تقارير

الحرب في مأرب.. القوة الصلبة ومعارك الأطراف الهشة

01/11/2021, 13:45:57

قناة بلقيس - خاص - عبد السلام قائد

بعد حوالي تسعة أشهر من أشرس هجوم شنته مليشيا الحوثيين على محافظة مأرب الغنية بالنفط والغاز، والتي تعد أهم معاقل الحكومة الشرعية ومركز الثقل الرئيسي لها، غيّرت المليشيات خطتها الهجومية، واتجهت صوب الأطراف الهشة للمحافظة لتحقق فيها انتصارات سريعة وبدون مقاومة أحيانا، حيث سيطرت على مديرية العبدية بعد حصار خانق دام أكثر من ثلاثة أسابيع، ثم سيطرت على أجزاء من مديرية الجوبة، ودخلت مديرية جبل مراد بدون قتال، بعد اتفاق مع الأهالي بذريعة تجنيب منطقتهم ويلات الحرب والدمار.

لقد فشلت المليشيا الحوثية في دخول مدينة مأرب واقتحام المناطق التي تتواجد فيها ثروات النفط والغاز في المحافظة بعد عدة أشهر من المواجهات العنيفة، ثم اتجهت صوب مديريات لا تتواجد فيها قوات من الجيش الوطني، ولا تمتلك المقاومة الشعبية فيها الإمكانيات التسليحية الكافية للتصدي للمليشيات الحوثية. ونتيجة لذلك الفشل، فقد غيرت المليشيات خطتها الهجومية باستغلال ثغرات مكشوفة في الأطراف الهشة، كتكتيك عسكري بديل للتغطية على فشلها في تحقيق هدفها الرئيسي من الهجوم.

- لماذا معركة مأرب مصيرية؟

بدت معركة مأرب الحالية منذ اندلاعها كمعركة مصيرية، كون محافظة مأرب تمثل مركز الثقل للسلطة اليمنية الشرعية، بينما أعدت مليشيا الحوثيين لتلك المعركة كل طاقاتها وقدراتها التسليحية، وقد راهنت أطراف عدة محلية وأجنبية على سقوط محافظة مأرب كاملة بيد الحوثيين، كون ذلك سيترتب عليه رسم السيناريو التالي الذي يريد التحالف السعودي الإماراتي تمريره في اليمن، لكن صمود الجيش الوطني والمقاومة الشعبية أحبط كل الرهانات، حتى وإن كانت المعركة ما زالت مستمرة، لكن تراجع الحوثيين أمام القوة الصلبة للجيش الوطني واتجاههم لتحقيق انتصارات في الأطراف الهشة للمحافظة، يعني أنهم عجزوا بالفعل عن السيطرة الكاملة على محافظة مأرب، ولم يعد لديهم ما يقدمونه أكثر مما قدموه من تضحيات وما تكبدوه من خسائر خلال الأشهر الماضية، بعد أن ألقوا بكل ثقلهم في المعركة.

وفي الحقيقة، لقد أديرت معركة معركة مأرب باحترافية من قبل الجيش الوطني، الذي بدا لديه معرفة كاملة بخطط الحوثيين للسيطرة على المحافظة، وتعامل معها بمسؤولية، علما بأن مليشيا الحوثيين أدارت هي الأخرى معركتها بخطة خطيرة ظهرت فيها بصمات الحاكم العسكري الإيراني للمليشيا الحوثية في صنعاء حسن إيرلو، المنتحل صفة "سفير"، ولولا تعامل الجيش الوطني مع المعركة بكفاءة واحترافية لكان الحوثيون قد سيطروا على المحافظة خلال مدة زمنية قصيرة، وما يزال الأمر يتطلب من الجيش الوطني يقظة دائمة.

