تقارير

أحداث يناير 1986 الدامية.. من الجذور إلى تأثيراتها الراهنة

14/01/2023, 16:05:09
المصدر : عبدالسلام قائد

لم تكن أحداث 13 يناير 1986 وليدة لحظتها، وإنما سبقتها صراعات وتصفيات دموية بين الرفاق بدأت منذ سنوات النضال ضد الاحتلال البريطاني بعد اندلاع ثورة 14 أكتوبر 1963، ومثلت تلك الأحداث ذروة العنف بين الإخوة الأعداء، وما تزال تداعياتها وتأثيراتها مستمرة حتى يومنا هذا، فمسلسل التصفيات الدموية والاصطفاف المناطقي يبرز كل مرة يشهد فيها جنوب اليمن اضطرابات سياسية أو عسكرية.

وتطل أحداث 13 يناير بأشباحها الدموية كلما برزت مطالب الانفصال إلى الواجهة، لأن جنوب اليمن لم يشهد استقرارا ويتوقف مسلسل العنف البيني إلا بعد قيام الوحدة اليمنية عام 1990، ويرى المكتوون بتلك الأحداث أن الوحدة اليمنية تمثل طوق نجاة لأبناء الجنوب من العنف والتوحش، الذي برزت بعض ملامحه خلال أحداث أغسطس 2019 في عدن، من خلال مشاهد تعذيب الأسرى وسحل الجثث والتصفيات الدموية لدوافع مناطقية.

ورغم تعدد الصراعات والحروب الأهلية في مختلف حقب تاريخ اليمن، إلا أن أحداث 13 يناير 1986 في الشطر الجنوبي قبل الوحدة لها أثر ووقع خاص، وتأثيرها الممتد حتى اليوم يكمن في مسبباتها ودوافعها وغرابتها وطبيعة الانقسامات التي مهّدت لها، كما أن سطحية تناول تلك الأحداث من قِبَل كثير من الباحثين لم يساعد على فهم الجذور العميقة لأزمة السلطة في اليمن، فإذا كانت أزمة السلطة قد أحرقت تحت نيرانها أكثر التجارب البشرية تقدّما حتى تلك اللحظة، وفق مزاعم أنصارها، أي التجربة الماركسية، فكيف إذن يمكن التعويل على تجارب أخرى لحسم مسألة السلطة من حيث التداول والشراكة، لاسيما أن جميع الصراعات والحروب الأهلية في اليمن كان سببها الرئيسي يتمحور حول السلطة.

ولا يبدو أن تبعات أحداث 13 يناير 1986 سيطويها النسيان، ليس فقط بسبب أنه لم تظهر دولة وطنية حديثة ترمم الجراحات التي أفرزتها الصراعات الماضية، ولكن لأن دورات العنف المتجددة تعيد إنتاج الماضي بكل مساوئه، وهو ما يمثل أبرز العوائق أمام أي محاولات لنقل البلاد إلى مرحلة الدولة الحديثة، التي تكفل لجميع مواطنيها مختلف الحقوق، وفي مقدمتها الحقوق السياسية، وخلق هوية وطنية جامعة تذوب فيها مختلف الهويات الفرعية والأولية، خصوصا تلك الهويات التي تبرز كفواعل للعنف ونسف الشراكة والتسلط، وتستجر معها صراعات الماضي، وإعاقة أي محاولات للتوافق على عقد وطني جديد يلملم شتات المجتمع، ويعيد هيكلته في انتماءات جديدة كالأحزاب والمنظمات الجماهيرية، التي تذوب فيها الانتماءات الأولية كالمناطقية والقبلية والمذهبية أو الطائفية.

- التأثير الممتد لأحداث 13 يناير

لسنا هنا بصدد سرد الأحداث التي دارت يوم 13 يناير 1986، وفي الأيام التالية له، فتلك الأحداث معروفة بصرف النظر عن تناقض الروايات بشأنها، ولكن سنتطرق إلى الجذور الأولى لتلك الأحداث التي مثلت ذروة الصراع على السلطة، وإلقاء نظرة على الوضع السياسي والأمني في الشطر الجنوبي قبل تلك الأحداث وبعدها، وربط تلك الأحداث ببعضها، لمعرفة مدى تأثيرها في الانقسامات التي تعصف اليوم بجنوب البلاد، بعد أن تعمد التحالف السعودي - الإماراتي تشكيل مليشيات انفصالية ذات انتماءات قروية ومناطقية ضيقة، تشبه في هياكلها المليشيات الحزبية التي كان لها دور كبير في أحداث 13 يناير 1986.

