تقارير

مكبّ الضباب.. قنبلة بيئية موقوتة في قلب تعز

29/05/2025, 14:00:45
المصدر : خاص

في المدخل الجنوبي الغربي لمدينة تعز، وتحديدًا في منطقة الضباب، تعيش عشرات العائلات ظروفًا بيئية قاسية. إذْ تحيط بهم المخلفات والانبعاثات الضارة والروائح الكريهة من موقع لتجميع النفايات، ما حوّل حياتهم إلى معاناة يومية.

وفي تحقيق استقصائي بعنوان "نفايات الحصار"، تتبّعت قناة "بلقيس" واحدة من أخطر الأزمات البيئية في تعز، حيث تحوّل مكب تم إنشاؤه كحل مؤقت إلى مصدر دائم للتلوث، مهددًا سلامة السكان ومحيطهم الطبيعي.

يتواجد هذا المكب وسط عدد من القرى المأهولة، ما جعله بُؤرة لانتشار الأمراض وتفشي العدوى، في ظل تجاهل الجهات المعنية وفشلها في اتخاذ أي إجراءات حقيقية لاحتواء الكارثة أو التخفيف من آثارها المتفاقمة.

أسرة سلطان البريهي استقرت في المنطقة منذ أكثر من 12 عامًا، وكانت تنعم بحياة طبيعية، لكن مع إنشاء المكب على بُعد لا يتجاوز 340 مترًا، تحوّلت حياتهم إلى صراع يومي مع الأمراض، خاصة التنفسية منها.

يقول البريهي، وهو أب لطفلة تعاني من الرَّبو: "ابنتي أسيل عمرها خمس سنوات، منذ ولادتها وهي تعاني من الربو، تعيش على جهاز تنفّس صناعي بشكل دائم".

وأضاف: "نحن جميعًا في المنزل نعاني من الأعراض نفسها، نستخدم أدوية الربو باستمرار، ولا فائدة من الشكاوى أو المناشدات".

وتابع حديثه لقناة "بلقيس" بحرقة: "الدخان والروائح تهاجمنا يوميًا، وسوائل النفايات تصل إلى الشوارع. لا نستطيع نشر الملابس في الخارج، ولا حتى فتح النوافذ. الأطفال لا يمكنهم العيش بشكل طبيعي، نحن محاصرون فعليًا".

الصورة ليست أفضل لدى خالد علي، أحد سكان المنطقة، الذي يشكو، قائلًا: "الدخان هذا هو هواؤنا اليومي، ولا ندري متى سينقلوها ونتنفس هواء أو أكسجين نقي، الدخان متواصل يدخل إلى البيوت وغرف النوم".


-أمراض مزمنة

هذه المشكلة البيئية تحوّلت إلى كارثة صحية. فقد أُصيب عدد من السكان بأمراض مزمنة وخطيرة، من بينها "السرطان"، كما هو الحال مع عاقل حي وادي الأمان، صبري الحمادي، الذي أُصيب بسرطان الغدة بعد عام فقط من إنشاء المكب.



يقول الحمادي: "سكنت هنا وأنا بصحتي، وبعد القمامة أُصبت بالسرطان، وسافرت إلى مصر لاستئصاله، الأطباء قالوا لي إن المرض سيتكرر طالما أعيش قرب هذه القمامة".

وأضاف: "لست الوحيد المريض في المنطقة، بل نصف الحي يعاني من أمراض مختلفة. هناك امرأة مصابة بالسرطان، وأخرى في الحي الأسفل تعاني من نفس المرض، كما يوجد شخص معاق، وجميع هذه الحالات ناجمة عن الأدخنة الملوثة".

تؤكد إفادات الأطباء في المنطقة ازدياد حالات الأمراض التنفسية والجلدية، خصوصًا بين الأطفال وكبار السن، وسط تحذيرات من كارثة صحية أوسع في حال استمرار تجاهل السلطات للمشكلة.

الطبيب محمد عون يؤكد لـ"بلقيس" وجود زيادة كبيرة في عدد المرضى الذين يعانون من التهاب وتحسس الجيوب الأنفية والأمراض الصدرية، مشيرًا إلى أن معظم الحالات كانت معقدة وشديدة الالتهاب، مع وجود أكياس قيحية في الجيوب الأنفية، إضافة إلى التهابات حادة جدًا تصيب الأطفال وكبار السن على حد سواء.

