمريكيًا لإعادة هندسة أولويات التحالف الغربي. كما ذكرت "فورين أفيرز" أن تردد واشنطن في مواصلة الضربات ينبع من موازنتها بين تهديدات إقليمية طارئة ومصالح إستراتيجية عليا تتعلق بتثبيت التحالفات ضد بكين وموسكو (Foreign Affairs، أغسطس 2025).
في المقابل، لم تتوقف إيران عن تزويد الحوثيين بالتقنيات والأسلحة المتطورة رغم وعودها وتصريحاتها المضللة بعدم دعم المليشيات الحوثية، ما جعل التحالف البحري يواجه تهديدًا يتجدد بوسائل أكثر تعقيدًا. فقد اعترضت القوات الدولية، خلال الشهور الماضية، شحنات تحوي صواريخ بحرية دقيقة وطائرات مسيَّرة هجومية وأنظمة ملاحة وتوجيه متقدّمة (معهد واشنطن، 2024؛ تقرير القيادة المركزية الأمريكية، يونيو 2025).
وفي هذا السياق، برز مؤخرًا الدور الأمني للحكومة اليمنية الشرعية، التي تمكنت، في 4 أغسطس 2025، من ضبط شحنة تهريب كبيرة في ميناء عدن، احتوت على أجهزة توجيه لطائرات مسيّرة، ووحدات اتصالات عسكرية مخفية ضمن شحنة بضائع مدنية (وكالة سبأ، 4 أغسطس 2025).
إلى جانب ذلك، تميّز دور قوات المقاومة الوطنية بقيادة العميد طارق صالح، التي تمكنت خلال الشهور الماضية من تنفيذ عمليات نوعية في الساحل الغربي. وقد أسفرت تلك العمليات عن ضبط عدد من شحنات الأسلحة والمعدات العسكرية المتطورة الموجهة إلى الحوثيين، التي أظهرت ببيانات رسمية ووثائق دامغة أن تلك الشحنات شملت صواريخ دقيقة وأجهزة ملاحة بحرية وطائرات استطلاع صغيرة، تم تهريبها عبر سواحل الحديدة والخوخة والمخا ضمن شبكات تهريب إيرانية تعمل تحت غطاء تجاري أو ضمن شبكات تهريب إيرانية - حوثية. وتُعد هذه النجاحات جزءًا أساسيًا من الجهود الأمنية المتقدمة التي تُكمل عمل القوات الحكومية على مستوى الجغرافيا اليمنية المتعددة، وهي جهود تعكس انتقالًا متدرجًا من مرحلة الاعتماد الكامل على الغطاء الجوي الدولي، إلى بناء قدرات محلية فاعلة في المواجهة الميدانية واللوجستية.
وفي ضوء ذلك، يمكن فهم الدور اليوناني ضمن مهمة "أسبيديس" بوصفه مزيجًا من الالتزام الأوروبي الجماعي، والدفاع المباشر عن أسطول شحن ضخم يعد من الأكبر عالميًا، يمتد من شرق المتوسط إلى جنوب البحر الأحمر.
فقد تحوّل البحر الأحمر إلى ساحة اشتباك بحرية مفتوحة، في ظل تصعيد حوثي مستمر، ودعم إيراني معقّد، وتضارب إستراتيجيات دولية، يدفع الدول المالكة والمديرة للأساطيل - وفي مقدمتها اليونان - إلى مغادرة موقع "المراقب القلق" نحو "الفاعل العسكري المباشر"، وهذا ما يحدث الآن.
فهل نحن الآن أمام تصعيد حوثي متصاعد في البحر الأحمر؟
أم أن تعيين علي لاريجاني أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني - وهو شخصية أكثر انفتاحًا وأقل تشددًا من سلفه - سوف يوجه الجماعة الحوثية إلى التهدئة ضمن حسابات إيران المستقبلية؟
وختامًا، إن تحوّل البحر الأحمر إلى ساحة اختبار لأنظمة الردع الإقليمية والدولية، من "كينتاوروس" اليونانية إلى الطائرات المسيّرة الأمريكية، يعكس تعقيد المعادلة الأمنية الجديدة، حيث لا تكفي الغارات أو التحالفات لردع تهديد عابر للحدود مثل الحوثيين.
فهل تُسهم التقنيات اليونانية، ومعها النجاحات اليمنية الأخيرة، في إعادة صياغة قواعد الاشتباك البحري؟ أم أن الدور الإيراني المتجدد، بقيادة علي لاريجاني، سيعيد ضبط إيقاع التصعيد ضمن سياسة "الضغط المحسوب" وتخفيف التصعيد العسكري؟
أ.د.عبدالوهاب العوج - أكاديمي ومحلل سياسي يمني