وبذلك يكون التحالف السعودي - الإماراتي قد أعاد لجنوب اليمن أشباح أسوأ حرب أهلية دموية دمّرت البلاد والاقتصاد والمجتمع، وما تزال تثير المخاوف وتؤجج الانقسامات وتشيع الرعب في أوساط العامة. والمؤسف أنه لا توجد على الأقل بوادر لحرف الصراع بعيدا عن ثارات الماضي تجنبا لاندلاع أحداث 13 يناير جديدة تكون أسوأ من سابقتها، لتطور أدوات العنف والقتل والفرز المناطقي، يضاف إلى ذلك تراكم الشحن المناطقي والقبلي العصبوي والاستعدادات الجارية لأسوأ الاحتمالات، لاسيما بعد اعتزام أبناء حضرموت تشكيل فصائل مسلحة وتدريبها للدفاع عن المحافظة بعد تهديدات المجلس الانتقالي بالسيطرة عليها.

- التجربة الماركسية والصراع على السلطة

رغم قصر تجربة الشطر الجنوبي في تبنّي الماركسية كأيديولوجية ونظام سياسي ونمط تحالف دولي وإقليمي بعد خروج آخر جندي بريطاني من جنوب اليمن في 30 نوفمبر 1967، واستمرت حتى قيام الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990، إلا أن تلك التجربة كانت ثرية بأحداثها وتفاعلاتها في منطقة شديدة الحساسية على صعيد الإستراتيجية الدولية، لإشراف الشطر الجنوبي من اليمن حينها على مضيق باب المندب، باعتباره من أهم المضايق الحيوية للتجارة الدولية، وورقة مؤثرة في الحسابات الدولية، خصوصا في مرحلة الحرب الباردة، وهي الحرب التي تطل برأسها اليوم من جديد بعد غزو روسيا لأوكرانيا، وتنامي التهديدات للملاحة الدولية جراء الحرب في اليمن وتمدد النفوذ الإيراني في المنطقة.

لم تكن أحداث 13 يناير الأولى أو الوحيدة في مسلسل الصراع على السلطة في الشطر الجنوبي من اليمن، وإنما بدأ الصراع بعد اندلاع ثورة 14 أكتوبر 1963 ضد الاحتلال البريطاني، أي أن الصراع على كرسي الحكم بدأ خلال النضال ضد الاحتلال، وقبل أن تكون هناك سلطة تحفز الصراعات عليها، حيث كان هناك طرفان رئيسيان يقودان النضال ضد الاحتلال البريطاني هما الجبهة القومية وجبهة التحرير، وكانت الجبهة القومية قد خرجت من رحم حركة القوميين العرب، وصارت يسارية أكثر من الحركة الأم.

أما جبهة التحرير فقد كانت مدعومة من جمال عبدالناصر، وكان يأتيها الدعم مباشرة من القوات المصرية الموجودة في الشطر الشمالي بعد اندلاع ثورة 26 سبتمبر 1962، لكن مسار الأحداث حينها لم يكن في مصلحة جبهة التحرير، فبعد هزيمة 1967، واتفاق مصر والسعودية على خروج القوات المصرية من شمال اليمن، لم تعد جبهة التحرير تتلقى الدعم من جمال عبدالناصر، كما أن بريطانيا عملت للحيلولة دون تولي جبهة التحرير السلطة بعد الاستقلال في عدن لكي لا يبدو أن ذلك انتصارا لجمال عبدالناصر، وأصرت على التفاوض مع الجبهة القومية ليؤول إليها حكم جنوب اليمن رغم أنها كانت أكثر يسارية وتشددا في انتمائها القومي من جبهة التحرير.

بدأت التصفيات الدموية بين مختلف الأطراف الجنوبية منذ وقت مبكر خلال النضال ضد الاحتلال البريطاني، مما دفع قادة جبهة التحرير للخروج إلى مصر، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فرفاق الأمس الذين تكتلوا ضد جبهة التحرير، سرعان ما دبت الخلافات فيما بينهم بدءا من العام 1969، وبدؤوا مسلسلا جديدا من التصفيات المتبادلة، كان أبرز ضحاياه أول رئيس للشطر الجنوبي، وهو قحطان الشعبي، بعد انقلاب قاده سالم ربيع علي (سالمين)، وأُطلِق على ذلك الانقلاب الدموي "الحركة التصحيحية".

واتضح فيما بعد أن ذلك الانقلاب نفذه الجناح اليساري المتشدد في الجبهة القومية ضد الجناح المعتدل، وبدأ هذا الجناح بتلقي الدعم من الاتحاد السوفييتي السابق والصين الشعبية رغم العداء المستحكم بين الدولتين اللتين كانتا تمثلان قطبي العالم الشيوعي في ذلك الوقت، وكان سالم ربيع علي يميل للصين وللماركسية الماوية، ويرى أنها الأصلح لحالة اليمن الجنوبية، في حين كان عبد الفتاح إسماعيل وآخرون يميلون إلى النموذج السوفييتي أيديولوجيا وسياسيا وعلى صعيد التحالفات الدولية.

