تقارير
لماذا تحتاج واشنطن إلى استراتيجية جديدة في اليمن؟
يشكل الحوثيون خطرًا أكبر على المصالح الأميركية والخليجية مقارنة بما كانوا عليه قبل حرب غزة، ومن ثم يتعين على واشنطن وشركائها الإقليميين تطوير نهج أكثر ملاءمة لهذا الغرض.
أصبحت السياسة الأميركية تجاه اليمن منحرفة. فبعد أن أوقفت الهدنة التي توسطت فيها عمان حملةً أميركيةً استمرت قرابة شهرين ضد الحوثيين في شهر مايو الماضي، تحولت إدارة ترامب بسرعة إلى أولويات أخرى، حتى في ظل تكثيف إسرائيل حملتها الجوية للحد من الضربات الصاروخية والطائرات المسيّرة المستمرة التي تشنها جماعة الحوثي عليها.
وإذا كان الماضي عبارة عن مقدمة، فإن مثل هذه العمليات الجوية لن تردع الحوثيين أو تقتلعهم من جذورهم، بل قد تعمل لصالحهم.
إن رغبة الإدارة في الابتعاد عن اليمن أمر مفهوم، غير أنه أيضًا قصير النظر وربما خطير. ربما انتهى الرئيس ترامب من الحوثيين، إلا أن الحوثيين لم ينتهوا من الولايات المتحدة أو حلفائها. والمطلوب هو سياسة يمنية أكثر شمولًا بالتنسيق مع شركاء الخليج.
- التحولات في سياسة الولايات المتحدة
لقد تغير نهج واشنطن تجاه اليمن بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية. ففي بداية إدارة بايدن، كانت الدبلوماسية في المقدمة، بهدف إنهاء الحرب الأهلية في البلاد والأعمال العدائية التي اجتذبت تحالفًا إقليميًا بقيادة المملكة العربية السعودية.
وشمل ذلك التراجع عن قرار الرئيس ترامب خلال ولايته الأولى بتصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية، وهو تحول يهدف إلى تجنب العواقب الإنسانية المحتملة ومساعدة جهود الوساطة التي تقودها الأمم المتحدة.
كما زادت الإدارة الضغوط على الرياض لإنهاء الحرب من خلال تعليق مبيعات الأسلحة الهجومية الأميركية للسعودية.
وتغيرت الظروف في نوفمبر 2023، عندما أطلق الحوثيون هجمات منظمة ضد الشحن التجاري في البحر الأحمر باسم دعم الفلسطينيين خلال حرب غزة.
وتحول موقف إدارة بايدن كردٍّ على ذلك، إذ استأنفت مبيعات الأسلحة الهجومية للسعوديين، وأدرجت الحوثيين كـ"كيان إرهابي عالمي محدد بشكل خاص"، ونفذت غارات محدودة على أهداف عسكرية في اليمن، وجمّدت المسار الدبلوماسي.
وفي النهاية، أوضحت الإدارة أنه طالما استمرت هجمات الحوثيين على الشحن، فإن الولايات المتحدة ستعارض أي اتفاق من شأنه تمكين الحوثيين من جني المكاسب المالية.
وعندما تولى الرئيس ترامب منصبه مرة أخرى هذا العام، تبنّى نهجًا أكثر صرامة، على الأقل في البداية. ففي الرابع من شهر مارس، أعادت الإدارة إدراج الحوثيين في قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية، وهو تصنيف أكثر صرامة يجرّم الدعم المادي لهم.
وفي 15 مارس الماضي، أطلقت عملية "راف رايدار"، وهي حملة جوية أكثر زخمًا واستدامة تهدف إلى استعادة حرية الملاحة، وجرى استهداف الحوثيين (المقاتلين)، وإضعاف قدرات الجماعة من جهة أخرى.
بيد أنه في السادس من مايو الماضي، انتهت العملية بشكل مفاجئ كما بدأت، مما أدى إلى إيقاف حملة مكلفة للغاية ومفتوحة أكثر فأكثر، والتي كانت تستنزف الموارد اللازمة لمناطق أخرى.