ويحذّر: "إذا لم يتم معالجة هذا الوضع، قد يؤدي هذا الالتهاب المزمن إلى حدوث أمراض سرطانية بالجهاز التنفسي".

-من مقصد سياحي إلى مكب نفايات

قبل اندلاع الحرب في البلاد، كانت هذه المنطقة المُسمّاة بحدائق الصالح، أو حدائق الشهاب، وجهة سياحية بارزة، يقصدها الزوّار من مختلف مديريات تعز والمناطق المجاورة. لكن مع اجتياح مليشيا الحوثي تعز، تم تحويل المنطقة إلى ثكنة عسكرية.



في أغسطس 2016، بعد تحرير المنطقة من قبضة الحوثيين، تحوّلت إلى مأساة، حيث أصبحت حدائق الصالح مَقلَبًا لنفايات المدينة، رغم اعتراض مالكها أمين شهاب، الذي يقول بحسرة: "في البداية ضُرب المكان بالطيران كاملًا بالمدفعية.. قلنا: خلاص، هذا فداء للوطن، أملاكنا ليست بأغلى من جزمة مقاتل في الجبهة، وهذه ضريبتنا، لكن ما آلمنا هو تحويلها إلى قمامة قصدًا"، حد تعبيره.

وأشار إلى أنه عرض 500 "قصبة" من الأرض -جوار الحدائق- على مدير مكتب النظافة والتحسين آنذاك، حسين المقطري، لكن الأخير رفض: "قالوا لا، ليس كما تريد".

فرض حصار الحوثيين على تعز، وإغلاق جميع المنافذ، بما في ذلك منع شاحنات النفايات من الوصول إلى المكب الرئيسي في مفرق شرعب (الواقع تحت سيطرتهم)، على السلطة المحلية التابعة للحكومة الشرعية اختيار حدائق الصالح كمكب "مؤقت".

هذا القرار، الذي كان اضطراريًا في بدايته، استمر تسعة أعوام، ليتحوّل المكب المؤقت إلى كارثة بيئية وصحية دائمة.

تقول افتهان المشهري، مديرة مكتب النظافة والتحسين في تعز: "المقلب الكائن في الضباب كان مقلبًا اضطراريًا في بداية أحداث الحرب، كان لا بُد من اختيار السلطة المحلية أي مكان ينقذ المدينة من وباء القمامة المتناثرة".

-مخالف للمعايير البيئية

يتربّع مكب النفايات على تلٍّ يطل على قرى "المِقْهَاية، عُقَاقَة، الجُبالي، والضباب"، وهي مناطق آهلة بالسكان. تتجاوز مساحته 21 ألف متر مربع، ويقع على ارتفاع 1200 متر، ولا يبعد سوى 120 مترًا عن أقرب منزل.



هذه المعطيات تتعارض كليًا مع المعايير البيئية العالمية لاختيار مواقع مكبّات النفايات.

يقول الدكتور وديع الشرجبي، أستاذ علوم البيئة في جامعة تعز: "هذا المكب من أسوأ الخيارات التي تمت سابقًا، على اعتبار أن هذا المكان سيكون لفترة مؤقتة؛ لأنه لا تنطبق عليه أي شروط من الاشتراطات الواجب توفرها في اختيار مقلب أو مكب للنفايات".

وأوضح أن "المكبات يجب أن تكون في أماكن منخفضة، لا تتجاوز 100 متر عن سطح البحر، وأن تكون بعيدة عن التجمعات السكانية بمسافة لا تقل عن كيلومتر واحد، وتصل إلى خمسة كيلومترات في بعض المعايير والاشتراطات، خاصة بمنظمة الصحة العالمية، ومنظمة الصحة الأمريكية، والمنظمة الأوروبية للبيئة".

-توسع مستمر

تُظهر صور الأقمار الاصطناعية توسعًا مستمرًا للمكب على مدى تسعة أعوام، مما يعكس الزيادة المستمرة في كمية المخلفات.