- تحولات صراع الرفاق

وبعد الصراع الذي أفضى إلى خروج قادة جبهة التحرير إلى مصر، ثم الصراع داخل الجبهة القومية وسيطرة الجناح اليساري المتشدد على السلطة، وإعلانه التحول من الجبهة القومية إلى الحزب الطليعي وهو الحزب الاشتراكي وتبنّي الاشتراكية العلمية (أي الماركسية)، انتقل الصراع إلى داخل الجناح اليساري المتشدد نفسه، وكانت البداية من الإعلان عن تشكيل قيادة جماعية، خصوصا في ظل الاتهامات لسالم ربيّع علي بالسعي للانفراد بالسلطة، والذي تم إعدامه بتهمة التورّط في قتل رئيس الشطر الشمالي حسين الغشمي، وإفساد جهود تحقيق الوحدة التي كانت على وشك الاستئناف من جديد، لكن من المحتمل أن السبب الحقيقي لإعدام "سالمين" هو الرد على تحركه للانقلاب على القيادة الجماعية.

تمثلت القيادة الجماعية الجديدة، بعد إعدام سالم ربيّع علي، في كل من عبد الفتاح إسماعيل، الذي تحول من أمين عام للجبهة القومية إلى أمين عام الحزب الجديد (الحزب الاشتراكي)، بالإضافة إلى منصب الرئاسة خلفا للراحل سالم ربيّع علي، وتولى علي ناصر محمد منصبا مستحدثا وهو رئاسة الحكومة، وتولى علي عنتر منصب وزارة الدفاع. واللافت في هذه القيادة الجماعية الجديدة، أن عبد الفتاح إسماعيل جمع بين رئاسة الدولة والحزب، بالرغم من أنه كان يتهم سالم ربيّع علي بالسعي للانفراد بالسلطة، مع أن سالم ربيّع كانت كل سلطاته تنحصر في رئاسة الدولة دون الحزب.

لقد كان إنشاء القيادة الثلاثية في عدن استنساخا لفكرة القيادة الثلاثية التي أُعلن عنها في الاتحاد السوفييتي حينذاك، عقب إقصاء "نيكيتا خروتشوف" عام 1964، وإحلال قيادة ثلاثية محله، تمثلت في "ليونيد بريجنيف" سكرتيرا عاما للحزب الشيوعي السوفييتي، و"نيكولاي بودجورني" رئيسا لمجلس السوفييت الأعلى (رئيسا للدولة)، و"أليكسي كوسيجين" رئيسا لمجلس الوزراء.

- صراعات القيادة الجماعية

لم تنجح القيادة الجماعية الجديدة في تجنب الصراعات على السلطة، وبدأت الصراعات تتخذ منحى تصاعديا بعد الإعلان في عدن عن نفي عبد الفتاح إسماعيل إلى الاتحاد السوفييتي، وذلك بعد أن ضاق منه الآخرون بسبب تسلطه وتشدده الحزبي العقائدي، وبدا أن علي ناصر محمد هو الرابح من نفي عبد الفتاح إسماعيل، وبدأت بقية قيادات الحزب الاشتراكي تشكك في سعي علي ناصر محمد للانفراد بالسلطة في عدن، خصوصا بعد محاولته التقرب من السعودية وبقية دول الخليج العربي للحصول على دعم منها دون فائدة.

لم يقف الاتحاد السوفييتي موقف المتفرج من التطورات في عدن، فبدأ بالتحرك لتسوية الخلافات والانسجام بين القيادات خشية خسارة ذلك الحليف ذي الوضع الإستراتيجي المهم، فاستجابت القيادة في عدن لجهود الاتحاد السوفييتي وقررت عودة عبد الفتاح إسماعيل إلى عدن مجددا، بشرط تولي رئاسة الحزب فقط دون منصب رئاسة الدولة الذي بقي في يد علي ناصر محمد، وكانت هذه القيادة الجماعية الجديدة هي التي فجرت أشد الخلافات السياسية والمواجهات العسكرية الدموية في جنوب اليمن، فكيف حدث ذلك؟

- ذروة الخلافات والعنف

بدأت الخلافات تدب من جديد بين علي ناصر محمد من جهة وعبد الفتاح إسماعيل من جهة أخرى، وفي هذه المرة تمكن عبد الفتاح إسماعيل من تجميع عدد أكبر من القادة في صفه، بمن فيهم وزير الدفاع علي عنتر، وبعض القيادات الصاعدة، مثل علي سالم البيض، وحيدر أبو بكر العطاس، وسالم صالح محمد، وآخرون.