وتشير المحادثات مع مسؤولين في الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا في عدن إلى أن التوقف كان مفاجئًا، وبيّن عدم قدرتهم على التحرك حتى في غضون هجوم الولايات المتحدة على الحوثيين.
وبالنسبة للمملكة العربية السعودية والفاعل الخليجي الرئيسي الآخر في اليمن، الإمارات العربية المتحدة، عزز القرار تصورات عدم الوثوق بالولايات المتحدة وتقلب سياساتها.
وفي الوقت نفسه، خرج الحوثيون منهكين لكنهم لم يُهزموا. ووصف قادتهم النجاة من هجوم عسكري أميركي بأنه انتصار، ومن المرجح أنهم شعروا بالارتياح لإخراج واشنطن من المعادلة حتى يتمكنوا من إعادة تجميع صفوفهم والتركيز على مهاجمة إسرائيل.
ويبدو أن النهج الحالي الذي تنتهجه الإدارة يتلخص في طبخ الحوثيين على نار هادئة ومغادرة المطبخ. وحافظت واشنطن على الهدنة الثنائية، بينما مارست الضغوط من خلال آلية منظمة التجارة الحرة، لكن لم يعد هناك من مبعوث أميركي خاص إلى اليمن، مما يشير إلى أن القضية قد جرى إلغاء أولويتها.
كما أنهت الإدارة تقريبًا جميع المساعدات الخارجية لليمن، بما فيها تلك الموجهة للمناطق التي تسيطر عليها الحكومة والتي تعارض توسع الحوثيين.
- مجموعة مشاكل ناشئة
قبل تصعيد الحوثيين خلال حرب غزة، أحرزت المملكة العربية السعودية وعمان والأمم المتحدة تقدمًا كبيرًا نحو التوصل إلى اتفاق خارطة طريق في اليمن بدعم كامل من جميع الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن.
وتضمنت خارطة الطريق هذه وقف إطلاق النار، وتدابير بناء الثقة الاقتصادية، وبدء عملية سياسية لإنهاء الحرب الأهلية.
وكانت الفكرة في الأساس تتلخص في جذب الحوثيين عن طريق الدبلوماسية، وقبولهم كجزء من النظام السياسي اليمني، وإدخالهم في اتفاق مدعوم دوليًا.
وكجزء من هذه العملية، هدفت المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة إلى استخدام مزيج من "العصا والجزرة" لعزل الجماعة عن راعيها الرئيسي، إيران، وربطها بدول الخليج العربي بدلًا من ذلك.
كان لدى مسؤولي الحكومة اليمنية تحفظات جدية، غير أن داعمهم الرئيسي في الرياض كان مصممًا على إنهاء حرب طويلة ودموية، لذلك بدا التوصل إلى اتفاق في متناول اليد.
واليوم، أصبح التحدي الحوثي أكثر خطورة وتعقيدًا. فبعد أن كان تركيزهم في المقام الأول على اليمن، أصبحت الجماعة الآن تعطي الأولوية للبروز كقوة إقليمية على المدى الطويل.
وبالإضافة إلى تعطيل الشحن التجاري في ممر البحر الأحمر، وهي المنطقة التي تمثل 12% من التجارة العالمية، أثبت الحوثيون قدرتهم على مهاجمة إسرائيل على بعد أكثر من 2000 كيلومتر.
وقد جلبت لهم المعركة الأخيرة على وجه الخصوص شعبيةً إقليميةً، ومزيدًا من المجندين، وخبرةً عسكريةً لا تُقدَّر بثمن.
كما لعبت -بشكل عام- دورًا لصالحهم محليًا، حيث يدعم العديد من السكان المحليين رغبة الجماعة في مواجهة إسرائيل، وحتى أولئك الذين قد يعارضون تقديم الحوثيين الأولوية للأهداف الإقليمية على الاحتياجات المحلية لا يجرؤون على التحدث علنًا وسط حملة قمع وحشية مدفوعة بجنون العظمة على أي شخص تصنفه الجماعة كجاسوس.
لقد أدت تجربة العامين الماضيين مجتمعةً إلى تمكين العناصر العقائدية والتوسعية في حركة الحوثيين مع تهميش عناصرها القومية الأكثر واقعية. وأدلى زعيم الحركة، عبد الملك الحوثي، بتصريحات عديدة وصف فيها نفسه بأنه رأس حربة التغيير الإقليمي، حيث عارض "الهيمنة الغربية/الإسرائيلية والحكومات العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة".