كما أظهرت الصور تسرب مركّبات النفايات السامة إلى المناطق المحيطة، مما أحدث تغيرًا في لون التربة.

يقول عاقل المنطقة، صبري الحمادي، إن "سائلًا أسود اللون يتسرب باستمرار من مكب النفايات"، واصفًا رائحته بأنها "نفاذة وغريبة تشبه المواد الكيميائية السامة".

وأضاف: "لا يمكن النوم ليلًا بسببها، فكيف حال من يعيشون بجواره مباشرة؟ هذا السائل كان يصل إلى الشارع العام، والدولة تكتفي بالمشاهدة".

تتفاقم الكارثة مع حلول موسم الأمطار، حيث تتسرّب عصارة النفايات السامة، التي تحتوي على مواد سامة ومعادن ثقيلة ذات تأثيرات مسرطنة.



يقول المهندس بدري محمد، مدير مكتب هيئة حماية البيئة في تعز، الذي كان جزءًا من الفريق المكلف بمعاينة المركبات المتسربة من المكب، إن "هذه العصارة تتسرب باتجاه آبار المياه".

وأضاف لقناة بلقيس: "تلقينا عدة بلاغات من السكان المحليين، وأيضًا رسالة من صندوق النظافة حول وجود تسرّب عصارة مكب القمامة (...)، ورفعنا عدة تقارير للسلطة المحلية بضرورة إغلاق هذا المقلب، ومعالجته بحيث يتحوّل إلى صديق للبيئة".

بدوره، يقول الدكتور وديع الشرجبي إن "السوائل المتسرّبة من مكب النفايات هي عصارة مركّزة تحتوي على مواد سامة ومعادن ثقيلة معروفة بتأثيراتها المسرطنة، وتُسبّب أضرارًا بالغة للدماغ والكبد والكلى".

وأضاف: "لم تُتّخذ أي إجراءات لمعالجة هذه السوائل، بل تُركت تتدفّق بفعل الجاذبية نحو الأودية، ما أدى إلى تلوث عدد من الآبار القريبة، وجعل استخدامها غير ممكن".

-تلوث التربة

على بُعد مسافة قصيرة من مكب النفايات، يقع وادي الضباب، الذي يُعتبر من أبرز الوجهات السياحية في مدينة تعز، حيث ينجذب الزوار إلى جمال طبيعته الخلابة ومياهه الوفيرة.



يضم هذا الوادي آبار المياه الجوفية التي تُعدّ المصدر الرئيس لتلبية احتياجات مدينة تعز من المياه في الوقت الحالي.

يحذّر الدكتور محمد مرشد الحِميري، أستاذ البيئة والتنمية في جامعة تعز، من كارثة بيئية ناتجة عن حرق النفايات وتسرب عصارتها إلى الوادي المحيط بالمكب، وهو منطقة زراعية مأهولة بالسكان، وتحتوي على آبار كانت تُستخدم سابقًا للشرب.

ويؤكد أن دراسات حديثة وفحوصات مخبرية أثبتت تلوث هذه المياه بشكل كامل، مما يجعلها غير صالحة للاستخدام.

من جانبها، تقول افتهان المشهري إن المقلب، الذي أُنشئ بشكل مؤقت قبل عشر سنوات، اتسعت مساحته بشكل كبير، وتحول إلى كارثة بيئية تهدد المدينة بأكملها، بما في ذلك مصادر المياه في منطقة الضباب.



وأضافت أن "السلطة المحلية تدرك خطورة الوضع، لكنها لم تتمكن من التوصل إلى اتفاق مع الطرف الآخر للسماح بمرور شاحنات القمامة إلى المكب الرئيسي، ما اضطرها إلى الإبقاء على المقلب الحالي كخيار اضطراري".

-مياه الشرب في خطر

فحوصات مخبرية لعيّنات من آبار وادي الضباب أكدت وجود تلوث بكتيري واضح، وارتفاع تركيز الفلوريد، وتجاوزه الحد المسموح به، ما يثبت أن المياه أصبحت غير صالحة للاستخدام البشري.

