تقارير
مناجم المِلح الصّخري.. حياة العمّال مقابل أحلامهم في صحراء مأرب
في قلب صحراء مأرب الشاسعة، حيث تمتد الرمال مد البصر وتتصاعد درجات الحرارة لتلامس السماء، يقف العمَّال تحت لهيب الشمس الحارقة، يحملون معاولهم وأدواتهم البدائية في رحلة شاقة لاستخراج كنز طبيعي من تحت رمال الصحراء في مناجم جبال المِلح الصخري شرق اليمن.
الرّمال الذهبية، التي تحمل في طياتها ثروات من الملح النّقي، جذبت عمالاً من أصول صومالية ومهاجرين آخرين، يعملون فيها بحثا عن حياة أفضل ومصدر دخل، غير أن هذه الأحلام تتلاشى تحت وطأة العمل الشاق والدخل الزهيد.
يعمل محمد حسين -صومالي الجنسية من مواليد اليمن (24 عام)، وآخرون بكدٍ وتفانٍ يوميا، محاولين كسب قُوت يومهم عبر استخراج الملح الصخري، الذي يملكه تجار يمنيون، دون أن تلمس جهودهم دعما من السلطات المحلية أو من الحكومة.
مع أول خيوط الشمس، التي تشق ظلمة الليل، يتجمّع العمّال في مواقع التنقيب، يعبرون الدروب الرّملية الوعرة، حاملين أدواتهم البسيطة، ليبدأوا يوما جديدا من الكدح تحت أشعة الشمس، التي لا ترحم؛ تقودهم طموحاتهم وأحلامهم البسيطة، رغم قسوة الظروف التي تحيط بهم.
في هذا المكان، تتجلَّى الروح الإنسانية في أبهى صُورها، حيث تتشابك قصص الكفاح والأمل مع قسوة الطبيعة وعزيمة البشر.
- كدمات وإصرار
يتحدّث محمد، في لقاء مع موقع "بلقيس"، عن صعوبات الطبيعة في منطقة "الثنيّة"، التي تبعد نحو 40 كم عن مركز مدينة مأرب، حيث تنعدم كل خدمات العيش عدا جبال الملح وكثبان الرِّمال المتطايرة.
تراكمت على أيادي محمد الشاحبة كدمات عِصيّ معاول التكسير والحفر في مناجم الملح، الممتدة على مساحة أكثر من أربعة كيلو مترات في بطن صحراء منطقة "الثنيَّة"، الواقعة في الأجزاء الجنوبية من صحراء الرّبع الخالي شرق اليمن.
يعمل محمد، منذ أكثر من عام، في التنقيب عن الملح الصخري في صحراء مأرب، ويرتكز عمله على الحفر وتفجير أحجار المِلح، وتفتيتها، وحمل أكياس الملح إلى المركبة، التي تنقل الملح إلى الأسواق المحلية.
حرارة الصحراء صيفا وبردها شتاء زادا من حِدّة معاناة محمد ورفاقه (عمّال استخراج الملح الصخري)، لكن الحاجة إلى المال لتوفير لقمة العيش لأسرته دفعته إلى التحمَّل والمكابرة أمام كل الصعوبات والتحدِّيات..
يقول محمد لموقع "بلقيس": "العمل متعب جدا، ويحتاج جهودا كبيرة في حمل مطرقة تكسير أحجار الملح، وكذلك الحفر والتنقيب عنه، وحمل أكياس الملح إلى مسافة بعيدة، حيث تنتظر الدِّينّة التي تنقل الملح إلى الأسواق".
يعمل محمد ورفاقه الثلاثة، العاملون في واحد من أربعة مناجم لاستخراج الملح الصخري في منطقة الثنيَّة، على حمل 400 كيس من الملح، عملوا على جمعه وتنظيفه واستخراجه خلال يومين، حيث يستخرجون في اليوم الأول الملح، وفي اليوم التالي يعملون على تجميعه وتنظيفه وتوزينه وتعبئته في أكياس ثم حمل تلك الأكياس فوق دِينَّة تأتي كل يومين لنقل جهودهم؛ للانتقال إلى مرحلة أخرى من الإعداد والبيع.
- أدوات بدائية
يعمل محمد بيديه وأدوات بدائية لاستخراج الملح الصخري، ولا يملك أدوات وقاية أو أدوات سلامة في صحراء تفتقر إلى خدمات الإسعاف الأولية، ووسائل النقل التي قد يحتاجها العمال إذا ما تعرضوا لمخاطر؛ مثل سقوط المنجم، أو سقوط أحجار الملح الكبيرة عليهم.