سيكون إعادة هذا الجني إلى الزجاجة أمرًا صعبًا في أحسن الأحوال. فعلى الرغم من أن الحوثيين وعدوا بإنهاء حملتهم الصاروخية والطائرات المسيّرة إذا توصلت إسرائيل وأطراف أخرى إلى وقف لإطلاق النار في غزة ورفع الحصار هناك، فمن غير المؤكد ما إذا كان هذا سيزيل الخطر الذي يتعرض له البحر الأحمر على المدى الطويل.
والآن بعد أن استفادوا من ممارسة هذا النفوذ، فمن الصعب ألا يستخدموه مرة أخرى، سواء ردًا على اندلاع صراع إسرائيلي فلسطيني آخر أو لانتزاع تنازلات مستقبلية من المملكة العربية السعودية أو دول أخرى.
وعلاوة على ذلك، ففي حين لا يزال الحوثيون يعتمدون على إيران في بعض القدرات المتقدمة مثل الصواريخ الباليستية متوسطة المدى والصواريخ المجنحة المضادة للسفن، فإنهم يعملون بمرونة على توسيع تصنيعهم المحلي وتنويع سلاسل التوريد الخاصة بهم لتشمل المكونات الصينية ذات الاستخدام المزدوج.
كما أنهم يعملون على تطوير العلاقات مع "حركة الشباب" المسلحة عبر خليج عدن، وتزويدها بالأسلحة مقابل زيادة القرصنة وتعطيل الشحن قبالة سواحل الصومال. وعلاوة على ذلك، أدت الهجمات في البحر الأحمر إلى تقريبهم من موسكو وبكين، حيث سُمح لسفنهما إلى حد كبير بالمرور دون مضايقة.
وذكرت التقارير أن روسيا أرسلت مستشارين عسكريين إلى الحديدة التي يسيطر عليها الحوثيون، بل إنها فكرت في توريد صواريخ ومعدات عسكرية أخرى قبل تدخل الرياض وواشنطن العام الماضي.
وباختصار، تعمل جماعة الحوثي على تطوير نظام محلي معزول نسبيًا عن العقوبات الأميركية ومتحد في الرغبة في تحدي النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة.
ومما يثير القلق بشكل خاص الخطر المتزايد الذي يشكله الحوثيون على دول الخليج الأخرى، وخاصة المملكة العربية السعودية، التي تركز على خطط إقليمية طموحة للابتعاد عن الاقتصاد القائم على النفط ونحو تحول اقتصادي واجتماعي مستقر (وإن كان استبداديًا).
وقد أعربت إدارة ترامب مرارًا وتكرارًا عن اهتمامها بمساعدة هذه البلدان على تحقيق الاستقرار والاندماج في الشرق الأوسط بطرق تعمل على توسيع نفوذ أمريكا وازدهارها.
ومع ذلك، فإن القدرات والطموحات المتنامية للحوثيين تشكل خطرًا مباشرًا لهذا الهدف المركزي للولايات المتحدة.
وخلصت جماعة الحوثي إلى أن الرياض تريد الهدوء فوق كل شيء، مما يجعل المملكة عرضةً لمطالب متزايدة باستمرار، مما دفع العديد من اليمنيين المناهضين للحوثيين إلى القلق من أن المملكة لن تستخدم قواتها الجوية للدفاع عن المواجهات الأمامية (على سبيل المثال، في الأجزاء التي تسيطر عليها الحكومة في محافظة مأرب).
- توصيات لاتخاذ سياسات
إن النهج الأميركي الحالي في التعامل مع اليمن ليس مناسبًا لهذا النحو. ويشكل الحوثيون خطرًا أكبر، وليس أقل، على المصالح الأميركية، مقارنةً بما كانوا عليه قبل حرب غزة.
ورغم أنهم من المرجح أن يوفوا بوعدهم بوقف الهجمات في البحر الأحمر إذا جرى التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، فإن استمرارية هذا التوقف أمر مشكوك فيه، ويبدو أنهم يميلون إلى مواصلة التصعيد على جبهات أخرى.
