تقارير
مأساة تعز.. وقصة أطول حصار في التاريخ الحديث والمعاصر
في الوقت الذي تطالب فيه الأمم المتحدة وأطراف دولية مليشيا الحوثيين برفع الحصار عن مدينة تعز الذي بدأ منذ نحو سبع سنوات، ردت المليشيا على تلك المطالب بمحاولة قطع طريق الضباب، المنفذ الوحيد للمدينة، وتكررت هجماتها خلال الأيام الماضية على مواقع الجيش الوطني وباتجاه خط الضباب مع محاولة التقدم لقطعه، لكن قوات الجيش تحبط تلك الهجمات وتجبر مسلحي المليشيا على التراجع، حيث تسعى المليشيا لزيادة إحكام الحصار على المدينة التي يقطنها نحو ثلاثة ملايين نسمة، ومحاولة خنقها تماما، بدلا من الاستجابة للضغوط الدولية برفع الحصار والتخفيف من معاناة السكان.
كما أنه منذ بدء المطالب برفع الحصار عن مدينة تعز، كثفت مليشيا الحوثيين من هجماتها على الأحياء السكنية في المدينة، وازدادت عمليات القنص التي تطال المواطنين من الجنسين ومن مختلف الفئات العمرية ممن يقطنون بالقرب من مواقع تمركز المليشيا الحوثية في أطراف المدينة، يضاف إلى ذلك أن المليشيا شددت من إجراءاتها الاستفزازية بحق المسافرين عبر الطرق البديلة والشاقة، مثل طريق الأقروض، حيث كثفت من تفتيش المسافرين والتحقيق معهم واستفزازهم، واتهام كل مسافر بأنه من المطلوبين أمنيا وأن عليه بلاغات لإقلاقه، فضلا عن تفتيش هواتف بعض المسافرين وأغراضهم الشخصية والعبث بها.
- أطول حصار كاختبار أخلاقي
يعد حصار مليشيا الحوثيين لمدينة تعز، منذ سبع سنوات، أطول حصار في التاريخ الحديث والمعاصر، فهو أطول من حصار سراييفو وستالينجراد وليننغراد، وأيضا أطول من حصار النظام السوري والمليشيات المتحالفة معه لمنطقة الغوطة الشرقية، وهو الحصار الذي وصفته الأمم المتحدة، في يونيو 2018، بأنه "أطول حصار متواصل في التاريخ الحديث"، وانتهى ذلك الحصار بعد أن شن النظام السوري والمليشيات المتحالفة معه حملة عسكرية ساحقة للسيطرة على المنطقة وارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين هناك.
لا يختلف حصار النظام السوري لمنطقة الغوطة الشرقية عن حصار مليشيا الحوثيين لمدينة تعز إلا في المدة الزمنية، فحصار الغوطة الشرقية الذي استمر خمس سنوات، وصفته الأمم المتحدة بأنه أطول حصار في التاريخ الحديث، لكن حصار مليشيا الحوثيين لمدينة تعز، الذي استمر لمدة سبع سنوات وما يزال مستمرا، لم تصفه الأمم المتحدة بأنه أطول حصار في التاريخ الحديث أو المعاصر، وتبدو غير جادة في الضغط على مليشيا الحوثيين لرفع الحصار عن المدينة، ولم تدِن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها المليشيا في مدينة تعز وريف المحافظة منذ بداية الحرب وحتى اليوم، بما في ذلك الإعدامات الميدانية، وسحل الجثث وتعليقها على الأشجار، كما حدث في منطقة الحيمة في يناير 2021، وهو أسلوب يتجاوز في بشاعته أساليب أبشع التنظيمات الإرهابية في العالم.