كانت معركة مأرب هي معركة الحوثيين المؤجلة منذ بدء الحرب في البلاد قبل سبع سنوات، رغم أنها كانت من أوائل المحافظات التي لوّح الحوثيون وحليفهم السابق علي عبد الله صالح بإخضاعها والسيطرة عليها طمعا في ثرواتها النفطية والغازية، غير أن استعدادات أبناء قبائل محافظة مأرب، والحشود المسلحة في ما تسمى "المطارح"، وغير ذلك من الاستعدادات لمواجهة الحوثيين في حال قرروا السيطرة الكاملة على المحافظة، كل ذلك جعل الحوثيين يحجمون عن التقدم نحو مأرب، تحت ضغط مخاوف من أن تستنزف المعركة هناك قدراتهم القتالية، وبالتالي إضعافهم، مما سيولد هشاشة وضعفا لديهم في مختلف الجبهات.

- مأرب معركة الإيراني إيرلو

بعد وصول الحاكم العسكري الإيراني للحوثيين حسن إيرلو إلى العاصمة صنعاء، في منتصف أكتوبر 2020، منتحلا صفة "سفير" لبلاده لدى الحوثيين، ظهرت بصماته كخبير عسكري كبير في التحوّل الذي بدت عليه هجمات مليشيا الحوثي، سواء هجماتها على الأراضي السعودية بواسطة الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية أو هجماتها في جبهات الداخل ومحاولتها السيطرة على منابع النفط والغاز. ورغم أنه أثناء الاستعدادات والحشد لمعركة مأرب برزت خلافات بين حسن إيرلو وبعض قيادات المليشيا الحوثية، وفق مصادر إعلامية، لكن إيرلو حسم تلك الخلافات باتجاه شن الهجوم على مأرب مهما كانت كلفته البشرية باهظة، وهي كلفة كانت تخشاها مليشيا الحوثيين خوفا من أن تتسبب بإضعافها وانهيارها وبالتالي تتقدم القوات الحكومية صوب العاصمة صنعاء بدون مقاومة كبيرة من المليشيات.

اختار الضابط في الحرس الثوري الإيراني، حسن إيرلو، محافظة مأرب لتكون باكورة مهامه العسكرية في اليمن، باعتبارها "مركز الثّقل" للسلطة اليمنية الشرعية، ويُقصد بمركز الثقل لأي طرف، المكان الذي يتمركز فيه الجزء الأكبر من القوة العسكرية والإرادة القتالية وتتوفر فيه مصادر القوة المالية، ويعد تحليل وتمييز مراكز الثقل الخطوة الأولى في التحليل العسكري الإستراتيجي لمعرفة مركز الثقل للطرف الآخر وعموده الفقري الذي ترتكز عليه جميع النشاطات العسكرية وتحديد نقاط الضعف ونقاط القوة، وتوجه نحوه كافة القوات الممكنة بغرض تدميره وتحييده، ولذا، رأى إيرلو أن تحييد مركز الثقل للحكومة الشرعية هو بداية النصر للحوثيين وللمشروع الإيراني في اليمن.

جمعت خطة إيرلو لاقتحام مدينة مأرب بين فكرة الإمام الخميني في ثورته ضد شاه إيران وبين فنون القتال الحديثة، ففكرة الخميني في ثورته ضد شاه إيران بدت واضحة في معركة مأرب من خلال اعتماد الحوثيين على الكثافة البشرية الهائلة وأرتال المقاتلين غير النظاميين المتجهين صوب مأرب، أو ما يطلق عليه محليا "الأنساق البشرية"، وكان مبرر الخميني لاعتماد هذه الفكرة في ثورته ضد شاه إيران، عام 1979، أن أرتال المقاتلين من الشباب والمراهقين الثائرين والمتحمسين تحقق نصرا سريعا ضد الطرف الآخر أفضل مما تحققه الجيوش النظامية، لأن الجيوش قد تتراجع وتستسلم إذا أحست بقرب الهزيمة، بينما الأرتال البشرية المتحمسة لا تتراجع حتى وإن فنيت جميعا.