أما علي ناصر محمد، فقد بدأ يدرك أنه يفتقد للدعم داخل الحزب إلى حد كبير، وأن الأقلية داخل صفوف القيادة هي التي تؤيده، والسبب أن عبد الفتاح إسماعيل كان يحكم سيطرته على الحزب، وأنشأ مليشيات تابعة للحزب، كما أن وزير الدفاع علي عنتر كان مواليا لعبد الفتاح إسماعيل، وكان مناوئو علي ناصر يتحينون الفرصة للتخلص منه، وهو كان أيضا يتحين الفرصة للتخلص من منافسيه، وهكذا كان الطرفان على استعداد ليتخلص كل منهما من الآخر، وحانت تلك اللحظة يوم 13 يناير 1986، خلال اجتماع في مقر الحزب الاشتراكي دعا له علي ناصر محمد لتصفية خصومه جسديا، وفق رواية خصومه، وحدوث إطلاق نار أودى بحياة وزير الدفاع علي عنتر وآخرين.

كما أودى إطلاق النار بحياة عبد الفتاح إسماعيل الذي كان قد تمكن من الفرار داخل عربة مدرعة، ولم يظهر أبدا بعد ذلك، وساد اعتقاد أنه لقي حتفه وهو داخل تلك المدرعة، واندلعت حرب استمرت عشرة أيام، وانتهت بفرار علي ناصر محمد وانتصار تيار عبد الفتاح إسماعيل رغم غيابه، وقد لجأت قيادات الحزب الاشتراكي إلى قبائلها لجلب المقاتلين بعد اصطفاف تلك القيادات مناطقيا، وغابت كل شعارات "الاشتراكية" و"التقدمية"، وكانت القبلية والمناطقية "الرجعية" هي العامل الحاسم في تلك الأحداث، وما تزال تلقي بظلالها على المشهد في جنوب اليمن حتى اليوم.

لقد كانت أحداث 13 يناير 1986 بمنزلة صراع قبلي في ثوب ماركسي، ذلك أن الصراع اتخذ أبعادا مناطقية وقبلية بحتة، وهو ما يمكن ملاحظته عند التأمل في الانتماء القبلي والمناطقي للمجموعتين المتصارعتين، فأنصار الرئيس علي ناصر محمد جميعهم من أبين وشبوة وشخصيات من مناطق أخرى، وخصوم الرئيس علي ناصر الذين تمحوروا حول وزير الدفاع علي عنتر، ينتمي معظمهم إلى محافظة لحج التي كانت تضم إداريا منطقة الضالع.

ولهذا السبب نجد اليوم أبناء محافظات شبوة وأبين وحضرموت وغيرها يرفضون تسلط مليشيات المجلس الانتقالي القادمة من محافظتي الضالع ولحج، في مشهد يعيد الاصطفافات التي تشكلت خلال أحداث 13 يناير 1986، ويهدد باندلاع العنف والتصفيات الدموية وفقا لتلك الاصطفافات، جراء اعتزام ما يسمى المجلس الانتقالي الجنوبي السيطرة على جميع المحافظات الجنوبية والشرقية وإعلان الانفصال، بدعم من التحالف السعودي - الإماراتي.

خاص - بلقيس
تقارير

الحوثيون يحولون طريق دمت - مريس إلى أداة جباية.. وتصاعد المخاوف من تكريس الانفصال الاقتصادي

بعد أيام قليلة من الإعلان عن فتح طريق دمت-مريس الحيوي الذي يربط بين عدن وصنعاء، أقدمت ميليشيا الحوثي على استحداث نقطة جمركية جديدة في منطقة دمت بمحافظة الضالع. هذه الخطوة أثارت استياءً واسعاً، واعتُبرت ضربة موجعة للمكاسب الإنسانية المفترضة من إعادة فتح هذا الشريان الحيوي، كما تسببت في موجة من المخاوف بشأن تداعياتها الاقتصادية والإنسانية على المواطنين.

تقارير

لحم العيد يغيب عن فقراء اليمن .. كيف أصبح الكيلو يساوي نصف راتب؟

في أحد أحياء مدينة عدن القديمة، جلست أم يوسف، وهي أرملة خمسينية، أمام بسطة صغيرة تبيع عليها أعواد البخور وبعض الخردوات، وبيدها آلة حاسبة تحاول من خلالها “حساب المستحيل”: كم يتبقى من راتب ابنها الجندي بعد دفع إيجار المنزل وفاتورة الماء؟ وهل يمكن أن تشتري نصف كيلو لحم لأطفالها في عيد الأضحى؟

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.