كثيرة هي المآسي المترتبة على حصار مدينة تعز، منها: الصعوبات التي يواجهها المدنيون في نقل البضائع إلى المدينة عبر طرق جبلية وعرة، وحوادث السير المتكررة وما تسفر عنه من ضحايا، وغلاء أسعار مختلف السلع بسبب وعورة الطرق الجبلية البديلة ومسافاتها الطويلة في ظل ضعف القدرة الشرائية للمواطنين، ومعاناة المرضى الذين يحتاجون لرعاية صحية لا تتوفر داخل المدينة المحاصرة، بالإضافة إلى حالة الخوف والقلق في أوساط المدنيين الذين تتعرض أحياؤهم السكنية للقصف بالمدفعية الثقيلة والقنص بشكل شبه يومي وما يسفر عن ذلك من قتلى وجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، وإصابة البعض بعاهات مستدامة أو بأمراض نفسية جراء الخوف والقلق الدائم، وفرض الإقامة الجبرية على سكان بعض الأحياء، وغير ذلك من صور المعاناة الناجمة عن استمرار الحصار.
ونظرا لكثرة المآسي المترتبة على حصار مدينة تعز، فإن مسألة رفع الحصار تعد اختبارا أخلاقيا لمختلف الأطراف المحلية والدولية الفاعلة في الأزمة اليمنية، لكنه اختبار سقط فيه الجميع، فالحكومة الشرعية لم تبذل الجهود المطلوبة لرفع الحصار عن تعز، سواء من خلال الحشد ودعم معركة استكمال تحرير المدينة وما بقي من المحافظة وتأمينها، أو من خلال إثارة الملف في أوساط المجتمع الدولي.
كما أن الأمم المتحدة ومبعوثي بعض الدول الغربية إلى اليمن لم يمنحوا ملف حصار تعز الاهتمام المطلوب وممارسة ضغوط جادة على مليشيا الحوثيين لرفع الحصار. أما التحالف السعودي - الإماراتي فيبدو وكأنه متواطئ مع مليشيا الحوثيين أو ممتن لها بحصارها لمدينة تعز التي يراها متمردة وخارجة عن "بيت الطاعة"، بسبب عدم قبولها بإنشاء تشكيلات عسكرية داخلها موالية للتحالف، ويتوجس منها بسبب صمودها المبكر في وجه مليشيا الحوثيين، وطرد فصيل تابع للإمارات إلى خارج المدينة بعد أن كان سببا في الاضطرابات الأمنية داخلها، كما أن الجيش الوطني في تعز لا يتلقى أي دعم بالمال أو السلاح من التحالف لتمكينه من استكمال تحرير مدينة تعز وما بقي من المحافظة.
- أحقاد الحوثيين على تعز
يعكس حصار مليشيا الحوثيين لمدينة تعز، منذ سبع سنوات، أحقادهم وضغائنهم إزاء المحافظة بشكل عام، فقد كانت تعز من أوائل المحافظات التي انتفضت في وجه الانقلاب والغزو الحوثي، وبما أن الحوثيين كانوا يعتقدون أن سيطرتهم على محافظة تعز ستكون مجرد نزهة، نظرا للطابع المدني والسلمي لأبناء المحافظة، لكن كانت المفاجأة الصادمة عندما تشكلت مقاومة شعبية في المحافظة بسرعة وأظهرت صمودا وبسالة نادرة في وجه المليشيا، فكان لذلك تداعياته على المعركة في اليمن بشكل عام وليس في محافظة تعز فقط، فقد كانت المقاومة الشعبية في تعز ملهمة لمحافظات أخرى تشكلت فيها مقاومة شعبية كسرت حاجز الخوف، ومن قلب المقاومة الشعبية تشكل الجيش الوطني.