يقول المهندس وديع الحميدي، مسؤول مختبرات مؤسسة المياه في تعز، في تصريح لقناة "بلقيس": "نتائج تحاليل عينات المياه من منطقة الضباب، المحاذية لمكب نفايات حدائق الصالح، أظهرت تلوثًا بكتيريًا واضحًا وارتفاعًا في تركيز بعض العناصر، أبرزها الفلوريد، الذي يسبب هشاشة العظام واصفرار الأسنان، إلى جانب الفوسفات الناتج عن استخدام المبيدات الزراعية".

وبحسب تقرير حصري -حصلت عليه قناة "بلقيس" من المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي في المحافظة- تم رصد تلوث 9 آبار من أصل 26 في منطقة الضباب.

وأضاف الحميدي: "وجود مكب نفايات في موقع حيوي مجاور لمصادر تغطي نحو 60% من احتياجات مدينة تعز من مياه الشرب يعتبر تهديدًا حقيقيًا للمدينة، وللجانب الصحي".

-نفايات طبية خطيرة

يتم يوميًا نقل نحو 600 طن من المخلفات الطبية والصلبة من شوارع مدينة تعز بطريقة عشوائية، ليتم رميها في مكب الضباب دون الالتزام بأي من معايير إدارة النفايات، مما يزيد من تفاقم الأزمة البيئية والصحية في المنطقة.


وخلال تتبّع فريق التحقيق لآلية تخلّص المستشفيات والمراكز الطبية من نفاياتها، تم رصد شاحنة تجمع مخلفات طبية، من بينها مواد مرتبطة بعلاج مرضى السرطان، وتنقلها مباشرة إلى المكب.

يحذّر الحِميري من خطورة النفايات الطبية التي لا تُجمع في حاويات مخصصة، ولا تُنقل إلى محارق آمنة، بل تُخلط مع النفايات الصلبة، ويتم ترحيلها إلى مكب الضباب، ما يشكّل تهديدًا صحيًا خطيرًا.

ويؤكد أن "حرق هذه النفايات وتسرّب مكوناتها السامة إلى التربة والمياه الجوفية ساهم في ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض خطيرة في المدينة خلال السنوات الأخيرة".

من جهتها، تقول افتهان المشهري، مديرة مكتب النظافة والتحسين، إن "بعض المستشفيات أنشأت محارق صغيرة، لكنها لا تفي بالغرض للتعامل مع الكميات الكبيرة من المخلفات الطبية".

وأضافت: "المقترح بإنشاء محرقة مركزية داخل المقلب ما زلنا نتردد فيه؛ كون المقلب لم يعد صالحًا أو لم يعد أصلًا يتّسع لكمية القمامة الزائدة".

-حلول مفقودة ومستقبل غامض

حتى اللحظة، لم تتخذ السلطة المحلية أي خطوات فعالة لمعالجة هذه الكارثة البيئية المتفاقمة.

ورغم محاولات متعددة للتفاوض مع جماعة الحوثي من أجل السماح بمرور شاحنات القمامة إلى المكب الرئيسي، إلا أن هذه الجهود باءت بالفشل؛ نتيجة رفض الطرف الآخر، ما فاقم الوضع وزاد من حجم التلوث والمخاطر الصحية.



بشأن الحلول المستقبلية والخيارات البديلة لحل هذه المشكلة، تقول مديرة صندوق النظافة والتحسين في المحافظة، افتهان المشهري، إن السلطة المحلية استعانت بهيئة الأراضي للبحث عن مقلب بديل، وقد وجدت أرضية قريبة من طريق خط المخا.

وأضافت: "في القريب العاجل، سيكون هناك مقلب لتعز خارج المدينة بشكل كامل، يتم رمي النفايات فيه لجميع المديريات، وليس فقط لمديرية المدينة".

لكن السؤال الأكثر إلحاحًا يبقى: "إلى متى سيظل هذا الحصار يدفن أحلامهم تحت أكوام النفايات؟ وكيف يمكن للسلطات تجاهل مأساة كهذه؟".

فكل نَفَس يُستنشق في هذه المنطقة يحمل معه خطرًا يمتد لسنوات، في ظل صراع السكان بين البقاء والاختناق.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.