"المطرقة، وبارود تفجير جبال الملح، ومحرك كمبريشان للحفر في جبال الملح الصلبة، وفتح ثقوب يتم تعبئتها بالبارود لتفجيرها، وأكياس تعبئة الملح الجاهز للنقل وميزان الكيل"، هذا كل شيء بالنسبة لأدوات استخراج الملح بأيدي محمد ورفاقه.
يتناول العمّال وجبات معلَّبة طوال أيام بقائهم في المناجم، التي قد تطول أكثر من شهر في الصحراء، وينامون في خيمة صغيرة، نُصِبت على أعلى تلَّة صغيرة من المِلح، حسب وصف محمد.
- مراحل إنتاج المِلح
تمر مراحل إنتاج المِلح الصخري بمراحل، حيث يعمل محمد ورفاقه على الحفر أولا للوصول إلى أحجار الملح، ثم البدء بتلغيم الأحجار الكبيرة وتفجيرها؛ لتفكيكها وإحداث فجوة للدخول منها إلى وسط جبل الملح، ثم تكسير أحجار الملح الكبيرة، وتفتيتها، ثم تعبئتها في أكياس خاصة، ووزنها بميزان (كل كيس 25 كج)، ثم نقل تلك الأكياس في "دِينّة" إلى السوق المحلية.
لكن، رغم الجهود المضنية، يبقى الدخل، الذي يحصلون عليه، شحيحًا، لا يعكس حجم الجهد المبذول، ولا قيمة المِلح الذي يستخرجونه.
يقول محمد إنه ورفاقه يتقاضون 150 ريالا يمنيا (8 سنتات من الدولار الواحد) مقابل إنتاج 25 كم من الملح (كيس ملح يزن 25 كم)، وينتج محمد ورفاقه، خلال يومين من العمل، "400 كيس" (20,800 كيلو جرام).
يضيف محمد: "يوم حفر وتكسير وتفتيت، ويوم كيل وتعبئة، ونقل الملح إلى ظهر الدِّينّة".
- مناجم متوارثة
امتلك عبدالكريم مرضي منجم الملح في صحراء مأرب وراثة عن والده، الذي عمل فيه خلال السنوات الماضية، ويعمل فيه اليوم مشرفا على عمّال استخراج المِلح الذين يتقاضون أجرهم الزهيد من جهد أياديهم.
يقول عبدالكريم إنه يعمل في استخراج الملح من المنجم، منذ نحو 11 عاما، بعد تقاعد والده عن العمل في استخراج الملح في المكان ذاته.
وأوضح أن أسعار الملح تغيَّرت إلى الأفضل، حيث بات اليوم يبيع الكيلو الواحد بمبلغ 60 ريالا يمنيا (الكيس الواحد من الملح البالغ وزنه 25 كم ب1500 ريال يمني)، فيما كانت أسعار الكيلو الواحد لا تتجاوز ثلاثين ريالا.
وأشار إلى أن الإقبال على المِلح الصخري واسع، وعليه طلبات تتزايد في كل مرحلة.
يقول: "بمجرد خروجنا بالحَمْلَة من المِلح الصخري من الصحراء نتلقَّى الاتصالات من التجار ومُلاك مطاحن الملح، طالبين توصيلها إليهم".
وأضاف: "نعمل على توزيع الكمية كل يومين لتاجر أو لاثنين، ونبيع الكميات جميعها في سوق مأرب فقط".
- عشوائية وغياب حكومي
من جهته، يقول الشيخ القبلي عبدالله شودق -يعمل في استخراج موارد طبيعية في منطقة الثنيَّة ومطّلع على عمليات استخراج المِلح- إن "عملية استخراج الملح لازالت بدائية، ولم تتوفّر شركات استثمارية لاستخراج المِلح بطرق حديثة، وتمر بمراحل الطحن، والتغليف والتسويق".
وأوضح: "عمليات استخراج المِلح عشوائية، وغير مرتّبة أو مرخّصة من قِبل السلطات المحلية، أو من قِبل الجهات الحكومية".
وتابع: "أي شخص يأتي يبحث له عن جبل من المِلح، ويبدأ بالاستخراج والبيع دون أي تراخيص عمل، أو إشراف حكومي، أو أي مردود للدولة".
واعتبر أن "ما يحصل في صحراء مأرب عشوائية كاملة في العمل، وتجاهل كلي من قِبل الجهات المعنية بالموارد الطبيعية، بخلاف النّفط فقط".