ثم إن بسالة المقاومة الشعبية في محافظة تعز لحظة بداية الحرب، أربكت مليشيا الحوثيين والقوات العسكرية الموالية لعلي صالح حينها، وأعاقتها عن تركيز معركتها في المحافظات الجنوبية، أي أنها جعلتها مشتتة، فالمعركة في تعز خففت ضغط مليشيا الحوثيين وقوات علي صالح على محافظتي عدن ولحج، وهو ما عجل بهزيمة المليشيا فيهما، وإلى الآن ليس بإمكان مليشيا الحوثيين غزو المحافظات الجنوبية والشرقية ما لم تسيطر على محافظتي تعز ومأرب، لأنه لا يمكنها التوغل جنوبا وظهرها مكشوف، فمحافظتا تعز ومأرب تشكلان سياجا منيعا أمام محاولات تقدم مليشيا الحوثيين نحو المحافظات الجنوبية والشرقية، ولا صحة لمزاعم البعض بأن المليشيا ستكتفي بالسيطرة على المحافظات الشمالية، فخطابها الإعلامي الموجه نحو الداخل يزعم أن ما يسمونها "المسيرة القرآنية" ستسيطر على اليمن والجزيرة العربية وغيرها.
وبعد طرد مليشيا الحوثيين وقوات علي صالح من محافظتي عدن ولحج، عادت المليشيا وركزت معركتها على تعز كإجراء انتقامي، وتعاملت مع تعز كحالة خاصة تتطلب استخدام مختلف وسائل الترهيب والترويع والوحشية لإخضاعها، لكن مشاهد الجنازات اليومية العائدة من جبهات تعز إلى مناطق سيطرة الحوثيين جعلت المليشيا تشعر بالإحباط، ولم تجدِ التعزيزات العسكرية نفعا، فالمقاومة الشعبية التي تشكلت سريعا انطلاقا من وسط المدينة، مسنودة بألوية محدودة من الجيش بقيت على ولائها للسلطة الشرعية، تمكنت من تحرير المدينة وبعض أرياف المحافظة بإمكانيات محدودة.
في البداية، كانت مليشيا الحوثيين وقوات الأمن المركزي والحرس الجمهوري الموالية للانقلابيين، تسيطر على جميع المواقع الحاكمة داخل مدينة تعز، بما في ذلك جبل صبر المطل على المدينة، لكن المقاومة الشعبية، رغم ضعفها في العدد والعتاد، تمكنت من السيطرة على جميع المواقع الحاكمة داخل المدينة من خلال حركات التفافية وتطويق كل موقع من جميع جوانبه، مع كثافة النيران، فأربك ذلك المليشيا التي وجدت نفسها مقطعة الأوصال وتأتيها النيران من كل مكان، وسقوط أعداد كبيرة من مسلحيها بين قتيل وجريح، مما أجبرها على الانسحاب، وفرض الحصار على المدينة من جميع الجهات لإجبارها على الاستسلام.
يُعد الحصار أحد تكتيكات الحروب القديمة، ولا يزال مستمرا حتى يومنا هذا، ويُعرف بأنه تكتيك عسكري يتمثل بفرض حصار عسكري على مدينة أو مكان ما لإجبار سكانه والجنود المرابطين فيه على الاستسلام بعد أن يفتك بهم الجوع والعطش، وهو ما كان قد بدأ يحصل في مدينة تعز عند بدء الحصار، مما اضطر سكان المدينة إلى إدخال المواد الغذائية الضرورية على ظهورهم عبر طرق جبلية وعرة مشيا بالأقدام. وبعد أن زادت المعاناة، لم يكن أمامهم سوى خوض معركة عنيفة مع المليشيا الحوثية أفضت إلى فك الحصار جزئيا من خلال فتح طريق الضباب مرورا بمنطقة الحجرية ومنها إلى مدينة عدن، واليوم تحاول مليشيا الحوثيين إغلاق طريق الضباب مجددا لمحاصرة المدينة وإجبارها على الاستسلام بعد أن يفتك بها الجوع والعطش.
الحصار هو سلاح العاجزين، فبعد عجز مليشيا الحوثيين عن استعادة السيطرة على مدينة تعز، لجأت إلى تكتيك الحصار لإجبار المدينة على الاستسلام، بيد أن ما حصل كان العكس، فرغم المعاناة والمآسي المترتبة على الحصار، لكن مدينة تعز كل يوم تنبض بالحياة أكثر من ذي قبل، وينتشر الجيش الوطني على امتداد التلال والجبال في محيط المدينة، ويحبط جميع محاولات المليشيا للتسلل أو التقدم في بعض المواقع، غير أن معاناة المدنيين جراء الحصار تتفاقم، وهو ما يتطلب ضغطا دوليا عاجلا على المليشيا الحوثية لرفع الحصار عن المدينة ولو جزئيا من خلال فتح بعض الطرق الرئيسية.