وفيما يتعلق بالفنون القتالة الحديثة، فإن خطة إيرلو اقتضت أن توجه مليشيا الحوثيين كل قدراتها التسليحية والبشرية عبر أقصر الطرق نحو مدينة مأرب مباشرة وصولا نحو منابع النفط والغاز، كون المدينة وما حولها تمثل مركز الثقل الرئيسي للحكومة الشرعية، والإرادة القتالية ضد الحوثيين هناك هي الأقوى، ما يعني أنه في حال السيطرة على مأرب فإن السيطرة على غيرها ستكون أهون وأقل كلفة.

ويبدو أن إيرلو عندما وضع خطته المحكمة للحوثيين للسيطرة على مأرب كان يعتقد أن الجيش الوطني ليس لديه أي خبرات عسكرية وأنه يشبه مليشيا الحوثيين البدائية، ولعل ذلك هو ما جعل مليشيا الحوثيين تؤكد في بداية المعركة أنه لديها خطة محكمة للسيطرة على مدينة مأرب ومنابع النفط والغاز في المحافظة خلال أيام معدودة، لكن معرفة الجيش الوطني بخطة الحوثيين للسيطرة على مأرب، جعلته يتعامل مع تلك الخطة بخطة مضادة، مما مكنه من الصمود والاستبسال وتكبيد الحوثيين خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، رغم ضعف إمكانياته التسليحية وعدم إسنادة بجدية من قبل التحالف بقيادة السعودية ومحاصرته من شراء الأسلحة.

- كيف صمد الجيش الوطني؟

بعد أن تبيّن للجيش الوطني خطة الحوثيين للسيطرة على مأرب، المتمثلة في التقدم نحو المدينة من أقصر مسافة وتركيز الهجوم على المواقع الرئيسية للجيش مع التحرك السريع يمينا وشمالا بغرض إرباكه لتحقيق اختراقات بسهولة، واجه الجيش تلك الخطة بخطة دفاع مناسبة تتمثل في التمركز القوي حول مدينة مأرب ومنابع النفط والغاز في المحافظة، وتوظيف التضاريس المحيطة بالمدينة لصالحه والتحكم بها، وعدم الالتفات للتنقل السريع للحوثيين يمينا وشمالا والإعلان عن تقدمهم في مساحات صغيرة تبعد عن أماكن تموضعه بهدف استدراجه من مواقعه الرئيسية إلى أماكن بعيدة لإحداث ثغرات يسهل النفاذ منها، وبالتالي إحداث اختراقات خطيرة تمكن المليشيات من تحقيق هدفها بالسيطرة الكاملة على المحافظة.

استمرت المعارك على هذا المنوال لمدة تسعة أشهر، وهي مدة كافية لجعل مليشيا الحوثيين تدرك أنه ليس بإمكانها التقدم نحو مدينة مأرب والسيطرة الكاملة على المحافظة، وأن استمرار المعارك على هذا المنوال يعني مزيدا من الإنهاك والخسائر البشرية التي تبدو كارثية بكل المقاييس، لذلك لجأت إلى الخطة الثانية وهي السيطرة على المديريات والمناطق الواقعة في الأطراف الهشة لمحافظة مأرب، التي لا تتواجد فيها قوات من الجيش الوطني، والمقاومة الشعبية فيها ضعيفة عددا وعدة، حيث سيطرت المليشيات على مديرية العبدية بعد حصار خانق، ثم سيطرت على أجزاء من مديرية الجوبة، ودخلت مديرية جبل مراد بدون قتال بعد اتفاق مع الأهالي، والسيطرة على هذه المديريات بعد فشل التقدم نحو مدينة مأرب ومنابع النفط والغاز لا يعدو كونه مجرد نصر بطعم الهزيمة.