وفي الوقت نفسه، قد تتخذ معركتهم الحالية مع إسرائيل منعطفًا أكثر خطورة، فعلى سبيل المثال، إذا شكّلوا خطرًا على صادرات الطاقة الحيوية في شمال البحر الأحمر، كما بدا أنهم فعلوا بمهاجمة سفينة مرتبطة بإسرائيل بالقرب من "ينبع" في وقت سابق من هذا الشهر. فقبل أن تتطور الأزمة إلى شيء أسوأ، تحتاج إدارة ترامب إلى تطوير سياسة يمنية أكثر شمولًا بالتنسيق مع شركاء الخليج.
وتتمثل الخطوة الأولى في تشكيل فريق لـ"اليمن" لتجديد السياسة الأميركية داخليًا والبدء بمناقشة الخيارات على مستوى رفيع مع المسؤولين الخليجيين. وسواء كان الاختيار هو الاحتواء، أو المواجهة، أو التنازلات المحدثة، أو مزيجًا من كل ذلك، فإن التدابير التالية ستكون حاسمة، بما يشمل:
العمل مع الشركاء اليمنيين والخليجيين لإعادة الخطر العسكري إلى الطاولة على نحو موثوق به. وعلى أقل تقدير، لا بد من دعم القوات الموالية للحكومة بما يكفي للمحافظة على المواجهات الأمامية الحالية وشن هجمات مضادة.
ويستلزم ذلك استمرار الدعم الجوي من التحالف الذي تقوده السعودية، خاصة في مأرب وعلى طول ساحل البحر الأحمر.
كما تشمل هذه التدابير الحاسمة توفير ضمانات أمنية واضحة للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، مثل مبيعات الأسلحة الإضافية، وزيادة التدريبات والمناورات، والالتزام بالدفاع عنهما في حالة مهاجمة الحوثيين لهما.
بالإضافة إلى توفير الدعم الموحد لإصلاح الحكومة اليمنية.
إن الحكومة المعترف بها دوليًا، وخاصة سلطتها التنفيذية، منقسمة وغير فعالة، وقد تباطأت الجهود الرامية إلى إصلاحها جزئيًا بسبب أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تدعمان الفصائل المتنافسة.
ويستطيع كبار المسؤولين الأميركيين أن يلعبوا دورًا لا يُقدَّر بثمن في عقد الاجتماعات من خلال جمع الشركاء الخليجيين معًا حول رؤية استراتيجية لدعم الحكومة بعد إصلاحها.
كما تتضمن هذه التدابير بذل المزيد من الجهود لاستهداف أسلحة الحوثيين وأموالهم.
ويستلزم ذلك العمل مع عمان والإمارات العربية المتحدة وغيرهما لتحسين حظر الأسلحة ووقف التدفقات المالية غير المشروعة إلى جماعة الحوثي. وإعادة إطلاق عملية سياسية مخصصة تبحث الطرق المحتملة للتوصل إلى تسوية سياسية محدثة، بما يشمل تقديم حزمة لإعادة الإعمار والتنمية مدعومة من الخليج.
ولن يحظى أيٌّ من هذه الخيارات بقدر كبير من الاهتمام إذا استمرت الغارات الجوية الإسرائيلية الأحادية الجانب.
وبناءً على ذلك، فبمجرد أن تتفق الولايات المتحدة وشركاؤها في الخليج على خطة منقحة، يتعين على واشنطن أن تفعل ما هو ضروري للحصول على موافقة إسرائيل.
ونظرًا للإحباط الخليجي المتزايد إزاء العمل العسكري الإسرائيلي الأحادي الجانب في المنطقة وفقدان الثقة بالضمانات الأمنية الأميركية، فإن العمل على ملف اليمن معًا يشكل فرصة لبناء الثقة والتعاون الحيويين.
* الدكتورة "أبريل لونجلي ألي" هي زميلة بارزة في معهد واشنطن، حيث تركز أبحاثها على اليمن والخليج. وهي خبيرة إقليمية رائدة تتمتع بخبرة تزيد عن 15 عامًا في تحليل النزاعات والوساطة، وقد عملت مؤخرًا كخبيرة بارزة لدول الخليج واليمن.