- تعز والحصار المضاد للإمامة
يقول بعض قادة الجيش الوطني في تعز إنه بإمكان الجيش استكمال تحرير المحافظة، لكن ذلك يتطلب قرارا سياسيا من السلطة الشرعية، والسلطة الشرعية قرارها مصادر من قِبَل التحالف السعودي - الإماراتي الذي ينظر لتعز بعين الشك والريبة ويعدها خارجة على بيت طاعته. أما مليشيا الحوثيين فهي ستكتفي باستمرارها في حصار المدينة، لسبب وحيد وهو أنها غير قادرة على السيطرة عليها مجددا بعد طردها منها وتمترس الجيش الوطني بإحكام حول المدينة وبعض أرياف المحافظة، لا سيما أن تضاريس المدينة تعيق المليشيا عن التقدم نحوها.
فمدينة تعز يحيط بها جبل صبر من الخلف، ومن الأمام تتنوع تضاريسها بين تلال وجبال ووديان، ولمعرفة البعد الحربي لتضاريس تعز، نطالع في كتاب "فن الحرب عند سونبين"، وهو من أهم كتب الفكر العسكري الصيني التي خرجت من قلب الصراعات التي شهدتها الأمة الصينية قديما، نطالع فيه هذه العبارة: "لا ينبغي مهاجمة مدينة تشرف، من الأمام، على واد جبلي عميق الغور، ويحوطها من الخلف جبل مديد في الارتفاع، فهي مدينة منيعة تتحدى الاختراق".
وفي التكتيكات العسكرية الحديثة، ثمة قاعدة تقول إنه لاقتحام مدينة محصنة بتضاريسها وبمقاتلين من أبنائها، فإنه يجب أن يكون لدى الطرف المهاجم ضعف عدد مقاتلي المدينة وضعف معداتهم العسكرية، وأن يتفوق عليهم في الشجاعة والإقدام والخبرات العسكرية، لأن الطرف المهاجم هو الأكثر خسارة من حيث العدد والعدة ويجب أن يعد نفسه جيدا لهذه الخسارة الجسيمة والمردود الضعيف، وهو ما يستحيل في حالة مدينة تعز، ويفسر خوف الحوثيين من كلفة المعركة واللجوء للحصار كخيار قليل التكلفة وانتظار نتائجه.
لا يبدو أن مليشيا الحوثيين ستوافق على رفع الحصار ولو جزئيا عن مدينة تعز مهما كانت الضغوط الدولية ومعاناة سكان المدينة، فالمليشيا الحوثية بلا مرجعية أخلاقية حتى يمكن الرهان على استجابتها للضغوط الدولية لفتح بعض الطرق والمعابر إلى المدينة، ويزيد من أحقاد الحوثيين على تعز، أن تلك المحافظة التي ترتفع فيها نسبة الوعي والتعليم، تحاصر المشروع الحوثي الإمامي الكهنوتي عبر معركة الوعي من خلال وسائل الإعلام وغيرها.
كما أن أبناء تعز يتواجدون في مختلف جبهات الحرب ضد الحوثيين، بما فيها الجبهات الحدودية دفاعا عن السعودية رغم خذلانها لهم، كما يشكل الجيش الوطني في تعز رافدا مهما للجبهات الأخرى عندما تشتد المعارك فيها، كما حصل عندما عزز الجيش في تعز جبهة مأرب بمقاتلين من أفراده خلال محاولة الحوثيين السيطرة على محافظة مأرب العام الماضي، وهكذا تحضر محافظة تعز كعنصر توازن مهم في معادلة الصراع، مهما كان حصار العدو وخذلان الصديق.