الخلاصة، لقد فشلت مليشيا الحوثيين فشلا ذريعا في معركتها للسيطرة على مدينة مأرب ومناطق المحافظة التي تتواجد فيها الثروة النفطية والغازية، وتكبدت خسائر بشرية ومادية كبيرة بدون أي مكاسب ولو محدودة، وخطتها البديلة -وفقا لفنون الحرب التي تُدَرّسها الأكاديميات العسكرية- أنه في حال الفشل في القضاء على مركز الثقل للخصم وتحييده، فإن الخطة البديلة هي تحديد ثغراته ونقاط ضعفه في أطرافه الهشة وقضمه تدريجيا حتى إحكام الحصار عليه وبالتالي إجباره على الاستسلام.

لكن الجيش الوطني الذي أحبط خطة المليشيات للسيطرة على مركز المحافظة ومنابع ثروات النفط والغاز فيها، فإنه قادر على إحباط خطتها الثانية، مع ضرورة إسناده من قبل الألوية العسكرية التابعة للسلطة الشرعية في محافظات عدة، وتحريك مختلف الجبهات لإرباك المليشيا الحوثية والانتقال من الدفاع إلى الهجوم، ذلك أنه لو تحركت مختلف الجبهات بجدية، سيكتشف الجميع أن مليشيا الحوثيين أضعف مما هو متوقع، وأنها تستخدم العنف ضد المدنيين للإيحاء بأنها قوية، بينما الحقيقة هي أنها تستمد عوامل بقائها من انقسامات الصف الجمهوري وتخاذله، وتآمر التحالف السعودي الإماراتي لتدمير البلاد.

تقارير

الحرب الإيرانية الإسرائيلية.. كيف يمكن قراءة ما يحدث الآن وما يمكن أن يتطور إلى حرب إقليمية شاملة؟

اندلعت خلال الأيام الأخيرة واحدة من أكثر جولات الصراع خطورة، بين إيران وإسرائيل مع تنفيذ ضربات جوية إسرائيلية استهدفت شخصيات إيرانية على مستوى عالٍ من الأهمية وعمق المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية.

تقارير

كيف ستعيد الضربات على إيران تشكيل مسار الصراع في اليمن؟

تشكل الضربات الأخيرة، التي تنفذها دولة الاحتلال الإسرائيلي ضد إيران، والرد الإيراني، منعطفا كبيرا وربما حاسما في مسار الصراع الإقليمي الذي اشتدت وتيرته منذ عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2024، خصوصا في حال استمرار تلك الضربات لمدة زمنية طويلة، وتمكُّن إسرائيل من تدمير البنية التحتية للبرنامج النووي الإيراني ومصانع إنتاج الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة وغيرها.

تقارير

ما مكاسب الحوثيين المحتملة وخسائرهم من الحرب الإيرانية الإسرائيلية؟

لم تكتفِ ميليشيا الحوثي بما أحدثته من دمار نتيجة حربها على اليمنيين، وانقلابها على السلطة الشرعية، وإدخالها البلاد في حرب داخلية مدمرة ومعقدة، بل جرّت اليمن إلى المعتركات الإقليمية، وأصبح البلد يدفع فواتير صراعات لا ناقة له فيها ولا جمل، مما تبقّى له من هامش للحياة.

تقارير

في لحظة اشتعال إقليمي.. لماذا تبدو الشرعية اليمنية وكأنها خارج السياق؟

في مطلع الشهر الجاري، عاد رئيس الوزراء سالم بن بريك برفقة، رئيس مجلس القيادة، رشاد العليمي، من الرياض إلى العاصمة المؤقتة عدن، بوعود بتخفيف معاناة الناس، لكن اليوم عدن تغلي بالغضب، نساء يخرجن إلى الشوارع للمطالبة بأبسط مقومات الحياة، لا كهرباء لا مياه والعملة المحلية تواصل الانهيار، وأمام هذا الانهيار، فإن الحكومة التي حضرت بلا أدوات ولا خطة، تغيب عن مواجهة التزاماتها الحقيقية.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.